محمد الأشهب
كاتب و صحفي
الصراع على إفريقيا
التئام القمة الأفرو ـ أمريكية الأولى في واشنطن الأسبوع القادم ليس حدثا عاديا. إنه يختلف إلى حد ما عن باقي التجارب التي عرفتها أشكال الحوار الإفريقي مع عوالم أخرى. فالأوروبيون ظلوا أقرب إلى إفريقيا، من حيث أنها تضم المستعمرات الفرنسية والإسبانية والبريطانية والبرتغالية السابقة. وعندما يلتفتون إلى أعتى المعضلات يختزلونها في الهجرة غير الشرعية والإرهاب والجريمة المنظمة والمخدرات، ويرهنون مخاطر عدم الاستقرار والتوتر بتنامي النزاعات والحروب والصراعات داخل القارة الإفريقية.
جرب الأوروبيون والأفارقة أشكال حوار متعددة، من بينها المنظومة الأفرو ـ أوروبية التي كانت عقدت أول قمة لها مطلع القرن الحالي، وحافظ الفرنسيون على القمة الفرنسية ـ الإفريقية كإطار للحوار السياسي والفكري والاقتصادي. فيما اهتمت بريطانيا بحضور الكومنويلث بمثابة ناد مواز للإبقاء على ارتباط دول شرق إفريقيا بالعاصمة التي لم تكن تغرب عنها الشمس. ولم تغب الدول العربية عن مواجهة هذا التحدي، وسارعت إلى إحياء الحوار العربي ـ الأوروبي، كما في القمة الأخيرة التي استضافتها الكويت. بينما ارتدى الموضوع طابع التغلغل الاقتصادي والتجاري من طرف الصين التي تطبق سياسة تطويق هادئ تنفذ إلى مفاصل الحركة التجارية المؤثرة.
كل هذا الاهتمام يعكس مظاهر الصراع والمنافسة حول الاستئثار بأدوار محورية في القارة الإفريقية التي تعتبر سوقا واعدة، وبالقدر ذاته تحتضن غالبية بؤر التوترات التي تهدد الاستقرار، إضافة إلى استشراء الحروب العرقية والطائفية والقبلية وتنامي ظاهرة اللاجئين والنازحين، هروبا من غضب الطبيعة وبطش الحروب العشوائية. غير أن الأمريكيين لم يكونوا في أي وقت بعيدين عن حمى هذه الصراعات، فقد أداروها بطرق مباشرة وغير مباشرة إبان فترات الحرب الباردة، واهتموا أكثر بمنابع النفط والثروات وموازين القوى. ودخلوا في منافسات لا محدودة مع الأوروبيين والروس والصينيين، ويرغبون في منح الصراع لمسات إنسانية وسياسية، مصدرها العودة إلى إفريقيا.
في أي حوار يضع الشركاء أجندات بما يريدونه وما يأملون تحقيقه. وفيما لا يحتاج الأمريكيون سوى لمجرد نفض الغبار عن العناوين الكبرى لإستراتيجيتهم تجاه القارة السمراء، وفي مقدمتها الأوضاع في شمالها الذي يضم الدول المغاربية الخمس، مرورا بمنطقة الساحل وجوارها، وصولا إلى ترتيبات تتمدد شرقا وجنوبا، لا تبدو الدول الإفريقية متماسكة في مواقفها واستحقاقاتها، ويغلب عليها النفور والصدام وغياب المواقف الموحدة.
يعنينا من الحوار الأمريكي ـ الإفريقي جانبه المتعلق بترتيبات الأوضاع في الفضاء المغاربي الذي يعاني اضطرابات في ليبيا وغموضا في الجزائر وخطوات انتقالية صعبة في تونس، علاوة على هيمنة شبح الهجمات الإرهابية لبتي عادة تطل برأسها، شجعها في ذلك فوضى الأمن في العراق وسوريا وزحف التنظيمات المتطرفة، وارتفاع الأصوات التي تنادي بالتقسيم والتجزئة وتمارسهما. ولعل من سلبيات اللامغرب عربي أن عواصمه الخمس تذهب إلى واشنطن في غياب وحدة المواقف، وسيضطر كل طرف لأن يدافع عن رؤيته.
لكن المغرب، بالرغم من هذا التأثير السلبي، مافتئ يدعو إلى وثبة قوية على الحواجز والعراقيل، تمكن هذا النسيج المتكامل من القيام بمهامه. وأقربها معاودة إنعاش البناء المغاربي الذي لا بديل عنه، والاتجاه نحو إقامة شراكات متعددة الاتجاهات شمالا مع الاتحاد الأوروبي وجنوبا مع دول الساحل الإفريقي وغربه، وشرقا مع مجلس التعاون الخليجي ودول المشرق. وإذا كان البعد الديمقراطي في أي تجربة وحدوية، على الأقل في الأهداف الإستراتيجية الكبرى، فإن مشكلة المنطقة المغاربية أنها أخلفت موعدها مع الربيع العربي، وبدل أن يعم الاستقرار والازدهار انتشر التفكك والاضطرابات والتطرف.
من هذا المنطلق على الأقل، فإن الاتجاه نحو دمقرطة الدول الإفريقية يجب أن يضع في الاعتبار سبل ضمان الاستقرار ووحدة الدول وإرساء الانتقال الديمقراطي على أسس متينة، تحول دون انهيار كل البناء على رؤوس أصحابه. والأكيد أن النظرة الأمريكية السابقة حول جلب الديمقراطية عبر استخدام القوة القادمة من الخارج ثبتت محدوديتها، بل إفلاسها، بدليل ما يشهده العراق وأفغانستان وجنوب السودان وسوريا وغيرها. ومن غير المقبول تكرار الأخطاء ذاتها في إفريقيا.
أبعد ذلك أن مسألة الوحدة اعتلت الواجهة في صورة أزمات إفريقية مستعصية، فقد انتقلت عدوى الدولة المزعومة حول الخلافة في العراق وسوريا إلى جمهورية إفريقيا الوسطى. وبدأ المسلمون والمسيحيون يفكرون في إقامة دولتهم المستقلة. ولا تزال أزمة مالي تلقي بظلالها على تشنجات الساحل، فيما تبدو أكبر دولة إفريقية، نيجيريا مهددة بحرب طائفية ودينية، كما أن جراح جنوب السودان وشماله في دارفور لم تلتئم بعد. ولا يسع في غضون ذلك، إغفال التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت المؤسسات والدول الغربية.
محطة الحوار الإفريقي ـ الأمريكي سانحة لطرح أكبر معضلات القارة. لكن ذلك لا يتوقف على الإدارة الأمريكية وحدها التي لها مثل أي قطب عالمي مؤشر حساباتها ومصالحها واعتباراتها، بل يبقى رهن المواقف التي تدافع عنها الدول الإفريقية، وهي على بعد مسافة من نيويورك، بالنظر إلى حجم النفوذ الأمريكي داخل الأمم المتحدة. وقد حان الوقت ليصبح لإفريقيا الحضور الذي تستحقه في المحافل الدولية، غير أنها لا يمكن أن تنال هذه الحظوة المستحقة، في حال استمرار خلافاتها وتغليب نزعة الأنانية ووهم القوة. وما من دولة إفريقية ذات سيادة إلا وتستحق أن يكون لها الاعتبار الذي ترضاه في إطار طموحات مشروعة ومنطقية، توازيها إرادة العمل وسلامة المسعى ومصداقية الموقف.
ساحة النقاش