فلاش بريس = محمد الأشهب
كاتالونيا بين الدستور وتقرير المصير
في استفتاء كاتالونيا لا يرتكز النقاش حول نتيجته التي يمكن أن تميل إلى ترجيح الانفصال أو الوحدة. ولكن حول دستوريته. بصيغة أخرى هل تكون الغلبة لسمو الدستور الإسباني أم للمبادئ الكونية المتعارف عليها في مسألة تقرير المصير؟
تأسيسا على ذلك، يبدو أن هذا المبدأ الذي أثار المزيد من الجدل، وظل يروق للكثيرين في حل إشكاليات الانتماء الموزعة بين خياري الوحدة والانفصال، لم يعد بنفس الدرجة من الإلزام عندما يتعلق الأمر بالحسم في قضايا تعانيها الدول الغربية. فهو سلاح ذو حدين يستعمل للإجهاز على وحدة الدول، كما يستخدم في غير مقاصده التي تطال احترام الإرادة. ولم يكن ليتخذ هذا المنحى لولا إساءة تأويله في أحيان كثيرة.
المبدأ في حد ذاته لا جدال حوله، كونه أداة في التعبير عن الإرادة بالنسبة للشعوب التي سلبت إرادتها، وفرض عليها الاستعمار والاحتلال،فقد كان السبيل نحو استقلال الجزائر التي كانت فرنسا ترى أنها فرنسية، على رغم البعد الجغرافي والتمايز الهوياتي، لكنه لم يطبق حرفيا في الحالة الفلسطينية، على رغم الإقرار بأن الأمر يتعلق باحتلال واستيطان وتعنت، لا سابق له في التجارب الإنسانية والعلاقات الدولية. بيد أن استغلاله كوسيلة لتكريس البلقنة وتمزيق وحدة الدول ليس مستساغا.وقد تنبهت الأمم المتحدة إلى مخاطر هذا الاستغلال منذ زمن بعيد، فأقرت في توصية تحمل رقم 1514 أن وحدة الدول سابقة على استفتاء تقرير المصير، وأن هذا المبدأ عند مقاربته بخيار الوحدة التي هي الأصل يسقط تلقائيا، وبالتالي لا يمكن استعماله تحت أي ذريعة، عندما يتعلق الأمر بترجيح خيار الوحدة. ومع ذلك فقد ظل الالتباس يحيط بالنزاعات الإقليمية التي أريد لمبدأ تقرير المصير أن يكون فيها حدا مفصليا.
المسألة تطرح على صعيد آخر، هل تكون الأسبقية لسمو الدستور كلما تعلق الموضوع بقضايا محلية، وإن كانت ذات نزعة خاصة، أم تكون لمبدأ تقرير المصير ذي الحمولة الكونية؟ أبعد من ذلك هل أن الاستفتاءات تصلح للحسم في إشكاليات ذات طابع وطني، حين تقتصر المشاركة فيها على المطالبين بالانفصال في رقعة جغرافية محددة، أم أن المشاركة الوطنية الشاملة تفرض نفسها في قضايا مماثلة، على اعتبار أن الانفصال أو تعزيز خيار الوحدة تهم كافة مكونات الدولة المعنية بهكذا استشارة.
لم يدر بأذهان الذين اخترعوا هذه الوصفة، أنه قد يأتي زمن ترتد فيه على مخترعيها، لذلك فالإشكاليات التي تواجهها إسبانيا في مواجهة النزعة الانفصالية في كاتالونيا، لن تكون الأولى أو الأخيرة من نوعها، فقد استسلم العقل الأوروبي في تعاطيه ودول الجنوب. وكذا مع البلدان الخارجة من رحم المعسكر الشرقي المنهار إلى إغراءات تقرير المصير. وصار يشجع استقلال أجزاء من دولها، يقينا منه أن ذلك سيجلب المنافع لأوروبا الغربية، ولم يكد يغادر هذه الحقبة، حتى اندلعت أزمات في أركان بيته الداخلي، تتخذ من استفتاءات تقرير المصير حصان طروادة.
حدث ذلك في اسكوتلندة، وإن خرجت المملكة المتحدة منتصرة في مواجهة ضغوط الانفصال والاستقلال، ومن المرجح أن تحذو مناطق أخرى في إيطاليا وغيرها نفس الاتجاه، في حال كان تصويت كاتالونيا لفائدة الانفصال، ولا يبدو أن دولا أوروبية عدة بعيدة عن الانجذاب لهذه العدوى، ما يعني أن الانتصار لمبدأ تقرير المصير لا يكون دائما عادلا ومنصفا، بل قد يصبح تعسفيا وجائرا. وقد حان الوقت لإعادة التفكير في
مدى ملاءمة بعض المبادئ والقيم المتداولة لرهانات العصر، ففي الوقت الذي يسود فيه منطق الوحدة والتكتلات الاقتصادية والبشرية الكبرى، تنفلت نزعات محدودة في اتجاه التجزئة والبلقنة.
المؤكد أن خلفيات هذا التوجه تستند إلى معطيات تاريخية وعرقية ولغوية، لكنها مهما بلغت درجات خصوصياتها لا تبيح الإجهاز على وحدة الدول القائمة، لأن ذلك يفسح المجال أمام مزيد من التشتت والتفتيت. ومهما تكن تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي حتمت الانكفاء وإحياء النعرة الشوفينية، فإن التغلب عليها لا يكون بالتجزئة، بل بترسيخ الوحدة.
كافة السيناريوهات التي رسمت لتمزيق دول الجنوب، على أسس عرقية وطائفية ومذهبية تواجه الباب المسدود، ليس لأنها فشلت في تحقيق ما وراء الصورة الظاهرة، ولكن لأن العالم الغربي بدوره بات قاب قوسين أو أدنى من أن يحفر قبر وحدته.
والمؤمل أن تكون الحالة الإسبانية درسا بليغا، أقله لناحية تغليب السند الدستوري الوطني على نزعة الانفصال، مهما ارتدت من لبوس، وليس مثل المعاناة من مخاطر الانفلات، ما يدفع إلى التأمل في أوجه الصورة.
ساحة النقاش