مدرسة التجديد الإسلامي: الشذوذ الجنسي ليس من الحريات
<!--<!--
“رأي اليوم” د. عبد الستار قاسم* بروفيسور وكاتب فلسطيني
ينشب أحيانا في البلدان العربية جدل حول الشذوذ الجنسي وحرية الإنسان، والمثال التونسي أمامنا الآن. وهو جدل ليس بمنبع ذاتي بخاصة أنه لا يوجد تقدير معتبر للحريات عند العرب، وإنما هو بمنبع غربي وضغط سياسي خارجي. يقول المؤمنون بالله من مختلف الأديان أن الشذوذ الجنسي حرام لأنه يخالف شرع الله وخلق الله، وهو يسبب أضرارا مجتمعية كثيرة والمفروض حظره ما أمكن. أم الليبراليون التحرريون المتأثرون بأهل الغرب فيقولون إن هذا ليس شذوذا وإنما زواج مثلي، ومن المفروض أن تكون له تغطية قانونية على اعتبار أن المرء حر بجسده ويفعل به ما يشاء. وأي تقييد لاختيار الإنسان بما يفعل بجسده إنما هو انتقاص من الحريات. أهل الغرب قوننوا الشذوذ واعتبروه زواجا، ويريدون منا قوننته.
هذا ليس زواجا لأنه لا يمثل اقترانا يقوم على ميل طبيعي بين الزوجين وإنما يعبر عن عدد اجتمع عنصراه أو اجتمعت عناصره . الزوجية مسألة طبيعية مبنية في الذات البشرية، وهي تعبر عن نفسها بالاقتران الإيجابي المؤدي إلى نتائج يعود مردودها الإيجابي على الزوجين وعلى المجتمع على حد سواء.
أما رأيي بهذا الموضوع فيرتكز على تعريف الحرية. حتى الآن لم يأت لنا أهل الغرب بتعريف محدد واضح للحرية غير قابل للطعن أو الاعتراض والرفض. فمثلا قالوا إن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية غيرك دون إعطاء توصيف قاطع للنهاية والبداية. وقالوا إن الحرية تعني تحقيق مصالحك الذاتية دون الاعتداء على مصالح الآخرين، وقالوا إن الحرية تعني التوزيع العادل للثروة وكل ما يتعلق بمكانة الإنسان واحترامه وتحقيق المساواة.
أما أنا فأعرف الحرية على أنها ممارسة الطاقات الإنسانية إلى منتهاها في توازن بين مختلف الطاقات فلا تطغى إحداها على ما عداها. طبعا هذا تعريفي ولهذا لن ينتبه إليه أحد، ولن تجعل منه وسائل الإعلام قضية. لو كان التعريف لأمريكي أو بريطاني أو يهودي لوجدته ينتشر بسرعة بين الأكاديميين والمثقفين. وهذا بالطبع أحد عوامل كبح الإنتاج الفلسفي والعلمي عند العرب.
على أية حال، التعريف يعني أنه يتوجب على الدولة وعلى المجتمع توفير الأجواء أو البيئة المناسبة لانبثاق الطاقات الإنسانية لتعبر عن نفسها بأريحية ودون ضغط أو إرهاب أو إثقال. طاقات عديدة مبنية في الإنسان، وهي مادية ومعنوية ومتنوعة. هناك طاقات ذهنية وجسدية وعاطفية وسمعية وبصرية وحدسية وجنسية ودفاعات ذاتية، الخ. وهذه طاقات لا بد أن تعبر عن نفسها، أو لا بد أن تنبثق ليرى الإنسان نفسه أمام نفسه، ويرى إنجازاته فيعتد بنفسه ويواصل طريق التقدم والعطاء. وإذا كان لطاقة من الطاقات أن تُقمع فإن التوازن الإنساني للفرد سيصاب بعاهة نفسية وربما جسدية بسبب انعكاس القهر على صحة الجسد. المفروض أن تكون البيئة صحية لكي لا يشعر الإنسان أن بإمكانه التعبير عن طاقاته المتنوعة وإلا أصيب بالخذلان والذبول وشعر بالقهر والكبت. القهر والكبت خطيران جدا على الإنسان لأنهما يحولان دون الإنتاج والإنجاز. لكن المشكلة تبقى في السؤال: من يستطيع صناعة البيئة المناسبة لتنطلق الطاقات الإنسانية. على الأقل، من الضروري أن يتجمع أهل الثقافة والعلم لتشكيل قوة ضاغطة تمنع الجهلة والأغبياء من تسلم مسؤولية إدارة شؤون الناس.
