حكيم عنكر
أعيرة نارية في الفراغ
العدد :2413 -
ما كان على رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أن يلعب على وتر الأسرة والعائلة وخروج المرأة للعمل، وأن يقدم تفسيرا «عاطفيا» للمشكلات الاقتصادية وما بنجم عنها من مشكلات اجتماعية، وهو سيد العارفين بأن الممسك بقياد الحكومة لا ينبغي أن يقود بتلك اليد، حتى وإن كان كلامه يلاقي الصدى أو يحقق أصواتا محترمة في صناديق الاقتراع.
وبعيدا عن رمي رئيس الحكومة بشعارات أو مسح اتهامات في بذلته الحكومية، فإن ما قاله لا يليق بالمرحلة التي يمر منها المغرب، وبدل أن يبقى في متراس المحافظة على الاستقرار الذي جاء من أجله، ها هو يخرج المظاهرات ضده إلى الشارع، بشعارات قوية، فيها لعب على حبال التخويف من الإسلاميين، وتحذير من نواياهم المدفونة لقلب المجتمع وتجييره لصالح جهة يعتبرها خصوم الإسلاميين «ظلامية».
وليست هذه هي العلة الوحيدة للحكومة، بل هناك علل أخرى، من بينها، على وجه الخصوص، الشعاراتُ المتعلقة بالحكامة في المرفق الإداري المغربي، والحكامة في المشهد السياسي، والحكامة والشفافية، وتحسين الحكامة، والحكامة والتنافسية، والحكامة والديمقراطية، والحكامة وصندوق المقاصة.. وهي اللغة المفتاح اليوم للطبقة السياسية التي تحكم، والتي تتغنى بالحكامة، وتنشدها وتتغزل بها، وتقيم لها الندوات والموائد المستديرة، وتصرف عليها المال العام، وتهدر من أجلها ساعات ثمينة من الوقت، والهدف دائما هو «الحكامة الجيدة»؛ لكن، كما يقال، لا أحد يعرف من بين هؤلاء الباحثين والسياسيين ورجال ونساء الحكومة وقوى المعارضة والجلسات الممسرحة في القبة، (لا أحد يعرف من بينهم) أين هي الحكامة الجيدة، وفي أي ناحية توجد، وهل هي منتوج وطني أم بضاعة مستوردة من متاع الغرب!
الحزب الإسلامي، الذي يحكم إلى جانب يسار ويمين، أصبح هو نفسه يقبل بها، وجدها قريبة من لسانه الدارج.. فهي، ككلمة، لها روابط كثيرة بـ»الحكومة» و»الحكم» و»الحكمة»؛ وهي، حين تلتبس، يكون معناها أحلى وأشهى.. إنها مثل حلوى لذيذة تذوب في الفم وتبعث على الخدر، ولا شيء بعد ذلك يبقى غير حلاوة في الفم وذكرى من أمنيات لتطوير الإدارة في المغرب وجعلها تتماشى وتطلعات المواطنين.
ينسى هؤلاء أنه لا يمكنهم أن «يُحـَوْكموا» ما لا يحوكـَم، فكما أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق بدون ديمقراطيين يؤمنون بها، كذلك لا يمكن أن يجري تسيير الشأن الإداري والسياسي بطريقة جيدة وتخضع لمقاييس وقوانين التدبير الشفاف، ما لم يكن المسير الإداري والقاصد لهذا المرفق على اقتناع تام بأن القضاء على مظاهر الاستبداد الإداري يبدأ من الخطوة الصغيرة في المقاطعة وفي المستوصف الصحي وعند مخفر الشرطة وفي باب المحكمة.
الحكامة الجيدة هي مثل كلمات شبيهة لها في قاموس التداول، في المشهد العام، وهي، شأنها شأن «التخليق» أو «الشفافية» وغيرهما مما أنتجه نظام إداري في الضفة الأخرى من المتوسط، جرت استعارتها ونقل قشرتها الظاهرة، دون أن يحدث نوع من الإصلاح الحقيقي للإدارة المغربية المتقادمة التي، هي نفسها، موروثة عن ثلاثينيات الإدارة الاستعمارية، فيكف يمكن مخاطبة كرسي من خشب بلغة الكراسي المتحركة الدوارة، ولا الجدران المغلقة بفن الحواجز الزجاجية الشفافة، التي تظهر كل شيء باديا للعيان.
وتبعا لذلك، فلا يمكن للإدارة الفاسدة أن تنتج خطابا أخلاقيا شفافا عن النزاهة، ولا يمكنها أن «تتخلق» أو تتشبه بالزجاج، ذلك أن الانعكاس يخيفها ويكشف عن البتور والتعطنات التي تكتنف جلدها المتهرئ والمتقادم ومنارتها الموغلة في البيروقراطية.
الأزمة في المغرب ليست أزمة اقتصادية، بل هي في العمق أزمة طرق بالية في التدبير الإداري، حتى وإن كانت قد جرت إضافة الطلاء اللامع إلى الجدران الصماء، باستعارة اللغة الجديدة لـ»المناجمانت»، فإن ذلك لا يصل إلى العمق، ولا يهش ولا يبش، لأن مصدر الداء قديم.
إن التهريب والتهرب الضريبي ونقل الأموال إلى الخارج خارج القانون والسطو على العقارات وتزوير الوثائق والمستندات وتلفيق التهم والتفنن في أشكال المحاصرة وكسر العظم وليّ الأيدي وغيرها من «الفنون الجهنمية»، كلها مؤشرات تدل على أنه لا يمكن تحقيق الحكامة وغيرها، بمجرد عقد ندوات في الفنادق الفخمة ولا في الساحات الضيقة.
هذا هو الوضع، تتوزعه قوى مصالح؛ لكن حين تغيب مصلحة البلاد أو ما يسماه الملك الراحل الحسن الثاني «الصالح العام»، يسير أهل البلاد بالبلاد نحو الهاوية، وهذا هو الخط الأحمر المنهي عن تكسيره.
ساحة النقاش