السيد حسن نصر الله.. أوحين يتكلم الرجال الرجال
إسماعيل القاسمي الحسني - فلاح جزائري
بداية أود أن ألفت عناية القارئ لأمر أراه غاية في الأهمية، هذه اللحظات التي أكتب فيها هذا المقال تحديدا، كنت لتوي قد عدت من المستشفى، بعد معاينة جثمان أخي العزيز الأستاذ أنس القاسمي الحسني، هذا الأخ الذي فقدته اثر حادث مفجع ومفاجئ قبيل الإفطار بربع ساعة، وقبل كتابة هذه الكلمات بساعة واحدة، لم يكن أخا فقط من جانب الرحم، وإنما فكرا وروحا وعقيدة، متابع مهتم بشكل مذهل لتطورات الشرق الأوسط وتحديدا فلسطين ولبنان وسورية، وكثيرا ما كان رحمه الله يرسل لي دراسات وأبحاث من مراكز مختصة تتناول بالتحليل تلكم الأوضاع؛ وشغوف بالجلوس إلى الكاتب متى تهيأت له الفرصة، سواء ليستعرض رؤيته للتطورات بأدق تفاصيلها في الشرق الأوسط، أو لسؤالي على بعض ما يغم عليه؛ كان سندا لي من هذا الجانب وأنيسا واسع الثقافة والاطلاع، في عقده الرابع مكتملة البنية الجسدية، منتصب القامة مرفوع الهامة، معتزا وفخورا بشكل لافت بالمقاومة في لبنان وفلسطين، أكاد أجزم أنه يعرف أسماء رجالها ورموزها وقياداتها، أكثر من أي شيء آخر، أذكر له رحمه الله حين تيقن من عزمي على الذهاب إلى سورية، ومنذ يومين فقط أرسل لي قصيدة محيي الدين بن عربي، التي جاء فيها على ذكر باب “الفراديس″ في دمشق الشموخ، مع ورقة تفصيلية تفيض بتفاصيل حول تاريخ هذا الباب، والأحداث التي شهدها؛ وعشق هذا الرمز الصوفي الشهير به؛ نعم ونحن تحت وطأة هذا المصاب المفاجئ والجلل أكتب هذا المقال، بالغرفة المجانبة لمكتبي دموع وأنين وأجواء حزن كالحة السواد؛ ولم آتي على ذكر هذا الحدث الشخصي، الذي يبدو ظاهر الأمر أنه لا يعني للقارئ شيئا، إلا لأن في عمقه رسالة لعنوانين اثنين، الأول للأشقاء في فلسطين مفادها، أنها مهما كانت فواجعنا الشخصية هنا في قلب الجزائر، فلن نسمح لها أبدا أن تطغى على متابعة أخباركم، بل والعمل على دعمكم ونحن تحت سقف العزاء وأثناء الجنازة، ونكتب بكل تركيز وحرص وموضوعية جهدنا، لنقدم بين يديكم ما نرجو أن يكون نافعا؛ وأما العنوان الثاني فهو العدو الإسرائيلي، لنقول له: عليك أن تتيقن بأنك أمام أمة قلوب رجالها تخفق لفلسطين في كل الظروف، أيا كانت أحوالنا الشخصية ففلسطين تتقدم الاهتمام، وتعلو عن كل عنوان، نعم لا مجال هنا للمزايدة ولا لتمثيل دور ما، نعم أكتب هذا المقال وجثمان أخي مسجى في المستشفى، وكل تفاصيل حدث الموت الفجأة على كاهل الكاتب، لكن الهمّ الأكبر هو الآن غزة وشعبها وكل فلسطين. لا شيء يكسر أرادتنا ولا همّ مهما غار جرحه يحوّل اهتمامنا أو يفتننا عنه، بل لن نسمح له حتى بأخذ ذرة واحدة من حق الأمة؛ ليذهب أخي أنس القاسمي الحسني إلى رحمة الله، ونحن نمضي في الدفاع عن حق الأمة إلى أن نلحق به. هذا ما يجب أن يفهمه العدو قبل أبناء جلدتنا ممن يخالفوننا الرأي.
