المساء = عبد الله الدامون
عامِلونا مثل أبقار هولندية لكي نعطيكم حليبا أكثر
العدد :2499 - 11/10/2014
هناك وصلة إشهارية طريفة ومعبرة، تـُظهر العناية الفائقة التي توليها هولندا لأبقارها، إلى درجة أن كثيرا من الناس في العالم المتخلف،ونحن طبعا في قلب هذا العالم، صاروا يتمنون، حقيقة وسخرية، أن يكونوا أبقارا في هولندا عوض أن يكونوا مواطنين في بلدانهم الجائعة والفاسدة.
في هذه الوصلة الإشهارية،تبدو فرقة موسيقية أنيقة ومحترفة وهي تعزف مقطوعات كلاسيكية جميلة للأبقار التي تخرج صباحا للرعي في المراعي الخضراء. ثم تظهر بقرة وهي تستعد لكي تقذف ضربة جزاء أمام حارس بشري محترف.. تقترب البقرة وتركل الكرة، لكن قذفتها تأتي رديئة ومنحرفة عن المرمى وبطيئة جدا، لكنها تلك ليست مشكلة، لأن أشخاصا يأتون جريا ويرفعون المرمى ويحولونها نحو الاتجاه التي ذهبت إليه الكرة، فتستقر الكرة في شباك المرمى وتكون البقرة بذلك قد سجلت ضربة الجزاء، ثم ترتفع التصفيقات البشرية لهذه البقرة العبقرية. وفي نهاية الوصلة الإشهارية تظهر عبارة تقول «هكذا نُدلـِّل أبقارنا لكي تعطينا حليبا أكثر ولحما أجود».
كثيرون من الذين شاهدوا تلك الوصلة الإشهارية أحسوا بغيرة شديدة من تلك الأبقار. صحيح أن الأبقار الهولندية في النهاية تموت وتعطي لحمها طعاما للآخرين، لكنها تبقى أفضل من البشر الذين يتم أكل لحومهم وهم أحياء. هكذا تبدو الأبقار الهولندية أحسن حالا بكثير من البشر عندنا، لذلك كثيرا ما يتنهد المواطن الغاضب ويقول «ألا ليتني كنت بقرة في هولندا عوض أن أكون مواطنا في المغرب».
هولندا تدلل أبقارها كثيرا حتى تعطيها الكثير من اللحم والحليب، وهذا دليل على أن الكائن، حيوانا كان أم بشرا، لا بد من تدليله والعناية به حتى يعطي أحسن ما عنده، لذلك نتمنى لو أن مسؤولينا، الذين يربوننا في حظائرهم الواسعة، يهتمون بنا قليلا كما تفعل هولندا بأبقارها، ومقابل ذلك نعدهم بأننا سنعطيهم الكثير من اللحم والحليب، وأشياء أخرى لا يعلمونها.
لو أن الذين يحكموننا عاملونا كأبقار هولندية لاستفادوا منا أكثر بكثير؛ لو فعلوا ذلك لوجدوا فينا الكثير من اللحم والكثير من الحليب والكثير من الجلود التي يصنعون بها أحذيتهم الفاخرة ومعاطف زوجاتهم الخبيثات اللئيمات.
لو أن مسؤولينا دلّلونا كما تدلل هولندا أبقارها لوجدوا فينا الخير العميم من لحم وحليب، وأيضا «البعْبعة» الخالصة التي تخرج من القلب. لكن المشكلة أن مسؤولينا عوض أن يتبعوا معنا السياسة البقرية الهولندية، طبقوا معنا تلك النظرية الحمقاء التي تقول «جوّعْ كلبك يتبعك»، وها نحن جعنا كثيرا ومع ذلك لم نتبعهم، بل نتحين الفرصة لكي نعضّهم، ونتمنى أن تأتي تلك الفرصة ونكون مصابين بالسعار حتى تكون عضّتنا مسك الختام.
في الماضي، كان الملك الراحل الحسن الثاني يُدلّلنا ويقول لنا: شعبي العزيز. لكن المشكلة أن كل أفعاله كانت تسير في الاتجاه المعاكس. لقد كنا شعبا عزيزا بالشفوي، بينما كنا شعبا منبوذا تطبيقيا وواقعيا، فلا مستشفيات ولا مدارس ولا جامعات ولا ملاعب ولا حدائق ولا قوت ولا كرامة.. ولا أي شيء على الإطلاق. ولو أن الملك الراحل دلّلنا فعلا لوجد فينا أفضل مما تجده هولندا في أبقارها.. كان سيجد فينا اللحم الكثير والحليب الغزير، لكننا بقينا جائعين وخائفين، ففعل فينا الفاسدون ما تفعله الضباع والنسور في فرائسها، تفترس اللحم وتسحق العظم.
أن نتمنى العيش مثل أبقار هولندية فهذا ليس عيبا على الإطلاق، فتلك الأبقار تعيش أفضل من البشر، وتثقل بأرطال اللحم وتعطي الكثير من الحليب، والناس لا يأكلون لحمها إلا بعد أن تموت، أما نحن فإنهم يأكلون لحمنا ونحن أحياء؛ ما الأفضل إذن.. أن نكون أبقارا هولندية أم بشرا كما نحن الآن؟
لو أن مسؤولينا دلّلونا كما يجب وأعطونا حقوقنا المادية والمعنوية لاستفادوا منا أكثر بكثير مما لو جوّعونا، فالشعوب عندما تشبع وترتاح فإنها تستهلك أكثر؛ ولو أنهم أعطونا ما نستحقه لاشترينا منهم الكثير ولاغتنوا أكثر على حسابنا ولملؤوا أبناك المجموعة الشمسية كلها بالأموال والذهب.
لو أنهم عاملونا كأبقار هولندية لما اضطررنا إلى العمل حتى سن الخامسة والستين، لأن الأبقار المواطنة هي التي تعطي ما عندها في السن المناسبة ثم تترك مكانها لأبقار شابة، أما الآن فإننا نعمل حتى نموت، والأجيال الجديدة تتعطل حتى تشيخ، والأبقار التي تشيخ لا تعطي سوى اللحم «القاسح» والحليب المر.
لو أطعمونا جيدا ودرّسونا جيدا وجعلونا نحلم جيدا ونسافر جيدا ونربح جيدا، لربحوا معنا جيدا. لكنهم جوّعونا جيدا وجهّلونا جيدا وجعلونا نرى الكوابيس جيدا ونتقوقع جيدا ونخسر جيدا، لذلك فإن المستقبل ينذر بالخسارة الشاملة لنا ولهم.
الخسارة الكبرى قادمة.. لا تشكّوا في ذلك.
ساحة النقاش