تركيا ودلالات خسارة السراج في ليبيا
<!--<!--
“رأي اليوم” الدكتور حسن مرهج* كاتب فلسطيني
شكّلت الأزمة الليبية بأبعادها الإقليمية والدولية، ساحة استراتيجية للتجاذبات السياسية والعسكرية، ونمطاً في الإصطفافات الجديدة على مستوى النظام الدولي، فما بين طرفي النزاع في ليبيا، والمعادلات التي شُكّلت بمقتضى المصالح السياسية والاقتصادية، برزت جُملة من التحديات التي ألقت بظلال تأثيراتها، ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل وصلت تداعيات هذه الأزمة إلى القارة العجوز، فضلاً عن تحوّل شرق المتوسط لساحة كباش، قد تجرّ التطورات إلى حرب إقليمية ودولية.
ضمن هذا، تبدو تركيا الباحثة عن أمجاد العثمانية، وكأنها تُسوّق لنفسها على أنها قوة إقليمية ودولية، تُمرر ما تشاء وفق مقتضيات سياستها الخارجية، وقد شكّلت الأزمة السورية منطلقاً للجموح التركي، خاصة أن أردوغان ظنّ في غفلة سياسية، بأنه السلطان الذي لا يقهر، وعليه انطلق بأوهامه إلى ليبيا لدعم فائز السراج، لكن جُملة التطورات في ليبيا، لم تكن وفق حسابات تركيا أو حكومة الوفاق برئاسة السراج، فالتطورات العسكرية التي حققها الجيش الليبي في الكثير من المناطق الليبية، أحدثت خرقاً وتصدعاً في عموم التحالفات الناشئة جراء الأزمة الليبية.
ضمن ما سبق، أثارت التصريحات والردود التركية حول نية رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج الإستقالة قريباً، الكثير من التساؤلات عن مصير العلاقات والإتفاقات التركية مع ليبيا، بعد قدوم رئيس حكومة جديد ربما يخالف خط سير السراج كثيراً، خاصة لو كان من منطقة الشرق الليبي.
حقيقة الأمر، تركيا تدور في حلقة مفرغة وتتخبط سياسياً وعسكرياً، والمتابع للتصريحات التركية، يُدرك بأنّ نظام أردوغان قد فقد السيطرة على خياراته في ليبيا، وهنا لن ندخل في مستوى التصريحات الأمريكية والغربية عموماً، لكن من المهم الإضاءة على ردود الفعل التركية، جراء نية السراج استقالته.
فقد عبّر الرئيس التركي رجب أردوغان عن انزعاجه من خطوة استقالة السراج في هذا التوقيت، في حين أكدت الرئاسة التركية أنّ الإستقالة لن تؤثر على الإتفاقات مع ليبيا كونها أبرمت بين حكومات وليس أفرادا، وأن قرارات الوفاق مع أنقرة تظل سارية المفعول، وفق المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن.
وفي إشارة للتعاون مع الحكومة الليبية الجديدة حال تشكلت، أوضح كالن أن العلاقات بين البلدين ستستمر بأية حال لأهمية ليبيا بالنسبة لهم وأنّ بلاده على استعداد لتعاون أوسع في مجالات أخرى غير العسكري والاقتصادي مثل استثمارات البنية التحتية والمستشفيات والرعاية الصحية والطرق والطاقة.
وبين انزعاج أردوغان وتصريحات كالن تظهر تساؤلات عدة من بينها: هل سيؤثر رحيل السراج على التقارب التركي الليبي؟ وهل يلغي رئيس الحكومة الليبية الجديدة الإتفاقات مع أنقرة؟.
الواقعية السياسية تفترض قراءة منطقية للتطورات الليبية، ورغم الأنباء التي تتحدث عن تصدع مسار العلاقات التركية مع حكومة الوفاق، نقول صراحة أنّ كل الإتفاقيات التركية مع حكومة السراج، لن تتأثر باستقالته، خاصة أنها وقعت بين حكومتين، وستبقى سارية المفعول طالما استمر الغرض منها قائماً وهو خدمة مصالح كل طرف.
أضف إلى ذلك، أن تركيبة حكومة الوفاق ستبقى كما هي بعد استقالة السراج، ومن المتوقع أن ينوب أحد المقربين من تركيا رئاسة الوفاق، وبالتالي حُكماً سيسير على خطى السراج، لكن في المقابل، فإن حكومة الوفاق تواجه تحديات ترقى إلى مستوى التشظيات السياسية والعسكرية والاقتصادية. الأمر الذي ستكون له تأثيرات مباشرة على مستوى العلاقات الليبية التركية، فضلاً عن توجهات جديدة تلوح في الأفق الليبي، لجهة البحث عن طُرق لحل الأزمة الليبية وفق القواعد الأمريكية والروسية.
في الخلاصة يُمكننا القول، أنّ الأوضاع في ليبيا متغيرة بشكل كبير، وهو ما يشكل عامل قلق ليس فقط لتركيا، ولكن حتى للأطراف الأُخرى المنخرطة في الصراع الليبي- الليبي، وتوارث الإتفاقيات يعتبر عرفاً دوليا شائعاً، لكن ذلك يعتمد على قوة تلك الإتفاقيات ومواقف جميع الأطراف منها، وكذلك مواقف الأطراف الفاعلة، خاصة الأطراف الخارجية التي تتأثر مصالحها بتلك الإتفاقيات، والالتزام بالإتفاقيات في أي نظام جديد يعتمد على القوى التي ستأتي بعد هذا النظام، إذا رأت فيها عنصر قوة لها ستحترمها حتى ولو لم تكن طرفا فيها.
وعليه، فإنّ على تركيا أردوغان أن تقلق من استقالة السراج، فبهذه الإستقالة ستخسر تركيا استثماراً سياسياً ضاغطاً على القوى الكبرى، وبالتالي فقدان ورقة هامة ستكون لها منعكسات سلبية على عموم السياسات التركية، إذ بات واضحاً أنّ أردوغان يخسر رويداً رويداً في السياسة كما في الميدان، ولن يكون بمقدوره مقايضة ليبيا بأي ساحة صراع أُخرى، خاصة في إدلب، فالأنباء الواردة من هناك تؤكد بأنّ روسيا باتت مقتنعة بضرورة إيقاف العثماني أردوغان، كما أنّ قوة الموقف السياسي في دمشق، تفترض توجهات روسية صارمة حيال إرهاب أردوغان، وكذا الإرهاب الأمريكي في شرق الفرات. ورغم ذلك، فإن السياسة دائماً ما تُخفي في طياتها أوراق جديدة، لكن بكل تأكيد لن تكون تركيا اليوم، كما تركيا في قادم الأيام.
ساحة النقاش