فلاش بريس = محمد الأشهب
موت السياسة
قتل السياسة في بعدها الضيق، قد يصبح مطلوبا من أجل ميلاد مفاهيم وممارسات جديدة. ففي تطورات المشهد أن الدستور الذي صدق عليه المغاربة في صيف العام 2011، أسهم إلى حد كبير في فضح وإزالة الشوائب التي تعتري الممارسات المنغلقة، إداريا وحزبيا وعلى جميع المستويات.
كانت نخب حزبية وثقافية تشتكي من هيمنة ما تصفه بـ «المخزن» الذي ينفرد بالقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يعد أمامها اليوم أي حائط مبكى لمعاودة الجهر بالشكوى، طالما أن الدستور حدد الصلاحيات والسلط ورسم معالم توجهات دولة القانون والمؤسسات، لكن المفارقة أنه في الوقت الذي انفتحت آفاق واسعة أمام الممارسات السياسية، في نطاق ربط المسؤولية بالمحاسبة والإعلاء من دور المعارضة البناءة، وتمكين المجتمع المدني من روافد الرقابة والمساهمة في صنع القرارات، انحازت سلوكات حزبية إلى ما هو أقل من الدور المنوط بها. أكان ذلك على مستوى رئاسة الحكومة ومكونات أغلبيتها، أو في نطاق المعارضة التي انجذبت بدورها إلى ساحة المنافسات الانتخابية، محدودة الآجال، بدل طرح بدائل واقعية وطموحة.
إذا كان من ميزة لدستور فاتح يوليوز هي أنه وضع المسؤوليات في إطارها المحدد، على مستوى المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية وغيرها، فإنه أنهى «أسطوانة الشكوى» بدليل أن ما يطلبه الفرقاء في المعارضة هو مجرد الاحتكام إلى مضامين الوثيقة الدستورية، لا أقل ولا أكثر، فيما تقول الأغلبية أنها بصدد تنزيل آلياته التنظيمية على مراحل، غير أن هذه المضامين قبل أن تكون قوانين وإجراءات، هي ثقافة في جوهرها وبنائها ومسؤولياتها.
معنى ذلك أن السياسة إن كانت تتوخى حيازة أغلبيات، عبر صناديق الاقتراع، لتمكين الأحزاب من تنفيذ برامجها، فإنها تصبح وسيلة في التأطير والحوار ومد قنوات التواصل، ولم ينتبه الفرقاء السياسيون إلى أن أخطر ما يهدد العملية السياسية هو العزوف عن الاقتراع لا يرتبط في أسبابه بتداعيات الأفعال التي توخت تبخيس العمل الحزبي ومحاولات النيل من مقاصده فقط، ولكن بنوعية الممارسات التي أفرغت الميدان إلى حد ما أمام فعاليات المجتمع المدني، علما أن الأخير ليس نقيضا للحزب بل مكملا لنقائص العمل السياسي.
في انتخابات البلديات المقررة العام القادم، تبرز إشكاليات في غاية الأهمية، فهي إن كانت تمس القضايا المباشرة لمعاناة المواطنين في المدن والبوادي، من حيث الافتقار إلى الخدمات والتجهيزات وصرف الموارد في عمليات التسيير، بدل الاستثمار. فإنها على صعيد مواز ترتبط بالقدرة على تحويل مجلس المستشارين(الغرفة الثانية في البرلمان) إلى فاعل اقتصادي واجتماعي، لا يتنافى ومجلس النواب في الصلاحيات والاختصاصات، وإنما يتكامل معه، عندما يلعب دور المحفز الاقتصادي، عبر طرح المبادرات في مقترحات القوانين ذات الارتباط بهذه الصلاحيات.
بين مجلس المستشارين ومجالس البلديات ومجالس الجهات تكتمل، أو يفترض أن تتسع رقعة الهرم الديمقراطي. فالجهة إنما تراد كآليات لتعزيز الديمقراطية الترابية، عبر نقل الاختصاصات والاقتراب أكثر إلى قضايا الأقاليم والجهات والعمل بوتيرة مسرعة في الإنجاز الذي تحد منه الإجراءات الإدارية الروتينية. وطالما أن الأولوية تعطى اليوم لمفهوم الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، في ظل ملائمة الإصلاحات الدستورية، فإن دور هذه المؤسسات أن تصبح رافعا قويا في دعم الهرم الديمقراطي.
ليس من خلال التنابز بالألقاب والسقوط في مزالق المهاترات وتحويل الاجتماعات البرلمانية إلى «سيرك» متنقل، يمكن للديمقراطية أن تتطور. وليس من خلال الإبقاء على الهاجس الانتخابي الذي يروم حيازة المزيد من المقاعد، على حساب طرح البدائل، يمكن للتجربة الديمقراطية أن تتطور وتتفاعل داخليا وخارجيا. فالمغرب يواجه تحديات إقليمية، وإلى جوارها، كما في محيطه الكبير تتوالد أزمات ونزاعات، لا سبيل لتلافي تأثيرها السلبي، إلا من خلال التمسك بفضيلة الحوار الديمقراطي وبالأخلاق الديمقراطية التي تسمو فوق الحسابات الضيقة، فالسياسة تموت حين تتراجع المبادرات وتغلب الحسابات الضيقة. لكن الدستور حين أقر القطيعة مع أنواع الممارسات التي كانت تعيق الإقلاع الديمقراطي، إنما كان يروم خلق الأرضية الملائمة. ولا يمكن للاعبين غير مدركين لأهمية هذا الاختيار أن ينقلوا مضمون دستور متقدم إلى واقع متقدم. غير أن ما يفسد السياسة يمكن أن يتحول إلى عنصر إصلاح لدى إدراك أن السير في الاتجاه الخطأ لا يقود إلى الفلاح.
ساحة النقاش