الأخبار العدد 469 الجمعة 23 رجب 1435 الموافق ل23 ماي 2014
«البحث» عن جوا منجل
عندما يقول لحسن الداودي وزير التعليم العالي إن البحث العلمي في المغرب يسير على الطريق الصحيح وأن نتائجه ستظهر عما قريب، فهذا يعني أن سعادة الوزير لا يعلم أن البحث الوحيد الذي يوجد في المغرب هو بحث «شي وحدين على جوا منجل». كما يعني أيضا أن سعادته لم يطلع على قصة شركة «نيموتيك تكنولوجي» التي أغلقت أبوابها السنة الماضية.
والواقع أن قصة هذه الشركة التابعة لأحد فروع صندوق الإيداع والتدبير تلخص بأمانة وضعية البحث العلمي في المغرب والطريقة المهينة التي يتم التعامل بها مع الخبراء والباحثين ومهندسي المعلوميات المغاربة.
متى بدأت هذه القصة، أو بالأحرى المأساة؟
كل شيء بدأ سنة 2007 عندما قررت شركة «ميدز» MEDZ فرع صندوق الإيداع والتدبير إنشاء شركة تكون هي أول شركة مغربية في القارة الإفريقية لتصنيع التكنولوجيا الدقيقة المتطورة، أو ما يسمى Wafer Level packaging، داخل قاعات بيضاء مخصصة لهذا الغرض. فأسست شركة اسمها «نيموتيك تكنولوجي» يمتلك فيها صندوق الإيداع والتدبير 97.5 في المائة فيما تمتلك شركة «تاسيرا» البرتغالية 2.5 في المائة.
ومن أجل إطلاق هذا المشروع الطموح تعاقدت شركة «ميدز» على عهد مديرها السابق علي غنام مع 12 مهندسا عبر شركة «كازا نيرشور» CASANEARSHORE، فرع «ميدز»، وأرسلتهم إلى إسرائيل وأمريكا عند شركة TESSERA التي باعت شركة «نيموتيك» حقوق استغلال تكنولوجياتهم المتخصصة في صناعة كاميرات دقيقة خاصة بالهواتف الذكية.
وبمجرد عودة الطاقم إلى المغرب بدأت الشركة في عملية الانتاج التي وصلت إلى حوالي 96 في المائة من قدرتها بحوالي 340 مهندس ومستخدم ومساعد، كلهم مغاربة.
استمرت وتيرة الإنتاج طيلة خمس سنوات تحولت معها الشركة إلى واجهة جذابة بالنسبة إلى صورة المغرب. غير أن انخفاض طلبيات شركات «شارب» و«ريوش» اليابانيتين وشركة «سيتي» الكورية خلال سنة 2012 قلص وتيرة الإنتاج وبالتالي انعكس ذلك على رقم معاملات الشركة برسم سنة 2013.
ولهذا السبب قرر العلمي المدير العام لإدارة صندوق الإيداع والتدبير تقليص كتلة الأجور إلى النصف، وعليه فتحت الإدارة مشروعا للمغادرة الطوعية، وهو المشروع الذي لم يكن مدير شركة «نيموتيك» البرتغالي متفقا معه، لأنه كان يفضل الطرد على التفاوض حتى يختار من سيبقى معه في الشركة، لكنه في النهاية رضخ لقرار المغادرة.
والنتيجة كانت هي أن 97 في المائة من مهندسي وأطر الشركة، الذين جاء معظمهم من أمريكا وكندا وفرنسا وألمانيا، اختاروا المغادرة الطوعية. وهكذا ففي سنة 2013 غادر الجميع «المصنع» الذي كلف إنشاؤه شركة MEDZ التابعة لصندوق الإيداع والتدبير غلافا ماليا قدره 100 مليون دولار، رغم إغلاقه لأبوابه لازال «المصنع» الذي توجد به معدات عالية التطور التكنولوجي يستهلك الماء والكهرباء يوميا وينتج فاتورة تصل إلى خمسين مليونا في الشهر، يدفعها صندوق الإيداع والتدبير.
