فلاش بريس = محمد الأشهب
عبرة اسكوتلندة
لم تعرف دول ناشئة ماذا تصنع باستقلال خرج من رحم الانفصال. في تيمور الشرقية وجنوب السودان وحتى كوسوفو، لم يكن الاستقلال نابعا من معطيات حتمية، بل نتاج نزاعات وصراعات عمقتها فوارق وخلفيات دينية وعرقية وطائفية. فقد نشأت الظاهرة، في ظل حروب لم تقد إلى تكريس خيار الوحدة وجعله فوق أي اعتبار آخر.
المثل الذي قدمته اسكوتلندة كان رائعا، لأنه من حيث المنهجية الديمقراطية وأسلوب إدارة الخلاف والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ذهب إلى أبعد مدى في الإذعان إلى الإرادة الشعبية. لم يهدد أحد بحمل السلاح لأن أغلبية السكان اختارت أن تقول لا للانفصال والاستقلال عن المملكة المتحدة. ولم يتدخل أي طرف خارجي في تأليب جزء من الشعب على الجزء الآخر، لغاية فرض الهيمنة والتوسع، ولم يشكك أحد في نزاهة الاستشارة الشعبية التي شدت قلوب وعقول الجميع. فثمة تقاليد ديمقراطية ازدادت رسوخا ومتانة، أبانت أن خيار الوحدة ينتصر في نهاية المطاف.
اسكوتلندة، تتمتع بحكم ذاتي وتتوفر على موارد طبيعية هامة، من قبيل نفط بحر الشمال، لكن أعداد سكانها لا يزيد عن خمسة ملايين نسمة في مقابل أزيد من ستين مليونا موزعين على ويلز وإيرلندة، حيث تميل الغلبة الوحدوية على ما عداها من خيارات. لكن إقرار حكومة رئيس الوزراء البريطاني دافييد كاميرون بضرورة منح الإقليم صلاحيات أوسع لاستيعاب النزعة الانفصالية، في نطاق تفهم المطالب التي تشمل النظام الضريبي والخدمات الصحية ومجال القضاء وصون خصوصيات الإقليم أضفى بعدا هاما على ذلك الخيار.
النقاش في هذه المسائل يتسم بروح ديمقراطية عالية، هي نفسها التي عززت الثقة في خيار الوحدة، وبالتالي فالتجربة البريطانية بهذا المستوى سيكون لها انعكاس على مثيلاتها في الفضاء الأوروبي، خصوصا في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، علما أن هذه الأخيرة سبقت في تكريس الوحدة عبر ضم الشطر الشرقي لألمانيا التي كانت دولة قائمة الذات، ما نتج عنه أن الاقتصاد الألماني أصبح مضرب المثل في القوة والصمود والصلابة، على رغم هزات الأزمات المالية التي ضربت المعاقل الأوروبية وغيرها.
بريطانيا تحذو على نحو يقارب التجربة الألمانية الفريدة في تميزها. فقد شكلت استثناء من بين الأحداث التي نتجت عن نهاية الحرب الباردة. وفي الوقت الذي انهارت دول في المعسكر الشرقي وانبثقت عنها المزيد من الكيانات بتشجيع من بلدان الجوار الأوروبي والتوجه الناشئ على خلفية سقوط الإمبراطورية السوفياتية، قدمت ألمانيا نموذجا مغايرا في تصحيح التاريخ وبناء المستقبل. وصار في الإمكان اعتبار استفتاء اسكوتلندة من ذلك النوع الذي يرجح الوحدة على الانفصال، ما يعاود إلى الأذهان كيف أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت في توصية تحمل رقم 1514، أسبقية الوحدة على مبدأ تقرير المصير. والحال أن الاستشارة الشعبية في اسكوتلندة عززت هذا المنظور بطريقة ديمقراطية، خالية من التشنج والعصبية إلى درجة أن رئيس الحكومة المحلية أقر بهزيمته واستقال، لأن الشعب عارض توجهاته الانفصالية.
سلوك حضاري مثل هذا لا وجود له في بلدان العالم الثالث، لأن بعض الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم فصائل وتنظيمات انفصالية لا يعيرون أي اهتمام للإرادة الشعبية، بل إنهم يعاكسونها أساسا، أكان ذلك عبر محاولات زرع بذور التجزئة والتقسيم، أو من خلال التمادي في الاستهتار بالإرادة الشعبية. فهم في الأصل ليسوا منتخبين ولا يمثلون أي شيء، وإنما فرضوا بغاية أن يكونوا أدوات طيعة بين الأيادي التي تحركهم على أهوائها.
ميزة استفتاء اسكوتلندة أنه حر ونزيه وأديرت منافساته في أجواء عادية. لكن الأهم أنه لا يوجد أي طرف خارجي تحذوه أطماع ما في النيل من وحدة المملكة المتحدة. وقد تنبهت بلدان الاتحاد الأوروبي إلى مخاطر التدخل الخارجي، لذلك بدأت بوادر حل وفاقي للأزمة في أوكرانيا، من خلال منح مناطقها الشرقية حكما ذاتيا، يعتبر من وجهة نظر المتابعين لمسار الأحداث أحسن وصفة ممكنة للمزاوجة بين الخصوصية الثقافية والعرقية ومصالح الدولة الأوكرانية.
ومهما يكن من تداعيات وفوارق بين التجربتين في أوكرانيا وبريطانيا فإن الحلول الحضارية الكبرى للمشاكل تبقى أفضل من تكريس نزعة التجزئة والبلقنة والتقسيم. ففي الفضاء الأوروبي هناك حقائق ثابتة على الأرض مفادها أن وحدة الأوروبيين تبدأ من وحدة دولهم، فيما أن الواقع العربي والإفريقي يشي بعكس ذلك تماما، إذ يسود منطق التفرقة وتفريخ الكيانات غير القابلة للحياة، على حساب خيار الوحدة الذي بات رهانا استراتيجيا، فضلا عن كونه يصون الحقائق التاريخية والقانونية.
ساحة النقاش