كلمة السيد حسن نصر الله يوم القدس (آخر جمعة من كل رمضان)، في الحقيقة لا تحتاج لشرح ولا لتفصيل، فهي واضحة المعاني بينة القرارات، فاصلة في الخيارات، لا إدغام فيها ولا مضغ مفردات؛ وأكد فيها مستوى الوعي العميق الذي تتمتع به قيادات حزب الله العليا، وكذلكم بطبيعة الحال قيادات المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، وأوضح للعدو الإسرائيلي بأن عند المواجهة معه، تنصهر كل قوى الأمة في كتلة واحدة، وتضرب بيد وإن تعددت أصابعها، فهي تلتقي في كف واحدة وساعد واحد؛ حين يتحدث السيد حسن نصر الله خلاف غيره من الزعماء العرب، فالعدو الإسرائيلي وكل حلفائه يصغون جيدا السمع، لمعرفتهم بطبيعة الرجل أنه لا يتكلم عادة إلا بعد الفعل والعمل في الميدان، فلغة الرجل تختلف قاموسا ومفردات عن غيره، فضلا عن التوجه.
لكن اللافت بالنسبة لي بخصوص خطاب السيد حسن نصر الله، هو خروجه للمرة الثانية بصفته الشخصية على جمهوره، وهذا الأمر له دلالة بالغة الأهمية في تقدرينا، فالرجل بخلاف غيره من زعماء العرب الذي تحدث أحدهم مؤخرا لمدة قاربت 75 دقيقة، أفرد فيها ستة دقائق فقط لموضوع غزة، وحاله أنه صاحب أقوى الجيوش العربية، وهو الذي كرر تماما كما خلفه تلكم العبارة الشهيرة “أمن دول الخليج خط أحمر وهو من أمننا”، ما يجعلنا حقيقة نشك في الموقع الجغرافي لقطاع غزة، أتكون أبعد من البحرين التي طار إليها عام 2010 حسني مبارك قاطعا رحلته من أنقرة، ليكرر تلكم العبارة؟ أم أنها تقع في أمريكا الجنوبية أم المريخ؟ خلاف ذلك كان كل حديث السيد وعلى امتداد 70 دقيقة عن فلسطين، واعتباره شريكا في الحال، وكما أشرنا في مقالنا السابق حين التقى الدكتور عبد الله رمضان شلح، وحين اتصل هاتفيا بالسيد خالد مشعل، فليس من باب المجاملة بل بعمل شيء ملموس، لا يتأتى الآن ذكره كما قال الدكتور عبد الله رمضان شلح نفسه.
ونقول لبني جلدتنا الذي يعتبرون خروج السيد حسن نصر الله شخصيا، بأنه دليل على تواطئه مع العدو الإسرائيلي، لكون الأخير متى أراد تصفيته فعل ذلك، وإذ لم يفعل فهو دليل بتقديرهم على أن السيد يخدم مصالح العدو الإسرائيلي؛ والحقيقة أن أصحاب هذا الطرح هم أنفسهم الذين باركوا لبنيامين نتياهو قصف قطاع غزة، ودعوه بصريح العبارة واللفظ لإبادة سكانه عن بكرة أبيهم، ومنهم من دعت لأن يُكثر الله من أمثال رئيس وزراء كيان العدو، بل قرأت لأحد الكتّاب في الإمارات مع الأسف الشديد، بأن الله يصفد الشياطين في رمضان، ويرسل من إسرائيل الطائرات لسحق شياطين الإنس. أمام هذه العقول التالفة الخلايا ماذا يمكننا أن نقول، سوى ما أمرنا الله به “سلام لا نبتغي الجاهلين”؛ إن إجرام العدو الإسرائيلي الذي لا يتورع عن قتل الأطفال، حتى وإن لجئوا لمباني الهيئات التابعة للأمم المتحدة كالأونروا، لا يمكن بحال من الأحوال أن نتوهم تردده في اغتيال السيد حسن نصر الله في أول سانحة له. والغريب أن كل قيادات العدو العسكرية والأمنية والسياسية والدينية، تجتمع على عبارة واحدة وهي: «عدونا نصر الله وسنقتله”. وهؤلاء بنو جلدتنا ومن أبراجهم العالية يهرطقون، تحت مسميات وتوصيفات الخبير الاستراتيجي والكاتب الكبير وغيرها. ولو سألته: من أين لك بهذه المعلومة؟ لألقمته حجرا، والمشكل أن الكاتب ليس الوليد بن طلال حتى يجعل مثقال كل حجر بدينار.