لدى العرب والمسلمين فن متميز في القمع والإحباط وبطريقة تمس كل الطاقات الإنسانية. نحن حتى الآن لا نعترف بكيانية الفرد المستقلة، ونعمل دائما على التدخل في شؤونه وملاحقته. إن لم تكن المخابرات العربية فعيون الناس. النظام الاجتماعي الذي لا نعرفه بالضبط أشد قمعا من النظام السياسي الذي لا نعرفه أيضا.
الشذوذ الجنسي يخرج عن نطاق الحريات لأنه يعطل طاقة إنسانية أساسية في المحافظة على النوع. إنه خطير على الإنجاب ويؤثر سلبا على العلاقات الاجتماعية. ومن المعروف أن الزوجية هي أساس حيوي في صناعة العلاقات والروابط الاجتماعية. لولا الزوجية لما كان هناك إخوة وأخوات وعمات وخالات وأعمام وأخوال، ولا بنات عم ولا أولاد خال، الخ. الزوجية هي التي تساهم في صناعة النسيج الاجتماعي، وهي التي تقرب الناس بعضهم من بعض.
لا يوجد شيء اسمه الزواج المثلي لأن الزواج يتشكل من موجب وسالب أو من ذكر وأنثى، وهذا صحيح بالنسبة لكل الكائنات الحية والجمادات. في الجمادات موجب وسالب، وهناك الإلكترون والبروتون. وفي الطبيعة، لا يلتحم الموجب بموجب إلا انتهى بمشكلة، وكذلك بالنسبة لالتحام السالب والسالب. ولهذا فإن تعبير الزواج المثلي ليس إلا محاولة لتجميل ما هو قبيح، والمفروض ألا يداري الكتاب والمفكرون المعطيات الفكرية الغربية الشاذة.
ومن المعروف أن الشذوذ الجنسي يسبب أمراضا بخاصة مرض الإيدز، وهو بحد ذاته قذارة مهما شرب المتحابون ملحا إنكليزيا أو أدوية إسهال. وفي هذا اعتداء على المجتمع. الإيدز مرض معد، ويسبب معاناة جسدية ومادية، ويكلف علاجه الدولة أموالا طائلة. فبدل أن توظف الأموال لخدمة الناس، تتحول إلى المختبرات والمستشفيات دون التأكد من الشفاء.
من هنا نقول إن الشذوذ الجنسي ليس فقط اعتداء على المجتمع والناس عموما وإنما هو اعتداء على الذات أيضا. الشاذ جنسيا لا يمارس حرية وفق مقتضيات الطاقة الإنسانية الجنسية وإنما يمارس اعتداء على نفسه يلحق به أضرارا كبيرة. وكل ما يقوم به الإنسان عن سابق قصد وتعمد ويلحق بالتالي بنفسه الضرر والأذى إنما هو ضد الطاقات الإنسانية أي ضد الحريات.
هناك أنظمة عربية متحمسة لسن قوانين لصالح الشواذ جنسيا وذلك لإرضاء أمريكا وبعض الدول الأوروبية، ولتوصل رسالة بأنها مع الحريات وهي أنظمة متحضرة. هذه الأنظمة نفسها لا تسمح للمواطن بالكلام لكن تسمح له بالفساد والإفساد. ودول الغرب تبتهج لقوانين الشذوذ لكنها لا تصنع شيئا لإجبار الأنظمة على تحمل كلام الناس.
كل ما تتم ممارسته ضد الحريات يؤدي إلى مزيد من التخلف والانحطاط، والوطن العربي والمسلمون عموما لم يصلوا إلى الهوان والذل الذي هم فيه إلا بحروبهم ضد حرية الإنسان وبأغطية دينية.
وما ينطبق على الشذوذ الجنسي ينطبق على ممارسات أخرى تعتدي على الطاقات الإنسانية مثل شرب الكحوليات التي تغيّب عقل الإنسان ومشاعره. هذه ممارسات ضارة لا ترتقي بالطاقات الإنسانية وإنما تثبطها.
وباختصار، كل ممارسة تخالف الطبيعة البشرية ( وليس الإنسانية)، أي ما فطر عليه البشر، شاذة وضارة ولا يمكن أن تندرج تحت بند الحريات. وإذا كان هناك من يعجبه هذا الجدل ويمنع الحريات باسم الدين، فإن عليه أن يراجع نفسه. أي أنه على من يصفون أنفسهم بالمتدينين على الرغم من عدم وجود تديّن في الإسلام، أن يعملوا على فلسفة رفضهم لبعض السلوكيات الغربية وعلمنتها (أي جعلها علمية) بدل الاستناد إلى نصوص دينية إسلامية لا يؤمن بها الطرف الآخر.
ساحة النقاش