فلاش بريس = محمد الأشهب
أكبر من حدث فني
ماذا يعني تدشين متحف فني في ظرفية عصيبة، تحبس الأنفاس إزاء تغول العنف والإرهاب واستباحة أرواح الأبرياء، من مختلف الأجناس والأعراق والديانات؟
حدث تدشين الملك محمد السادس متحف الفن الحديث الذي يحمل اسمه، يزيد في توقيته ودلالته عن إيلاء رعاية خاصة للثقافة والفنون والإبداع، فالشعوب لا تعيش بالغذاء ورفاهية أو شظف الحياة، ولكنها تقتات على الإبداع الذي يحررها من كل القيود ويسمو بها إلى درجات عالية من التكريم. ودلت وقائع وأحداث على أن استهداف الثقافة يأتي في مقدمة أشكال التعسف ومحاولات الإجهاز على الهوية، عندما يحل الاستعمار بأرض لاستنزاف خيراتها ومواردها. ومنذ هجمات المغول والتتار كان اللجوء إلى إحراق الكتب وإتلاف الكنوز الفكرية ومحو الذاكرة.
شيء مماثل من هذا القبيل يحدث الآن، أثناء الحروب والاضطرابات يصار إلى سرقة وتهريب التحف والوثائق التي تخصصت عصابات دولية في أساليب نهبها عبر طرق ملتوية، والقاسم المشترك بين التنظيمات الإرهابية، على اختلاف مسمياتها أنها تبدأ بالتراث. فقد سارعت حركة طالبان إلى هدم تماثيل في أفغانستان، وانبرت حركات متطرفة إلى تحطيم المعابد والأضرحة والمزارات في شمال مالي، فيما أجهزت «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا» على كل مقومات التعايش والتسامح ومظاهر التعددية الإيجابية، عدا أن القتل على الهوية سمة مشتركة بين كافة الحركات المسلحة الخارجة عن القانون.
هذا التلاقي الذي يشجعه منطق العنف والتعصب ورفض الآخر، دليل إضافي على أن الإرهاب موجه ضد إنسانية الإنسان، لأن الموروث الثقافي عبر أشكاله المختلفة قيمة حضارية، قبل أن يكون تعبيرا عن خصوصيات ثقافية واجتماعية. ولا يختلف تدمير الهوية عن باقي التصرفات الوحشية المدانة، وما ثبت أن الحضارة تقوم على هذا السلوك الذي يتعارض وسمو العقيدة وكرامة الإنسان.
أكثر أهمية من كل الحروب أن الثقافة والإبداع يرتقيان بالذوق والسلوك ويهذبان المشاعر ويغذيان الروح، عبر زرع قيم خالدة تنبني على التعايش والحوار وتفاعل وتلاقح الحضارات، لذلك فإن مبادرة الملك محمد السادس بتدشين متحف الفن الحديث في هذه الظرفية تحديدا تتضمن في ذاتها رسائل بليغة وموحية. إنها دعوة إلى التعايش وترجيح قيم البناء على نقيضها المتمثل في الهدم والسلبية والعصبية والتطرف. ذلك أن صوت التراث الفني لا يقل أهمية عن تحقيق الإقلاع الاقتصادي وبلورة معالم التماسك الاجتماعي، فالإبداع يزدهر عند توافر شروط الاستقرار والسكينة، وإذا كانت أشكال التعبير رهن قدرات الإنسان وسبل نقل معاناته وتجسيد طموحاته، فالقيمة الإنسانية لهذه التجليات هي ما ساعد في انتشار الحس الفني والذوق الرفيع، ومكن المبدعين في شتى أصناف التخصصات من أن يكونوا شهود عصرهم. وآن للمغرب الغني بتراثه وإبداعه وثقافته وتنوعه أن يكون له الإطار الذي يجسد التوجه الثقافي الملازم للمشروع الكبير في البناء المجتمعي. فالمتاحف والمسارح ودور الأوبرا والفرق الموسيقية ومثيلاتها الشعبية كلها روافد ثقافية تتطلب المزيد من الالتفات والعناية. كونها تشكل رأسمالا آخر، من غير الموارد الطبيعية.
في خطابه في مناسبة ذكرى عيد العرش، تحدث الملك محمد السادس عن أهمية الثروة غير المادية، تلك المرتبطة بالرأسمال الإنساني الذي لا يتم عادة احتسابه في تقييم المواد. والثقافة جزء حيوي من هذا الرأسمال. ففي مناسبة سابقة أشار الملك محمد السادس لدى عرضه لحصيلة إجراءات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى ضرورة العناية بالجانب الثقافي، من خلال إقامة دور الأندية ومجالات سير أغوار إبداعات الشباب وتوجههم نحو العطاء الثقافي.
بيد أن الأبعاد المتوخاة من هذا المنظور، لا تتوقف عند تصريف أوقات الفراغ، بل الرغبة في استبدال «ثقافة» اليأس والإحباط والانحراف بثقافة المشاركة وتحمل المسؤولية، وإذا أخذنا بعين الاعتبار مجالات التأثير التي تستقطب بعض الشباب للالتحاق بمناطق التوتر، يتبين بجلاء أن الفراغ الفكري والإيديولوجي من بين العوامل التي تساعد في «تزيين» الصورة المشوهة أصلا. لذلك يبرز دور التربية والنقاء كعنصر هام في حماية الناشئة. وكلما اتسعت رقعة المبادرات الثقافية كلما تم تضييق الخناق أكثر على الأفكار المتطرفة التي تنمو في مراتع الجهل وسوء الفهم والتأويل.
يتجاوز تدشين متحف محمد السادس للفن الحديث إطاره الفني والثقافي، ليندرج في قلب المعركة المفتوحة ضد التطرف والإرهاب، وهذه صيغة أخرى في المواجهة لا تتطلب أكثر من استحضار شروط النهوض بالثقافة والفن والإبداع.
ساحة النقاش