بلاصيني نبلاصيك
أسبوع خاص هذا الذي عاشته الإدارات المركزية للعديد من القطاعات والوزارات بالرباط. إعفاءات واستقالات بالجملة ابتدأت تداعياتها تتوسع رويدا رويدا لتجعل منها ظاهرة سياسية غير عادية. فهل يتعلق الأمر بتصفية حسابات سياسية داخل المواقع الإدارية القريبة من مواقع القرار؟ أم هي بالأدق تصفية حسابات العدالة والتنمية مع مسؤولين إداريين غير موالين لهم؟ أم هي حركات ارتدادية للأحزاب الحاكمة في الأمتار الأخيرة قبل الانتخابات الجماعية من أجل تثبيت الموالين لما تبقى من عمر هذه الحكومة استعدادا لتسخير الإدارات في ما بعد لتيسير الحملات الانتخابية وتحركات الوزراء المعنيين بها؟
بمجرد جلوسه على كرسي وزارة الصحة أعفى الوردي رحال المكاوي الكاتب العام السابق للوزارة بدعوى حصول اختلالات فظيعة في عقد صفقات اللقاحات، لقاح « روتافيروس » أساسا، وهي الصفقات التي باركتها ياسمينة مع شركة أمريكية كبيرة، ولذلك عندما حاول الوردي حشر أصبعه في عش هذه الصفقات قيل إن السفير الأمريكي السابق صامويل كابلان اتصل به شخصيا لكي يطلب منه سحب أصبعه.
وهكذا لم يعد الوزير يتحدث عن فترة الوزيرة السابقة سوى بالخير، وانشغل بعمليات إنقاذه التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ، فقد قال بيان صادر عن وزارته إن الوزير أنقذ طفلا من الموت بعدما سهل عملية زرع كبد له، وقال بيان آخر إن الوزير أنقذ مريضا من السجن بعدما عجز عن دفع مصاريف علاجه للمصحة فأمر وكيل الملك باعتقاله.
ثم جاء دور مصطفى الخلفي لكي يعفي الكاتب العام السابق لوزارته ويشيع خبر تولي صديقه وأخيه في الحزب والحركة سعد لوديي المنصب، ولولا يقظة شيوعيي وزارة الاتصال لكان الخلفي أرسى سفينة التوحيد والإصلاح على مرفأ قطاع الاتصال. ثم وضع الخلفي في تحد وتسلط واضح صديقا آخر هو اليعقوبي، لاعب الشطرنج السابق، البارع في رياضيات حساب التسلق على جبال المناصب، ليفرضه على القانون وعلى الخازن العام وعلى مدراء وزارة الاتصال لدرجة كاتب عام.
ولأن المساطر ترفض تولي هذا الشخص منصبا بهذا الحجم لأنه من المستفيدين من أموال المغادرة الطوعية، التي لا يوجد نص يملي إرجاعها وتبييض ذمتها، فإن مسؤولي وموظفي وزارة الاتصال ينتظرون خروج الخلفي بخبر إعفائه لليعقوبي ونحن نتتبع أخبار استعداد الخلفي لإعفاء مدير الميزانية لأنه خلق خلية أزمة وبدأ يباشر بنفسه أمور ميزانية وزارته.
وما لم ينتبه إليه أحد في ملف الكاتب العام لوزارة الاتصال هو أن هناك جزئية مهمة تم إغفالها تتعلق بملف تقاعده عبر المغادرة الطوعية، فالرجل ازداد سنة 1966، وتخرج سنة 1990، وإذا افترضنا أنه اشتغل في السنة نفسها، ودون التوقف عند اشتغاله بمؤسسات حرة لا تحتسب ضمنها المدة على نفقة الدولة، فإن مجموع اشتغاله هو 15 سنة، بينما الحق في المغادرة يبدأ من أقدمية 21 سنة.
السؤال هنا هو كيف حصل اليعقوبي على المغادرة الطوعية دون توفره على الشروط القانونية لذلك؟
بعد هؤلاء جاء دور أنيس بيرو، الوزير الطائر الذي يطوف العالم بحثا عن المهاجرين، ليس ليقضي مآربهم وقضاياهم وإنما لدعوتهم لحفلات الشاي والدردشة، هذا الوزير جاء ووجد كاتبا عاما تسلق بأعجوبة في عهد الوزير الاتحادي عامر. أنيس بيرو أعفى في وقت قياسي جدا الكاتب العام للوزارة ليفتح المنصب يسيرا من أجل تقعيد أحد مواليه.
والسيد ندير الذي عينه «مسيو بيرو» كاتبا عاما للوزارة كان معه في التجهيز عندما كان هذا الأخير رئيس مصلحة المياه، إذ كان ندير نائبا له، وعندما ذهب بيرو أخذ مكانه.
وعندما أصبح بيرو كاتبا للدولة في محو الأمية أتى مجددا بندير ومنحه منصب مدير، وعندما غادر بيرو وكالة محو الأمية أصبح ندير مديرا مكانه. واليوم عندما أصبح بيرو وزيرا للهجرة استقدم نديره المفضل إلى الوزارة ومنحه منصب كاتب عام. «وبزاف على محبة».
أما الأخت بسيمة الحقاوي فحطمت الأرقام القياسية في الإعفاءات، ففي ظرف أقل من سنة أعفت مديرة المرأة ومدير الميزانية والشؤون العامة ورئيسة قسم الميزانية، وهي اليوم تضع الكاتب العام، الذي سبق أن نصبته سنة قبل الآن بإيعاز من كبار كوادر حزبها، في مفترق طرق واضح، إما أن يأخذ مسلك «المحجة البيضاء» معها ومع ما تبقى لها من عهد بالوزارة وإما الإعفاء والذهاب لحال سبيله. وهكذا أصبحت وضعية الكاتب العام الجديدة لا يحسد عليها أحد بحيث تسمر في مكتبه ولازمه ليباشر كل الشؤون وبدون تفويض لأحد.
