في مقال له خصّ به جريدة الأخبار..ظريف: لتفهم أميركا أن القوة لا تصنع الحقّ
<!--<!--
الخميس ١٣ أغسطس ٢٠٢٠ - ٠٥:٣١ بتوقيت غرينتش
نحن الذين نمثّلُ اليومَ هدفاً لأكثر العقوبات شراً وظلاميةً، نرى بوضوحٍ كاملٍ ماهيةَ النظام الفعلي للولايات المتحدة الأميركية؛ هذه الدولة لا تملكُ أيَّ رؤيةٍ واضحةٍ حول مستقبل المجتمع العالمي.
العالم - إيران - محمد جواد ظريف - وزير الخارجية الإيراني
إنّ النظام الحالي في واشنطن، بغضّ النظر عن سوء إدارة كورونا في الداخل، أو زعزعة السلام والاستقرار في الخارج، ليس لديه أيُّ مشروعٍ حقيقيّ، سوى أن يهاجمَ بشكلٍ أعمى كل الذين يدافعون عن سلطة القانون.
لقد رأينا فی الأشهر الماضیة، كيف تجاوز الرئيس الأميركي - في انتهاك متکرر وكامل لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة - حقوق الشعب الفلسطيني وأراد أن يمرّر صفقة القرن التي لن تجلب السلام أو الأمن أو الاستقرار. كما استمرت سياسة العقوبات الظالمة على الشعب اللبناني بلا وجه حق، حتى بعد سقوط الضحايا وتدمير البنى التحتية إثر الانفجار الكبير الذي هزّ العاصمة اللبنانية، وزادت حال الشعب صعوبةً في ظلّ معاناته مع كورونا والأزمة الاقتصادية، فباتت كل كلمات العزاء لا تفي حجمَ المأساة ولا تعدو كونَها محاولةً للتعاطف مع هذا الشعب الذي نقدمُ له كل عبارات العزاء والتضامن والدعم المعنوي والمادي.
مثالُ آخر في هذا المجال، هو طريقة تعامل الولايات المتحدة مع القرار 2231 الذي أصدره مجلس الأمن، الذي كان قد وافق على - ولم یکن منفصلاً عن - خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، المتعارف عليها بالاتفاق النووي في إيران.
في تموز/ يوليو 2015، توصّلت إيران مع كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى اتفاقٍ مهم هدفُه طمأنة العالم حول الماهية السلمية حصراً للبرنامج النووي الإيراني، وفي الوقت ذاته تحرير الشعب الإيراني من العقوبات غير الإنسانية وغير العادلة.
تبنّت الولايات المتحدة وكذلك سائر الدول الموقِّعة بشكلٍ مشترك قرار مجلس الأمن2231، كجزءٍ من التزامات الاتفاق النووي، لأن خطة العمل الشاملة المشتركة جزءٌ لا يتجزأ من القرار، وصفحاتها الـ90 ملحقةٌ به. وبالتالي، فإنّ القرار يثبّتُ خطة العمل الشاملة المشتركة بصفتها حقوقاً دولية. رغم ذلك، أعلنت الولايات المتحدة في شهر أيار 2018 أنها اتخذت قراراً أحادياً بـ«بالخروج عن الاتفاق» ووقف مشاركتها في خطة العمل الشاملة المشتركة. منذ ذلك الحين، أمست إيران وبقية المجتمع الدولي في وضعٍ استثنائيّ، فلقد شهدوا على أن الولايات المتحدة هي الدولة الأولى في تاريخ الأمم المتحدة التي لم تنقض قراراً إلزامياً كانت هي نفسُها من واضعيه فحسب، بل فرضت عقوباتٍ على الدول والشركات التي تدافع عن الحقوق الدولية من خلال تنفيذها لأحكام القرار. وتماماً كما سبقَ أن حذّرتُ مجلس الأمن الشهر الماضي، فإنّ الوضعَ القائم ليس محموداً ولا هو بدائم، وإننا الآن داخل ممرٍّ لا أكثر.
إنّ حملة الافتراء والكذب التي تشنّها الولايات المتحدة - من جملتها الادعاءات الزائفة والمغلوطة حول الإجماع الإقليمي - وحول عواقب التزام من تبقّى من الدول الموقِّعة على خطة العمل الشاملة المشتركة بتنفيذ أحكام الاتفاق - من قبيل تطبيع تعاون إيران الدفاعي مع العالم في تشرين الأول/ أكتوبر - هي حيلةٌ لإخفاء دوافعها الحقيقية ونياتها السيئة: لقد أخفقت أميركا في تفتيت القرار 2231، رغم عامين كاملين من فرض «الضغوط القصوى» على الشعب إلى اليوم، ومنها حرمان المواطنين الإيرانيين العاديين من الحصول على الأدوية والتجهيزات الطبية، وذلك خلال حقبة أشد الأوبئة فتكاً في العالم على مدى عقودٍ توالت. اليوم تأملُ أميركا أن تنجح أخيراً في القضاء على القرار، من خلال سوء تفسيرها لأحكام القرار نفسه الذي تركته عام 2018. هذا السلوك المدمّر للولايات المتحدة يستهدفُ في الواقع بنيةَ الأمم المتحدة بأكملها. سلوكٌ تتبعه الولايات المتحدة لتدمير هذه المنظمة العالمية من خلال استخدام آليات الأمم المتحدة نفسها.
