محمد الأشهب
كاتب و صحفي
إشكاليات في التعمير وإعداد التراب الوطني
يستطيع سكان القرى أن يغيظوا نظراءهم في المدن، بأنهم لا يخشون أن يطمروا تحت التراب، في حال حدوث مكروه، لا قدر الله، لأن سكناهم لا تتوفر على طوابق، وإن كانت فمواد البناء خالية من الحديد والإسمنت، أي غير قاتلة.
ويستطيعون كذلك الاطمئنان أنه من دون مهندسين وخطط تعمير ورخص بناء، أقاموا تجمعاتهم السكنية التي صمدت في وجه الرياح والأمطار وتعاقب المناخ، ولم يهلك أحد بفعل سقوطها وانهيار من تلقاء نفسها، فقد تتسبب الفيضانات وانزلاق التربة وحدوث ارتجاجات في حوادث مأساوية، لكن المساكن لا تنهار فجأة.
ليس في الأمر دعوة إلى إلغاء وصفات الإسكان العصري، فقلة الإمكانات هي ما دفع سكان البوادي إلى الاعتماد على أنفسهم، وقد أصبحوا بدورهم أمام تمدد العمران يخضعون لمعايير البناء. ولكن التحضر حين يلغي حق الإنسان في الاطمئنان إلى حياته تحت سقف يجمعه وذويه، وليكن عن طريق الكراء أو الاستدانة قصد التملك، يصبح خطرا على الأرواح، وآفاق التعمير الذي يمكن أن يتقدم برجل واحدة، من دون ترابط دائم مع سياسة إعداد التراب الوطني.
تطرح فاجعة الدار البيضاء المأساوية إشكاليات عميقة، في مقدمتها من يتحمل المسؤولية إزاء الإهمال الذي أدى إلى إزهاق أرواح أبرياء؟ ومن في إمكانه تقديم الحساب إزاء الأخطاء والتجاوزات التي أدت إلى الفاجعة؟ ثم كيف السبيل للحد من تكرار هذه الحوادث المأساوية، وقد ضربت البلاد رقما قياسيا في تنامي البنايات الآيلة إلى السقوط، أو التي سقطت فعلا، بما فيها مساجد يذكر فيها اسم الله سبحانه وتعالى.
فقد يفهم إلى حد ما معنى أن تنتشر هكذا بنايات في المدن العتيقة، نظرا لمرور وقت طويل على تشييدها، في غياب مباشرة الترميم والإصلاح، لكن لا يفهم أن تنتشر الظاهرة في مدن وأحياء عصرية، يفترض أن البناء فيها يخضع لمخططات التعمير وإعداد التراب.
في المدن العتيقة يصعب أن يطلب من ساكني بعض الدور القديمة والمتهالكة المساهمة في الترميم والإصلاح،خصوصا إذا علمنا أن بعضها لازالت سومة كرائه متدنية جدا، لم يطرأ عليها أي تغيير. إضافة إلى وجود ورثة متعددين. لكن مسؤولية المصالح المعنية تكمن في إقرار خطة جريئة بهذا الصدد، يمكن للجماعة أو السلطة المحلية أو إدارة الإسكان أن ترصد الإمكانات اللازمة للترميم والإصلاح. لأن الأمر يتعلق بحماية أرواح المواطنين، في غضون القيام بحملات توعية تجعل السكان شركاء في تغيير أنماط سكنهم وصون كرامتهم.
ليست المرة الأولى التي يواجه فيها المغرب تنامي ظاهرة انهيار المباني على رؤوس ساكنيها، ويستدل من استمرار الظاهرة المأساوية أن المسألة لم تحظ بالجدية اللازمة. لا نتحدث هنا عن المبادرات الإنسانية التي مافتئت الالتفاتة الكريمة للملك محمد السادس تجسد ذروتها في التضامن والتآزر، ولكننا نعرض إلى مسؤولية السلطة التنفيذية والمحلية والمجالس المنتخبة ووكالات التعمير والمهندسين المعماريين العاملين في القطاع. ولعل أول ما كان يتطلبه الموقف هو الحفاظ على التوازن القائم بين إعداد التراب الوطني والتعمير في قطاع واحد، يجعل كل المصالح المختصة بهذا الملف لها مخاطب ومحاور وحيد.
ومثل مرات سابقة سيتم تبادل الاتهامات ورمي الكرة من ملعب إلى آخر. لكن من الواضح أن التأخير الذي حصل في إنجاز المشروع الذي كان سيربط بين وسط الدار البيضاء الكبرى ومسجد الحسن الثاني. كان له تداعيات، ليس أقلها أن سوق المضاربات تنتعش عند الإقدام على تنفيذ أي مشروع عمراني كبير. فأي دور لوكالة التعمير في هذا المجال؟وكيف السبيل لحصر منح رخص البناء في مصلحة محددة، لا تتدخل فيها أي اعتبارات، غير استقراءات المهندسين واحترام القانون في تحديد طوابق البناء والحفاظ على المساحات الخضراء، من دون إغفال الرقابة القبلية والبعدية أثناء البناء وبعده.
ليس مفهوما كيف أن البلاد بعد مضي كل هذه العقود لم تستطع التخلص من البناء العشوائي وأحياء الصفيح وأحزمة الفقر التي تطوق مداخل ومخارج المدن،لأن إدراج المساحات في التهيئة العمرانية يسيل لعاب المضاربين، ويضاف إلى ذلك أن العشوائيات لم تقتصر على البناء الذي لا يخضع لأي رقابة، بل إن إضافة الطوابق واستغلال أسطح العمارات بات أمرا مشاعا، ويكفي إلقاء نظرة على أعداد المساكن التي نبتت على السطوح لإدراك أن المشهد العمراني يواجه كارثة حقيقية تهدد حياة السكان.
لم تفلح السياسات المتبعة في إقرار خطة تعمير شامل، لا مكان فيها لغير الانضباط لروح القانون، ولا يتم عادة الالتفات إلى المشاكل المعقدة المحيطة بهذا القطاع أو غيره، إلا بعد حدوث كوارث ومآسي. لكن سرعان ما يفتر الحماس وتعود حليمة إلى عادتها القديمة،حيث تستمر الفوضى وأنواع الممارسات العشوائية والتدخلات غير القانونية.ما يعني الحاجة إلى وقفة تأمل، تبدأ من تحديد الصلاحيات والمسؤوليات.
أكثر ما يخشاه الناس أن التحقيقات لا تذهب إلى مداها بسبب وجود مناطق ظل عدة تحجب الحقيقة،وأبرزها أن الفوضى الضاربة أطنابها في قطاع حيوي مثل التعمير والإسكان،لا يمكن أن تثمر إلا المزيد من المآسي.ويا لرحابة الحياة في البوادي، حيث الناس يبنون مساكنهم على قياس إمكاناتهم. لكنها تصمد ولا تتهاوى كما يحدث في مساكن المدن التي يفترض أن تحرسها رقابة صارمة.
ساحة النقاش