واليوم لدى شركة «ميدز» مصنع اسمه «نيموتيك» يمتد على مساحة 12.000 متر مربع يحتوي على «قاعات بيضاء» مجهزة بتكنولوجيا متطورة لصناعة الكاميرا الرقمية، هو الوحيد في العالم الذي يصنع هذه الكاميرات من ألفها إلى يائها، تبلغ قيمة هذه التكنولوجيا الإجمالية 20 مليون دولار، هذا المصنع الذي كان من المفروض أن ينتج 3000 لوحة «سيليسيوم» plaquettes de siliciums، و1000 «لوحة عدسات» plaquettes de lentilles في الشهر عاطل عن العمل منذ 2013.
وحتى ومصنع الشركة متوقف عن الإنتاج فإن صيانة معداته وآلياته الباهظة مستمرة، وقد أسندت شركة «ميدز» فرع صندوق الإيداع والتدبير صفقة الصيانة إلى شركة خاصة مقابل تعويض شهري يضاف إلى مصاريف الماء والكهرباء التي تستهلك في المصنع حوالي 50 مليونا شهريا.
فكيف يجرؤ وزير التعليم العالي على القول إن البحث العلمي في المغرب يسير على الطريق الصحيح وأن نتائجه ستظهر عما قريب؟
ألا يرى سعادته أن نتائج أكبر وأهم تجربة علمية لصناعة الكاميرات الرقمية لفائدة شركات عالمية رائدة تم إجهاضها في مهدها وتم تشريد عشرات المهندسين الذين تم استدراجهم من كندا وأمريكا وأوروبا عن طريق وهج هذا المشروع الاستثنائي الذي تحول إلى سراب، والذين انتهى معظمهم عاطلا عن العمل؟
إن حجم الإنفاق العمومي على هذا المشروع والذي خرج من صندوق الإيداع والتدبير والذي يدير ودائع دافعي الضرائب، يفترض أن يتم استدعاء مدير هذه المؤسسة إلى البرلمان لكي يشرح للنواب الأسباب التي دفعته إلى توقيف هذا المشروع والاستمرار في الإنفاق على صيانته واستهلاكه للماء والكهرباء.
والواقع أن الوقت قد حان لمراجعة كل المشاريع التي استثمر فيها صندوق الإيداع والتدبير مدخرات صناديق التقاعد، خصوصا أن هذه الأموال تبقى أموال دافعي الضرائب ومن حقهم أن يعرفوا أين تم صرف فوائدها.
وعندما نلقي نظرة سريعة على نوع المشاريع التي استثمر فيها صندوق الإيداع والتدبير مدخراته، نلاحظ أن أغلبها مشاريع تدخل ضمن المشاريع السياحية الفخمة التي تعتبر غير مضمونة من ناحية العائدات والأرباح. فيكفي أن يتعرض قطاع السياحة لفترة ركود، وهو ما يحصل حاليا، لكي تتوقف هذه المشاريع وتصبح عالة على الصندوق عوض أن تكون رافعة له.
ويكفي أن نعرف أن المبلغ الإجمالي الذي استثمره صندوق الإيداع والتدبير في المشاريع السياحية والعمرانية والتي انخرط فيها يصل إلى حوالي 650 مليار درهم، أو 6500 مليار سنتيم. بمعنى أن المبلغ الذي استثمره صندوق الإيداع والتدبير يفوق المبلغ الذي منحه صندوق النقد الدولي للمغرب في الخط الائتماني المفتوح، والذي وعد رئيس الحكومة بعدم استعماله.
ويبدو أن عمل قضاة إدريس جطو سيكون كبيرا ومعقدا داخل صندوق العجب هذا. غير أن مسحا أوليا قد يفيدهم في تفقد أسباب تعثر بعض المشاريع السياحية التي لازالت تراوح مكانها، والتي راهن الصندوق بمليارات الدراهم على إنجازها.
