عبد العزيز الرماني
صحفــــــي
خالتي فرنسا..
إن الطريقة التي تحشر بها فرنسا أنفها في الشؤون الداخلية للمغرب، تشبه إلى حد كبير الدور الذي تقمصته الـمـمـثلة المصـرية عبلة كامل في فيلم «خالتي فرنسا».
والدور الكوميدي الذي لعبته عبلة كامل كان يتميز بالـتـعـدد والـغـرابــة، فهــي امرأة فضولية ومحتكرة جدا، وحرفتها هي تشويه سمعة الناس وفضح أعراضهم مقابل مبلغ مالي يدفعه زبـنـاؤهـا، وهذه الحرفة يسميها المصريون «شـرشوحة». كما أنها تتدخل في كل الشؤون الخاصة بابنة أختها، وتعمل على إزعاجها وتدبير بعض الدسائس والمؤامرات لدفعها إلى امتهان الحرفة ذاتها.
وحال فرنسا مع المغرب،هو نفسه حال عبلة كامل مع ابنة أختها؛ ففرنسا تحشر نفسها كثيرا في الشؤون الداخلية لبلدنا، وتنصب نفسها راعية لمصالحه، وفي ذات الوقت، تحتضن وترعى كل من يسيء إلى المغرب ومصالحه.
وكل من سولت له نفسه الإضرار بالمغرب،سيجد في حضن خالتي فرنسا الدفء والرعاية والعطف والتوجيه،وسيجد في صفحات جرائدها سعة المساحة، وفي شركات نشرها السخاء والكرم.
أما كل من أراد أن يضرب المغرب بالحجر أو يذم « عورة » أحد أبنائه، فله في القنوات التلفزيـة الفرنسية الملاذ والملجأ، وكأن المغرب كله عورات ومساوئ:
«لسانك لا تذكر به عـــــــورة امرئ
فكلك عورات وللنـــــــاس ألـســـــن
وعينك إن أبدت إليك مســـــــــاؤئا
فصنها أو قل يا عين للناس أعين».
خالتي فرنسا لا ترتاح إذن، ولا تريد الراحة للمغرب،فهي كلما وجدت فتيلا منسيا قرب بيت مغربي، إلا وأشعلته لتحرق به المكان عوض أن تضيئه. وكذلك كانت منذ القدم، تأكل من خيراتنا وتلعن كرمنا.
يحكي كاتب فرنسي قديم يسمى إمــانويل شلومبيرجر، كان يشتغل سفيرا في أواخر القرن التاسع عشر، وزار المغرب رفقة وزير يسمى أورديغا،أنه رأى في طريقه بين الجديدة ومراكش قواد دكالة والرحامنة والحوز،وهم يستقبلون البعثة الفرنسية باحتفالات باذخة «يسمونه كرما في المغرب، بينما هو ابتزاز للمغاربة الطيبين».
وكتب هذا المبعوث في رسائله التي جمعت في كتاب تحت عنوان «رحلة إلى المغرب»:
« استقبلنا القايد محمد العـــروي، قائد ولاد بوعزيز باحتفال ضخم...، وأحضر لنا هدايا كما جرت العادة.. ويعد القائد بمثابة قاطع طريق... ولقد رفض دفع مبلغ مالي للسيد أورديغا سبق أن تم الاتفاق حوله، فأعلن الوزير أورديــغـــا أنه سـيـطلب عزله من قبل السلطان، فأنهى الباشا خداعه بعد لأي، وقدم المبلغ للوزير».
وفرنسا استفادت كثيرا من كل « الـبـوحـمـاريـيـن» الطامعين في العرش والسلطة، وأغدقت عليهم الأموال كي يعيقوا تقدم البلاد، ويزحزحوا استقرارها. بل إنها سارعت إلى زرع نار الفتنة بين الأمراء، وتدخلت في صراع السلاطين الأشقاء، ومولت المعــارك التي دارت رحاها بين المولى عبد الحفيظ والمولى عبد العزيز حول من له الأحقية في العرش.
خالتي فرنسا هي التي أنشأت جريدة «السعادة» سنة 1904، وسمت الجزائري الحاقد إدريس الـخـبــزاوي رئيسا للتحرير، وبعده اللبناني البغيض إدريس كرم، وقد وجدا معا في الصراع القائم بين السلطانين غذاء وعشاء لقلميهما.
وفرنسا هي التي حثت المولى عبد العزيز كي ينشئ جريدة سماها « لسان المغرب»، وحثت المولى عبد الحفيظ كي ينشئ جـريدة سماها «الفجر»، فيدافع بهما كل منهما عن حكمه، ويلعن فيهما كل منهما حكم أخيه.
وفرنسا هي التي وهبت الأموال لطبع وتدوين كل ما يكتب عن أخطاء المولى عبد الحفيظ والمولى عبد العزيز،وهي التي ترجمت قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم التي يقول فيها:
«عبد العزيز لـقـد ذكـرتــنــا أمــمـــــا
كانت جوارك في لــهــو وفــي لــعـــب
ذكرتنا يوم ضاعت أرض أنــدلـــــــس
الحرب في الباب والسلطان في لعب».
وحين ادعى «بوحمارة» أنه الابن الأكبر للسلطان مولاي الحسن،وأنه الأحق بالملك من أخويه مولاي عبد الحفيظ والمولى عـبــد العزيز، نصبته فرنسا سلطانا على المنطقة الشرقية لمدة 7 سنوات، وجعلت مدينة تــــــــازة عاصمة لملكه، قبل أن يعتقل بمنطقة مستارة، وينكل به المواطنون بطريقة تشبه التنكيل الذي لاقاه العقيد الليبي معمر القذافي من ثواره.
وحين استغل محمد بن عرفة نسبه للعلويين ونفخ أوداجه، نصبته فرنسا ملكا على المغرب لمدة سنتين،ثم أعادت السلطان محمد الخامس إلى عرشه بعد أن نفته إلى مدغشقر. ووفرت الإقامة والـحـمـايـــة لابن عرفة وعائلته، في مدينة نيس الفرنسية، إلى أن توفى بها سنة 1976، وعمره تسعون سنة.
وحين انتفض شاب لا يعرفه المغاربة؛ اسمه هــشـــام الـمـنـظــري، وادعى أنه ابن للملك الحسن الثاني؛ وجد ضالته في الصحف الفرنسية، التي استقبلت هلوساته بالورود والرياحين.
لقد توفي المولى عبد الحفيظ بعيدا عن كرسي العرش بفرنسا سنة 1937، وتوفي المولى عبد العزيز في طنجـــة «الدولية» بعيدا هو الآخر عن كرسي العرش سنة 1943،أما خالتي فرنسا فمازالت على عادتها، تمضغ العلكة بفمها وتأكل الثوم بأفواه المغاربة.
ساحة النقاش