ثمة مواضيع وعواقب مهمةٌ في هذا الخصوص، ينبغي أخذها بعين الاعتبار:
الأول والأهم، وقد يثيرُ التعجب، لمَا وكيف قد يؤدي انهيار مجرد قرارٍ لمجلس الأمن في قضيةٍ معينة فقط، إلى نتائج أعمّ وأوسع. هذه العلاقة موجودةٌ طبعاً. إن أُجبِرَ مجلس الأمن على هدمِ قرارِه بفعلِ بلطجةِ أحدِ أعضائه فقط، فإننا في الواقع سنكونُ أمام أجيالٍ متعاقبة تشهدُ تراجعاً في الإنجازات المتعددة الأهداف في المجتمع العالمي. في غياب احترام القوى كافة للأصول التي وجدَ مجلس الأمنِ من أجل تحقيقها، فإن المجلس لن يتمكن من العمل بواجباته، ولن يعود أيُّ شعبٍ قادراً على القبول بصلاحية هذا المجلس وقدرته.
الثاني يجب أن لا ننسى أن النظام القائم في أميركا خرج من منظمة الصحة العالمية (WHO) بطريقةٍ ساذجة في زمنِ انتشار أسوأ وباءٍ عالمي، إلّا أنه يسعى الآن للسيطرة على سير الإصلاحات في هذه المنظمة نفسها، وإن يكن الثمن إزعاج أقرب الحلفاء الغربيين إليه.
إن سُمحَ للولايات المتحدة بأن تكملَ في هذا الطريق، فإن العالم سيعودُ أدراجه إلى قاعدة «القوة تصنعُ الحق» من جديد؛ ورغم أنّ هذا قد يروقُ أمراء زمن الحرب الباردة الذين يسعون إلى غاياتٍ جديدة، إلّا أنّ عليهم أن يلتفتوا إلى أن منطقَ الظلم الذي شهدناه في زمن الحرب الباردة له حدودٌ كذلك: إن القوتين الكبيرتين في القرن الفائت شهدتا تراجعاً في نفوذهما الدولي، ومثال ذلك الهزيمة العسكرية في أفغانستان، وهي دولة بناتجٍ إجماليٍّ أقلّ من مردود شركة آبل السنوي بـ14 مرة.
إنّ دولة أميركا - في موازاة الحملة على المؤسسات والاتفاقات الدولية - حاولت بكل الطرق أن تُحِلَّ حقوقَها هي محلّ الحقوق الدولية. وهذا يعني عملياً، أن الولايات المتحدة وليس الدول الأوروبية من يقرر مع من تقيمُ الشركات الأوروبية فعالياتٍ تجارية، سواءً في ما يتعلق بتنفيذ القرار 2231، أم بتشغيل خط أنابيب غاز نورداستريم.
وفي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة، حتى اليوم، هي من سعى إلى توسيع صلاحية قوانينها الداخلية، فإنه لا دليل أبداً على بقاء هذا المسعى محصوراً بأميركا وحدها. فمع توسيع صندوق باندورا هذا وتمكينه من قبل بعض الدول، من غير المستبعد تصوّر مستقبلٍ يكون فيه المواطنون العاديون والشرکات الخصوصیة في موضع الاتهامات العظمى الناجمة عن القوانين الداخلية المتكثرة للدول؛ كذلك قوانين محدودية السفر الداخلية، وتجارة الآخرين واستثماراتهم الدولية. نهايةٌ في غاية الرجعية في دنيانا المعولَمة.
بناءً عليه، فإن المجتمع المعولَم بات بشكلٍ عام أمام قرارٍ مهم، وكذلك مجلس الأمم المتحدة بشكلٍ خاص: هل نريد أن نثبّتُ مبدأ احترام سلطة القانون اليوم، أم أننا سنعود إلى قانون الغاب؟
بينما أثبتت إيران مرونتَها وردّها القاطع على البلطجة الحاقدة، أنا على ثقةٍ تامة بأن الدول الأعضاء في مجلس الأمن في الأسابيع والشهور الحساسة المقبلة، ستُجهِضُ المساعي الإنتخابية القتالية لحكومة الولايات المتحدة اليائسة لتدمير النجاح الديبلوماسي في القرن الواحد والعشرين. كما أن المجلس لن يسمحَ بالقضاء على ما تبقى من المواقف المتعددة الجوانب والاتجاهات والحقوق الدولية في هذا المسير
ساحة النقاش