محمد الأشهب
كاتب و صحفي
الجزائر وسياسة المحاور
انعطفت الجزائر شرقا، بمبرر التنسيق الأمني والعسكري مع تونس التي تواجه تحديات جمة، مثل غيرها من بلدان ما يعرف بالربيع العربي التي غلبت عليها الاضطرابات وأنواع الفلتان الذي فاق قدراتها في السيطرة على زمام الأمور.
لا اعتراض من حيث المبدأ على قيام أي شكل من أشكال التعاون الثنائي أو متعدد الأطراف، طالما أن عدوى الانفلات تنتشر مثل النار في الهشيم. ومن المفيد أن تنتبه الدول المغاربية إلى تنامي مخاطر التطرف والإرهاب، قبل استفحالها أكثر. لولا أن العمل في هذا الاتجاه يبقى ناقصا، حين لا توازيه مبادرات عملية تحترم أوفاق حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.
مسائل التعاون على الحدود تفرض نفسها في جميع الحالات، ففي فترات السلم والإخاء تنبثق عنها خيارات دعم الاقتصاد الحدودي وإقامة المشاريع المشتركة ذات النفع المتبادل. وبالحرص نفسه فإنها في حالات الأزمات تتطلب المزيد من التعاون والتنسيق لدرء مظاهر الانفلات وتطهير الملاذات التي يختبئ فيها المتمردون والتنظيمات الخارجة عن القانون. لكنها لا يمكن أن تخضع لنظرة انتقائية، كأن تكون في الحالة الجزائرية اندفاعا في اتجاه تونس، في مقابل الانكفاء والانفلات والحذر إزاء حدودها الغربية مع المغرب، خصوصا وأنها في هذا الجانب شاسعة وتأتي منها مخاطر عدة، تشمل الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة والتطرف ومختلف الآفاق.
لو لم تكن هناك التزامات مشتركة في إطار منظومة « الاتحاد المغاربي » الذي يجتاز فترة جمود وانحسار، لما أثار التنسيق الجزائري ـ التونسي أي جدل، فالدول حرة في اختياراتها وممارسة سيادتها وانتقاء شركائها، وعلى افتراض أن وضع الاتحاد لا يساعد في إقرار سياسات مشتركة، فإن التحديات الأمنية المتنامية تتجاوز كل الخلافات السياسية. وإذا لم يكن الاتحاد المغاربي صالحا للرد على هذه التحديات في التوقيت الملائم، فما الحاجة إليه؟
غير أن الجزائر لها مسلك خاص، فهي الدولة الوحيدة التي تكثر في الحديث عن الأخوة وحسن الجوار والمبادئ والقيم المشتركة، ثم تصر على انتهاكها جميعا عند أول محك اختبار. كيف ستقيم «انفتاحها» على الحدود الشرقية مع تونس، فيما الحدود الغربية مع الجار المغربي مغلقة منذ حوالي عشرين عاما. إن لم يكن وراء الأكمة ما وراءها من حسابات تعزف على سياسة المحاور التي أعاقت البناء المغاربي؟
وكيف ستقيم حديثها عن التصدي للإرهاب، وهي تحتضن حركة انفصالية مسلحة في تيندوف، لا يمكن إلا أن تنفجر في وقت ما ضد الجزائر نفسها؟ ثم كيف تركز على إعاقة جهود المصالحة الحقيقية في دولة مالي التي قطعت أشواطا هائلة ورغبت الجزائر لأهداف خاصة، أن تعود بها إلى نقطة الصفر؟
القاعدة في الحدود أن تكون فضاء للتكامل والعمل المشترك، بخاصة في ظل تأثير العولمة والانفتاح ونهاية عصر الدولة المنغلقة، وإذا كان مفهوما أن الجزائر لا تريد فتح حدودها البرية مع المغرب، خشية تسرب عدوى الانفتاح، وتمكين اقتصادياتها من فرص الاستفادة من التجربة المغربية التي سبقتها بسنوات في اقتصاد السوق والمبادرة الحرة وتعزيز دور القطاع الخاص ونظم الخدمات وتطوير القطاعات الإنتاجية، فمن غير المفهوم التبجح بالانخراط في الحرب ضد الإرهاب والتطرف والمغالات، مع استمرار النظرة الانتقائية، ذلك أن هذه الظاهرة العتيقة عابرة القارات لا تفرق بين الدول والمجتمعات، سواء كانت على وئام أم تعتريها الخلافات. فالمعركة في جوهرها ذات أبعاد كونية ولا يمكن ربح رهانها بالانتقائية والانكفاء، إلا أن تكون وراء ذلك أهداف أخرى غير معلنة.
لم يتوقف الاتحاد المغاربي بسبب مضاعفات الخلافات المغربية ـ الجزائرية فحسب، فهو تأسس وقضية الصحراء قائمة وملفات في أجندة البلدين عالقة، ولكنه تعثر أساسا بسبب تباين المواقف إزاء التعاطي وظاهرة الإرهاب والتطرف. وفيما كان المغرب شق طريقه نحو الانفتاح على كافة المكونات، بما في ذلك التيارات الإسلامية التي تتبنى منظورا معتدلا، كانت الجزائر تمضي في تنفيذ سياسة الاستئصال التي ثبت أنها لم تحقق أهدافها، والدليل على ذلك أن الجزائر نفسها لازالت تواجه الهجمات الإرهابية وأعمال العنف. ولم تتوصل العواصم المغاربية بعد إلى إبرام ميثاق تعاون للتصدي للظاهرة.
المفارقة أن شركاء دول الشمال الإفريقي في الفضاء الأوروبي، على الواجهة الشمالية للبحر المتوسط مافتئوا يدعون إلى قيام تعاون استراتيجي شامل في هذا النطاق، وهم محقون في ذلك لأنهم يرون أن المخاطر القادمة من الضفة الجنوبية للبحر ومن تغلغل أشكال التطرف في أوساط المغتربين المغاربيين تحتم قيام هذا التعاون، ولم تغب المسألة الأمنية عن جدول أعمال مختلف اللقاءات والحوارات، سيما تلك التي تلتئم تحت سقف منظومة 5+5. وبالقدر الذي يسعون إلى بلورة مواقف موحدة تعزز المنظومة الأمنية والاجتماعية والثقافية، بالقدر الذي تفتح الجزائر منافذ غير موحدة، غايتها من ذلك شل حركة القطار المغاربي المؤقت أصلا.
ثمة آليات متعددة للوفاء بالالتزامات الكونية في الحرب على الإرهاب، وفي وسع الاتحاد المغاربي أن ينهض بهذه المسؤوليات والالتزامات المشتركة. غير أن السعي لإغراق المنطقة في العودة إلى سياسة المحاور ليس مجديا، مهما بدا أن هذا الطرف أو ذاك يحقق بعض المكاسب، ولعل أهم مكسب هو الاهتداء، إلى سبل إقرار الاستقرار وفق منظور شامل. لكنه لا يزال بعيد المنال، فالأزمات تدفع إلى وحدة الصف وعند البعض تحشد لمزيد من التفرقة.
ساحة النقاش