فلاش بريس = طارق أوشن
الدولة العقيمة
لم يكن غريبا أن ينطقها «زعيم» حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن هذه أيضا «معارضة صاحب الجلالة» خلال برنامج تلفزيوني، أراد له المشاركون فيه أن يفتتح دخولا سياسيا مغربيا، بدأته الحكومة بالاختلاء بأعضائها على حساب دافعي الضرائب في زمن «التقشف»، لينهيه ثلاثة «زعماء» أحزاب ووزير على طاولة «مباشرة معكم» في مشهد سوريالي لا يبشر بخير. هكذا صار الحرج مرفوعا عن رئيس الحكومة عبد الاله بنكيران في خلطه بين رئاسة الحكومة ولعب دور المعارضة في الآن ذاته، وتأكد بالملموس أن جلباب دستور 2011 واسع بالفعل على الطبقة السياسية الوطنية، بما يهدد التجربة المغربية في الصميم. فعندما يصير الفارق بين الأغلبية والمعارضة صفرا على اليسار، فإن ذلك تجل من تجليات «الدولة العقيمة» التي تجعل المغرب مهددا بأقسى من «السكتة القلبية» التي أوصلت جزءا من هذا اليسار إلى الحكومة قبل عقدين من الآن.
في عدد من الخطابات، أعلن جلالة الملك، بما لا يدع مجالا للمزايدات، أنه يقف على مسافة واحدة من مكونات المشهد الحزبي الوطني. لكن عقم الطبقة السياسية، التي تربت على مدار سنوات على «الريع الانتخابي» ، جعلت هذه الأخيرة في موقف انتظار دائم لإشارات القصر ومبادراته للمسارعة إلى المباركة والتبني. ويا ليتها سعت، ولو لمرة واحدة، إلى ترجمة مغزى الإشارات والمبادرة الفعلية كل من موقعه وضمن ما يمنحه الدستور من هامش كبير للإنجاز.
شكل وصول حزب العدالة والتنمية المغربي، كما كثير من الحركات المصنفة إسلامية، إلى المشاركة في تسيير الشأن العام، مناسبة حقيقية لإنضاج تجربة التداول السلمي على السلطة في مختلف البلدان المعنية بـ«التغيير». وكان أن بدت التجربة المغربية الأقرب إلى تحقيق نموذج قابل للتصدير. لكن الحزب الأغلبي اختار، كما سلفه الاتحاد الاشتراكي، التحجج بـ«الدولة العميقة» المحاربة للإصلاح مقابل «جيوب مقاومة التغيير» الاتحادية. وبدل السعي للمواجهة، إن صدقت تلك المبررات، اختار بنكيران لغة «عفا الله عما سلف» في تناغم مع حديث اليوسفي عن «عدم السعي لمحاربة الساحرات». لكن الواضح من خلال التجربتين أن ما يتهدد المغرب هو عقم الأحزاب عن ابتداع سياسات تدبيرية بديلة وبعيدة عن القالب الجاهز الممثل في اللجوء للاقتراض الخارجي والداخلي أو رفع الأسعار أو السعي لفرض الضرائب على الطبقات الأضعف والأهش.
صارت «الدولة العميقة» شماعة تعلق عليها الحكومات عجزها على تحقيق الوعود الانتخابية، سعيا لنقل المعركة من مجال التنمية إلى متاهات الصراع الحزبي الضيق مع بعض مكونات المعارضة، التي لم تسلم هي الأخرى من استعمال ذات المصطلح في المواجهة وكأنها لعبة أطفال تناسوا، عن علم أو جهل، أنها مصلحة الوطن يتلاعب بها على مرأى ومسمع العالمين. الدولة العميقة، إن وجدت، ليست عيبا أو تهديدا للبلد، بل هي عماد البناء الذي يؤشر على تماسك الدولة وأجهزتها الموضوعة دستوريا رهن إشارة الجهاز التنفيذي لتحقيق مصالح المواطنين. لكنها محاولات مستميتة من بعض من يعيشون هنا جسدا وعقولهم هناك، يسترقون السمع وينقلون المصطلحات قفزا على حقيقة «الخصوصية المغربية» التي لا ينكرها إلا جاحد. وفي مقابل هذه «الدولة العميقة»، دولة عقيمة يسيطر فيها بعض «الزعماء» على الوزارة والحزب والفريق البرلماني والنقابة ومختلف القطاعات الموازية، ولم يعد يفصلهم عن القطاع النسائي غير عمليات «تحول جنسي» تسمح لهم بالانتساب إلى صف «الحريم السياسي». وفي نفس الدولة تخصص كوطا للشباب والنساء في عملية «تجميل» للمؤسسات ورفعا للحرج على «ذكورية حزبية» مزعومة. وفيها أيضا نجد الوالد والزوجة والأبناء والأعمام والأخوال وذرياتهم متجاورين داخل المؤسسة التشريعية، دونا عن بقية «المناضلين» ومريدي الأحزاب، لا فرق في ذلك بين يسار يدعي التقدمية أو يمين يوصف بالرجعية. وفيها أيضا تتناوب فلتات الزمان على الوزارات والمؤسسات العمومية والسفارات تتويجا للفاشلين وتغييبا كليا لمبادئ الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، بل إن البعض منهم يجمع بين الرئاسات والمسؤوليات، وكأنه العقم أصاب نساء وطني ومنعهن عن إنجاب الكوادر والأطر وهم الموزعون في بقاع الدنيا يتحملون المسؤوليات الجسام ولو في «دولة الخلافة» الوليدة. وفي الدولة العقيمة تخرج الخرفان والماعز للاحتجاج على الساسة بعد مسيرة الحمير الخالدة تعويضا لتشرذم نقابي لم تعد دعواته للإضراب تخيف أو تغري أحدا.
في أحد حواراته صرح الملك الراحل الحسن الثاني أن «لو لم تكن هناك من معارضة في هذا البلد لخلقتها». ولعل وجود تلك المعارضة كان واحدا من أسباب «مناعة» جسم الدولة المغربية الموعود بأن تنخره الجراثيم ويعتريه السقم بعد تجريب قطع الغيار المتوفرة في غياب بديل متجدد في الأفق يقينا شر الدولة العقيمة بالشكل الذي بدا للمغاربة جليا وواضحا و«مباشرة معكم».
ساحة النقاش