هناك مشروع «الشريفية» السياحي بمراكش، حيث الفنادق وحفر الغولف، والذي رصد له صندوق الإيداع والتدبير مبلغ 4،6 ملايير درهم. وهناك مشروع «إكوبارك سمير» السياحي بالمضيق، الذي رصد له الصندوق 80 مليون درهم. وهناك مشروع «فندق كرابو» بالمضيق، الذي رصد له الصندوق مبلغ 122 مليون درهم. وهناك مشروع «واد شبيكة» بطانطان الذي رصد له الصندوق 6،8 ملايير درهم، والذي أصبح عادل الدويري وزير السياحة آنذاك عضوا في مجلس إدارة شركة «أراسموس» بعد أن منحها الصفقة. وهناك مشروع «واد فاس» الذي رصد له الصندوق 600 مليون درهم. وهناك مشروع «عبدونا طريفة» بالناظور الذي رصد له الصندوق ميزانية قدرها 8 ملايير درهم. وهناك مشروع «كلا إريس» بالحسيمة الذي رصد له الصندوق 2 مليار درهم. وهناك مشروع «كازا غرين تاون» الذي رصد له الصندوق ميزانية قدرها 9 ملايير درهم. وهناك مشروع «مارينا الدار البيضاء» الذي رصد له الصندوق ميزانية قدرها 5 ملايير درهم.
وهذا جزء بسيط من المشاريع السياحية الفخمة التي رصد لها صندوق الإيداع والتدبير ميزانيات بمئات المليارات من الدراهم. وهي كلها مشاريع تتضمن فنادق خمسة نجوم بالاص وملاعب للغولف ومارينا لرسو اليخوت وخدمات صحية وترفيهية موجهة للأثرياء وسياح الدرجة الأولى.
المشكلة الوحيدة بالنسبة إلى المشاريع التي ذكرنا أعلاه هي أن إنجازها لازال متعثرا، رغم كل الميزانيات التي رصدت لها. كما أنه ليس هناك ما يدل على أنها ستكون مشاريع مربحة في حالة إنهائها. لأن السياحة الوطنية تعرف تراجعا واضحا وركودا غير مسبوق. أما مليارديرات المغرب فيفضلون امتلاك سكن في المنتجعات السياحية، لكن خارج المغرب.
والسؤال الذي يبدو أن رئيس الحكومة تهرب من طرحه بخصوص معضلة صناديق التقاعد، هو ماذا كانت ستكون عليه أرباح هذه الصناديق لو أنها لم تكن مجبرة على إيداع مدخرات زبائنها لدى صندوق الإيداع والتدبير؟
والسؤال الثاني، والأهم، هو كم كانت ستكون أرباح صندوق الإيداع والتدبير لو أنه استثمر مجموع مبالغ صناديق التقاعد المودعة لديه، والتي وصلت إلى 6500 مليار سنتيم، في مشاريع مدرة للدخل والثروة عوض المقامرة، عفوا «المغامرة» بها في بناء الفنادق وحفر الغولف والمشاريع السياحية الفخمة غير مضمونة الأرباح وجلها متعثر؟
إذن ليس تمديد سن التقاعد وإجبار المغاربة الكادحين على العمل إلى حدود 65 سنة، مع إنهاكهم بالرفع من نسبة مساهمتهم الشهرية، هو الحل الوحيد لإصلاح أنظمة التقاعد.
هناك حلول أخرى. وأهمها تحرير صناديق التقاعد من إجبارية وضع مدخراتها لدى صندوق الإيداع والتدبير، أو على الأقل إجبار صندوق الإيداع والتدبير على الرفع من نسبة الفائدة السنوية لفائدة هذه الصناديق.
ثم امتلاك رئيس الحكومة للشجاعة السياسية للقيام بإصلاح داخلي عميق لصندوق الإيداع والتدبير بمديرياته 12، ومتصرفيه التسع، وفروعه 103 التي تبدأ من البناء والخدمات والسياحة وتنتهي في الغابات ومواقف السيارات.
على رئيس الحكومة أن يوجه عبارة «مغاديش يخلعني» التي قالها في اجتماع رؤساء أغلبيته حول شخصي المتواضع نحو «إمبراطورية بلاص بيتري»، عندها فقط سنعرف أنه «مامخلوعش منهم بالصح».
وكما قال «لويز باولز» فإن الدواء الوحيد ضد الخوف هو الشجاعة.
ساحة النقاش