فلاش بريس=محمد الأشهب
بين لاوزاريو وبوليساريو
دائما يحمل خبرا أو فكرة أو بيانا، ويطوف على صالات تحرير الصحف القليلة، حيث صداقاته المتواصلة مع الجميع. لا فرق بين المعارضة والموالاة، فالقضية الوطنية تجمع ولا تفرق.. قبل أن يجف المداد الذي كتب به الخبر، يكون إدوار موحا اقتحم مكاتب تحرير صحف أجنبية في باريس أو مدريد أو بروكسيل. وبعض الأخبار لا تكون لها أجنحة تطير بها.
جثة مكتنزة وعقل لا يتوقف عن الحركة. يشعل غليونه المناسب لبدلته ذات الفراشة الداكنة، ويأخذ نفسا عميقا، ثم يعود إلى محور الموضوع الأصلي. لا تستغرقه أي قضية غير الصحراء، فالرجل الذي أسس منظمة «لاوزاريو» لا يستدل على انتمائه إلى الصحراء بمعرفة دقيقة لطبائع وخصال «الرجال الزرق» فقط. ولكن بسلالة متحدرة لم تعرف غير الولاء للمغرب. قد يكون الوحيد الذي اخترق الجزائر في السنوات الأولى لاندلاع النزاع، وكثيرا ما خططت الاستخبارات العسكرية الجزائرية لاغتياله، لكنه كان ذا حدس يشم رائحة الحريق من بعيد. ولم يكن قياديو جبهة بوليساريو يقوون على مواجهته أو النظر إلى عينيه، لأنه يعرفهم واحدا بعد الآخر.
في مؤتمرات إفريقية كانوا يتحاشونه، ولم يكن له شيء يضيعه، وقد ارتمى في بحر الدفاع عن القضية الوطنية، مؤمنا وصادقا وشعلة متقدة لا تهدأ عن الحركة. كان يرى أن الحرب التي تدار في ساحة الميدان، يتعين أن توازيها حرب أشد ضراوة إزاء من لهم الحق في الحديث باسم السكان الصحراويين. لذلك انخرط إلى جانب متحدرين من أصول صحراوية، في إحياء تنظيمات تشمل فصائل المقاومة وخيار التحرير والوحدة، بغاية سحب البساط من الانفصاليين الذين يدعون احتكار تمثيلية لا يتوفرون عليها سياسيا أو قانونيا. وقال لي مرة إن المعركة يجب أن تركز على هذا الجانب، لأن ادعاء بوليساريو الحديث باسم السكان أكبر كذبة في التاريخ وقرصنة لذوي الحقوق المشروعة، يقصد الأهالي المتحدرين من أصول صحراوية الذين اختاروا طريق الوحدة.
كانت «لاوزاريو» ذراعه في النضال، تصدر بياناتها من عمق الصحراء ومن مشارف الحدود مع الجزائر ومن عواصم أوروبية، على مقاس الصراعات الدائرة. ولأنه أمضى فترة من الوقت في الجزائر، فقد كان على إلمام بمخططات المعاكسة. كان مؤسسة متنقلة استفاد من العلاقات الواسعة التي تربط زوجته فريدة موحا بالإعلام ومراكز النفوذ السياسي، إضافة إلى ارتباطه بشيوخ القبائل الصحراوية. وفي غضون ذلك كان يرى أن الصراع في جوهره قائم مع الجزائر. وأن الانفصاليين مهما بلغت بهم المغالاة، فإنهم مغاربة لابد أن يأتي يوم يغيرون فيه اتجاه البوصلة نحو الوحدة.
هل كان خطأ أن الرجل انضم إلى سلك العمال في يوم واحد، رفقة صديقه عمر دودوح الذي كان يقود تيارا وحدويا في مدينة مليلية السليبة. أم أن الرغبة في الاستفادة من تجربته حتمت إضفاء طابع رسمي على تحركاته؟ لكن حركته وتحركاته تراجعت كثيرا، فالقيود والتراتبية الإدارية لا تسمح بالمبادرة إلا في نطاق ضيق. عندما كان متحررا من الاعتبارات، كان إدوار موحا يفعل ما يفكر فيه وما يعتقد أنه عين الصواب. بغض الطرف عن هامش الخطأ الملازم للعمل البشري. وحين أصبح عاملا في الإدارة المركزية قل نشاطه ومبادراته، مع أنه بطبعه كان ميالا إلى المغامرة تستهويه المخاطر.
يقول أحد الفقهاء إن طعم العسل لا يفسد ذوقه إلا الحامض. فبعض الناس ما وجدوا للعمل الإداري الذي يتطلب انضباطا خاصا. وربما كان إدوار موحا من هذه الطينة التي تختنق داخل المكاتب. فالرجل، إضافة إلى تحركاته التي لا تفتر، يقبل على الحياة في ملذاتها ومعاكساتها. لأنه يعرف أن شباك الصيد لا ترمى في اليابسة، ولكن حيث يتدفق الماء والحياة. وعندما أسندت إليه مهمات خارج ما ألفه وتعود عليه لم يحالفه التوفيق. هذا على الأقل ما كان يردده خصومه في الإدارة الترابية. وليس كل ما يحدث في المكاتب المغلقة يكون قابلا للترويج.
كان تعيين عمر دودوح جزءا من عملية أريدت لإفساد مواجهات اندلعت بين مغاربة مليلية والسلطات الإسبانية، أقله لناحية التحكم في مسار الأحداث وعدم تركها عرضة للانتشار. إذ يصبح احتواؤها، فيما أن تعيين إدوار موحا كان مؤثرا إلى نهاية مواجهات من نوع آخر. حيث بدأت الدبلوماسية تنوب عن سياسة إشعال الحرائق. لا يعرف بالضبط إن كان ذلك التعيين جاء على وقع تطورات الأحداث أم أنه كان حدثا معزولا.
المفاجأة أن إدوار سيتوصل يوما بإرسالية توقيفه. لاذ بعدها إلى عزلة أبعدته عن الرفاق. سألت عنه يوما فقيل لي إنه يستريح في بيت صغير في بلدة الهرهورة في ضواحي الرباط، وإن كل طلباته إلى زواره القلائل تشمل قوائم أدوية لتخفيف الألم. هل كان جسديا أم نفسيا لا تنفع معه الوصفات الطبية؟
غاب إدوار موحا عن الواجهة. لعله برفقة كتب ألفها عن قضية الصحراء والعلاقات المغربية – الجزائرية والأوروبية، وشذرات من أيام «مجد النضال». سمعت أنه يقيم في بيت صغير في الدار البيضاء لا تدخله الشمس. كيف لرجل الشمس أن يعيش في ظل العزلة؟ ما أقسى الطبيعة التي لا ترحم. لكن «لاوزاريو» كانت فكرة جميلة في سجل كتاب الوحدة.
ساحة النقاش