عبد العزيز الرماني
صحفــــــي
أحفاد مسيلمة الكذاب
يقولون إن حبل الكذب قصير، فما باله أصبح أطول من اللازم في هذه البلاد، علما أن وسائل الاتصال الحديثة قادرة على أن تجعله أقصر من ذيل فيل.
والكذب في المغرب أصبح صناعة يتقنها سياسيو كل المشارب، وأحزاب كل المآرب والمناصب، الذين جعلوا من الكذب فنا ذا ألوان زاهية تتحول كل خمس أو ست سنوات.
رحم الله محمد السوسدي، أحد مؤسسي مجموعة «لمشاهب» الذي ترك خلفه الكثير من الأزجال المليئة بالحكم، ولعل أجملها يوم قال:
«والعفو يا بابا واش الحق يزول القلوب الكذابة نساونا في المعقول»
يتساءل المتلقي كيف يمكن للإنسان أن ينسى الحق، وينسى الصدق، وينسى القيم الأخرى؟ لمجرد أن آخرين كذبوا عليه وتمادوا في الكذب..
إن وعود الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكومات المغربية لم يتم ضبطها بالشكل اللازم كي لا تضر بتاريخ المغرب ومستقبله، فالكذب أصبح هو القاعدة والصدق هو الاستثناء.
وقد يبدو هذا الكلام سوداويا إن أخذناه من جانب الكأس الفارغ، لكننا حين نطلع عليه من النصف المملوء في الكأس، فسنفهم معنى دعوة الملك في خطاب العرش إلى وضع دراسة حول الفترة من 1999 إلى اليوم.
لعل المغاربة استساغوا الكذب وتعايشوا معه لعشرات السنين، بل لعلهم آمنوا أن السياسة تستند في أصولها على فن الكذب، وعلى كل الـمراوغات والألعاب البهلوانية التي يتقنها السياسي.
ولذلك ظل المغاربة منذ ستينيات القرن الماضي يتوقون إلى أحزاب بديلة، تستند في مرجعياتها على قاعدة الصدق كمبدأ لا مناص منه لتحقيق أحلام الشعوب.
وما بين صدق الحلم الإنساني، وصدق الحكم السياسي، قطعنا أشواطا وأعواما في انتظار حكومة صادقة. وحين طفت على سطح السياسة أحزاب ذات مرجعية دينية وإسلامية، قال البعض منا: فلنجرب؟
ولعل بعض الذين صوتوا في الانتخابات على الأحزاب ذات المرجعية الدينية، استندوا في قرارهم على ما جاء في حديث شريف مسند:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيزني المؤمن؟ قال: نعم، أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، أيكذب المؤمن؟ قال: لا.
فسمة المؤمن هي الصدق، بل إن الصدق والأمانة هي أسمى صفات المسلم، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولا يجب الشك في شهادته.
إن أشهر كذاب في تاريخ المسلمين هو «مسيلمة الكذاب» الذي حاربه الخليفة أبو بكر وانتصر عليه. وقد كان مسيلمة يسعى إلى اقتسام النبوة مع محمد صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول أمسك بـ«عنقود» نخلة صغير وأجابه: «والله يا مسيلمة لإن سألتني هذا العرجون ما أعطيته لك».
كان مسيلمة فصيح اللسان، وكان خطيبا ماهرا، وكريما بين قومه عند العطاء، وكان سخيا إلى حد أنه ما فتئ يدعو الناس إلى إنفاق كل ما لديهم على الفقراء. لكنه كان خداعا ومكارا وكذابا، إلى أن قال عنه قومه:«يا مسيلمة إنك لتعلم أننا نعلم أنك كذاب».
ومن «شعبوية» مسيلمة أنه أختار له قرآنا على مقاسه، وصاغه على شاكلة القرآن الكريم، وجاءت فيه آيات كلها مسخ وبهتان، ومنها: «يَا ضِفْدَعُ ابنة ضفدع، نِقِّي مَا تَنِقِّينَ، أَعْلَاكِ فِي المَاءِ وَأَسْفَلُكِ فِي الطِّينِ، لَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينَ، وَلَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينَ».
وإذا كان المنظر الإيطالي ميكيافليي سهل للسياسيين طريق الوصولية والكذب في كتابه «الأمير»، فالوزير الألماني غوبلز دعا رئيسه هتلر بأن يكذب كثيرا إلى أن يصدق نفسه. أما المؤلف «ميرشايمر» فقد جعل من أهداف الكذب السياسي نشر الخوف بهدف خدمة الصالح العام.
ويوم كلفت في بداية التسعينيات باستنتاج الخلاصات والتوجهات الصحفية حول مستقبل تجربة التناوب في المغرب، جاء في الخلاصات أن المعارضة شكلت دوما إسفنجة لامتصاص غضب الثائرين، وأن دخولها للحكومة سيفقدها هذه المهمة. وسيجعل المواطنين يبحثون عن أحزاب بديلة بعيدا عن اليمين والوسط والمعارضة.
كنت حينها أشتغل في ديوان الوزير عزيز حسبي، وقد كتبت تقريري وأنا أتساءل عما بعد فترة التناوب، وعما بعد فترة حكومة الإسلاميين التي تتلوها،.. تساؤلات ظلت تراودني طيلة أكثر من عشرين سنة تقريبا، وها أنذا أراوح مكاني مع السائلين؟
فكما لمحمد رسول الله أحفاد في هذه الأمة المباركة، فإن لمسيلمة الكذاب أحفادا داخل الأمة نفسها للأسف.
ساحة النقاش