لم تحمل كلمة السيد حسن نصر الله قراره بدعم حزب الله لفصائل المقاومة الفلسطينية بكل وسائل الدعم، بل أعلن للمعنيين بأن دعم إيران وسورية لن يتوقف،ونحن نعلم جيدا بأن الرجل لا يتكلم من فراغ، فهو شخصيا بالنسبة للدولتين رصاصة لا يقبل أن تطلق في الهواء، بل تصيب الهدف في مقتله مباشرة؛ لكن من بين أهم الرسائل التي بعث بها الرجل هي فترة ظهوره التي زادت عن السبعين دقيقة؛ وهنا أذكر مقالا تحليليا لظهوره آخر مرة لمدة 17 دقيقة فقط، حينها شرحنا وفق دراسة للعدو الإسرائيلي نفسه، بأن حالة تشويش على شبكة الاتصالات شمال فلسطين المحتلة، تمت مباشرة مع بدأ الرجل في خطابه، ووفق ذات المصادر أن وسيلة اغتيال السيد في تلكم الحالة، سواء عبر الطائرة المقاتلة أو صاروخ موجه تقتضي 19 دقيقة، ومن يراجع فيدو الخطاب الذي تابعته حينها مباشرة، يقف على ملاحظتنا طلب السيد لأحد رجال حمايته وضع ساعة تحت بصره؛ وقد فهم العدو رسالة السيد بأن حزب الله بات يملك قدرة التشويش على اتصالاته، وفضلا عن ذلك وهو مهم جدا، أنه بات يملك المعلومة الدقيقة عن قدرة العدو. إذن ما يعني اليوم ظهور الرجل لمدة 70 دقيقة وفق قراءة العدو الإسرائيلي؟ طبعا وليس وفق المهرطقين العرب؛ لقد تحدث الرجل من قبل في خطاباته عن تطور المنظومة العسكرية لحزب الله، ولخصها في قدرتها على الحصار البحري واستهداف سفن العدو، وقدرة التمييز بين المدنيّة منها والعسكرية، وقدرتها على ضرب عمارة مقابل عمارة، ومحطة كهربائية مقابل محطة، وغيرها مما بات معروفا، لكنه ترك وكعادته موضوع القوة الجوية كمفاجأة للعدو عند المواجهة القادمة لا محالة، هنا نتساءل: هل بات يملك حزب الله رادارات يمكنها رصد أي صاروخ أو طائرة تنطلق من جهة العدو؟ أمر غير مستبعد أبدا، وهل بات يملك دفاعا جويا يمكنه اعتراض أي خطر يتهدد السيد عند خروجه شخصيا؟ أمر كذلك غير مستبعد.
أقول هذا الكلام لسببين، الأول قناعتي ومعرفتي برجال حزب الله أنهم من الحكمة إلى درجة لا يمكن أبدا معها تصور ارتكاب مغامرة خروج السيد بشخصه دون امتلاك قدرات جدية على حمايته، هذا أمر محسوم لا لبس فيه لدي، الثاني: أن لهذه الرسالة القوية من ظهور السيد لمدة طويلة قياسا بخروجه الأول، دلالة تعني أن مستوى الدعم الذي يقدم لفصائل المقاومة الفلسطينية يرقى لهذه الدرجة من الخطر والأهمية، وهو ما أتوقع أن الدكتور عبد الله رمضان شلح وجده عند لقائه بالسيد حسن نصر الله. ونرجو في هذا المقام أن تعتمد المقاومة الفلسطينية على كلام الرجال الرجال، ويكفيها ما خبرته لسبع سنوات عجاف على الأقل من كلام أشباه الرجال. لا وقف للدفاع العسكري عن النفس، وقد كان للعدو والقادة العرب فسحة في الوقت واسعة جدا لدراسة حقوق الشعب الفلسطيني، لو أعطيت هذه الفسحة لبهائم لانتهت إلى نتائج وقرارات.
رحم الله أخي انس ورحم جميع شهداء الأمة في كل أوطانها وعلى رأسهم شهداء فلسطين، وعهدٌ منا أننا لن نتوقف ولن نحيد عن الخط حتى نلحق بهم، ليفهمها القادة العرب وليفهمها العدو الإسرائيلي…..والآن سألتفت لواجب العزاء ومتطلبات الجنازة وأنتم تقرؤون هذه الكلمات، وإن كان في العمر بقية عدت إليكم قريبا.
ساحة النقاش