وحتى لا يخرج الشوباني وزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني من «الجماعة» فقد قام بتجميد وضعية كاتبه العام حميد زوباع تمهيدا لإقالته.
وقد كان هذا الكاتب العام لوزارة الشوباني يشغل منصب محاسب عن المالية في مجلس النواب بعدما زكاه المنصوري لأنه ينحدر من نفس منطقته بالريف.
لكنه «زرق» لها العين عندما طلب من عبد الواحد الراضي تعويضات من المجلس فعلم الخازن العام، الإبراهيمي آنذاك، بالخبر فأدخل إلى مديرية الضرائب سنتين محروما مع العلاوات والترقيات، إلى أن اقترحته سمية بنخلدون كاتبا عاما لوزارة الشوباني.
ثم جاء وزير العدل مصطفى الرميد وذر الرماد في الأعين بإعفائه لمدير الميزانية بدعوى حصول أخطاء مهنية وهو الإعفاء الذي نعرف الآن حيثياته لأنها شجرة تخفي غابة من الفساد الكبير داخل وزارة العدل وهو الفساد الذي أقر الوزير نفسه باستحالة محاربته لوحده.
الصديقي وزير التشغيل والشؤون الاجتماعية كان لغاية اليوم آخر الملتحقين بهذا المسلسل من الإعفاءات بحيث أعفى ميمون بن طالب الكاتب العام الاستقلالي وهو اليوم بصدد إعفاء العديد من المدراء بدعوى فتح مجال جديد للتباري بين الأطر الشابة بحيث تعد وزارة التشغيل من بين الوزارات الأوليغارشية التي يحكمها الشيوخ.
كما جاء الدور على فاطمة مروان، وزير الصناعة التقليدية، لتعفي مديرة الاقتصاد الاجتماعي وهي مسؤولة سابقة بوكالة التنمية الاجتماعية التي لم يمر على تعيينها أقل من سنة بدعوى عدم إنتاجيتها المنتظرة. ويبدو أنهم في الوزارة بصدد تسخين الزيت لمدير دار الصانع الذي يعتبر وزير الخارجية الفعلي في المغرب لأنه أكثر مسؤول مغربي سفرا وتنقلا بين بلدان العالم، والذي افتتح مؤخرا «متحفا» في تمارة يعتبر حسب من زاره تحفة فنية برعت فيها يد «الصانع» المغربي، والأمر يتعلق بفيلا السيد المدير التي لا يضاهيها في الجمال والأثاث سوى فيلا الوزير بيرو التي نقشتها يد الصانع التقليدي بمهارة و«خفة».
لماذا يا ترى تحدث هذه الهزات والتغييرات داخل دواوين الوزارات الآن بالضبط؟
بعيدا عن اعتيادية مسألة الإعفاء داخل الإدارة العمومية، فإن هذه الوقائع تحيلنا إلى ترابطات خطيرة وجب الوقوف عليها:
أول الترابطات أن الأمر لا يخص مسؤولين عاديين وإنما كبار المسؤولين بالإدارات المركزية.
ثاني الترابطات هي وتيرة الإعفاء، ففي غضون شهر تقريبا تم إعفاء أكثر من خمسة كتاب عامين وعشرات من المدراء المركزيين، وهي ظاهرة شملت العديد من الوزارات وباشرها وزراء من أحزاب مختلفة.
ثالث الترابطات هي أن الإعفاءات دائما ما كانت تعني كتابا عامين ومدراء ميزانية، ونحن نعلم أهمية هذا الثنائي الوظيفي في الوزارات والذي يعد العمود الفقري لكل وزارة. وبالتالي فحدة الإعفاءات ضربت العمود الفقري للوزارات وليس أطرافها.
رابع الترابطات هو التوقيت السياسي لهذه الإعفاءات، بحيث لن يقنعنا شخص بأن الإدارة معصومة من السياسة. وأن حكومة بنكيران هي الآن ترتب لتوضيب الإدارة باعتبارها الأداة المادية والبشرية لتطبيق وتنفيذ المخططات السياسية للسلطة التنفيذية.
وكان شهر رمضان، الشهر المبارك، المناسبة السانحة لتيسير إعفاء الخصوم وتيسير «تبليص» الموالين.
وإذا كان حدث إعفاء مسؤولي الإدارات المركزية من حيث حجمه وتواتره حدثا يوحي بالأهمية فإن حدثا آخر لا يقل أهمية هو «من سيعوض من» في هذا التوقيت السياسي والإداري الخاص جدا.
حديث الصالونات يقول إن الصديقي يستعد لتبليص رفيق شاب من خارج القطاع ليتولى مسؤولية الكتابة العامة، ونفس النهج يطبع التكتيك الحالي «لتبليص» الموالين. كل هذا يمر في غياب اليقظة المسطرية التي تتبعها عادة المكاتب النقابية للوزارات والتي تعيش في سبات غير مسبوق، نائمة في العسل.
الآن فطنت العدالة والتنمية وحلفاؤها إلى أنه لا سلطة تنفيذية حقيقية من دون إدارة موالية، ولا مستقبل سياسي مضمون في المغرب من دون توسيع قواعد السلطة الإدارية و«تبليص» النخب الإدارية الموالية لهم.
ومن هنا يمكن القول إن الإدارة المغربية تعيش اليوم جوا «انتخابيا» وسياسيا محموما لا تكاد تخطئه العين. «غير اللي بغا يدير عين ميكة وصافي».
ساحة النقاش