هل اقتراح السيد جواد ظريف بإبرام اتفاقية عدم اعتداء كافٍ أم أن منطقتنا تحتاج لأكبر من ذلك بكثير؟
<!--<!--
- “رأي اليوم”- د. عبد الحميد فجر سلوم* كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق
خلال الزيارة التي قام بها السيد محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران، إلى العراق في 25 و 26 أيار 2019، طرح من العاصمة بغداد إبرام اتفاقية عدم اعتداء مع الدول الخليجية العربية المجاورة، مشيرا إلى أن طهران ترغب ببناء علاقات متوازنة مع جميع دول الخليج..
بداية ليست دول الخليج العربي في موقع عقد أية اتفاقيات إستراتيجية مع إيران لأن هذا القرار ببساطة هو قرار أمريكي وليس قرار خليجي.. فلم يعد سرا أن هذه الدول تتجه نحو إقامة علاقات إستراتيجية مع إسرائيل، في السر وفي العلن، وهي اليوم بالكامل في المحور الأمريكي الإسرائيلي، وهذا المحور لن يسمح لها بإبرام أية اتفاقيات من قبيلِ تلك التي يقترحها السيد ظريف، لاسيما أن جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي زار أبو ظبي في 29 أيار 2019 ، لصبِّ الزيت على النار وليس لإطفائها..
المحللون الخليجيون خرجوا حالا ليسخروا مِن اقتراح ظريف ويشككوا بنوايا إيران، ويطالبون الجانب الإيراني، كتعبير عن حسن نواياه، أن ينسحب أولا من جزر الطنب الكبرى والصغرى وأبو موسى الإماراتية، وأن يُفكك تنظيماته الخارجية، ويُوقِف كافة أشكال التدخل في شؤون البلدان العربية الداخلية، من اليمن إلى البحرين إلى العراق فسورية ولبنان، وأن ينكفئ داخل حدوده ويتوقف عن طرح الشعارات الثورية العابرة للحدود، ويتحول من الثورة إلى الدولة، وأن يقلص عدد جيشه وينسحب من مياه الخليج.. الخ..
هذه المطالب التي عبّر عنها المحللون الخليجيون تعكس بالكامل مواقف حكوماتهم الخليجية، ومن هنا فإن مبادرة السيد جواد ظريف ليست سوى نفخا في قربة فارغة، ولن تجد لها آذانا صاغية على امتداد الساحة الخليجية..
**
هذه المنطقة من العالم هي منطقة ملتهبة على الدوام، وشعوبها ملَّت من الحروب والفوضى والموت والدمار على مدى عقود طويلة، والتي لم تجلب لها سوى المزيد من مآسي الفقر والبطالة والجوع والحرمان، وباتت تنشد الأمن والأمان والاستقرار والنمو، وهذا لن تجلبه مبادرة السيد ظريف لأنها تبقى(على أهميتها) مبادرة محدودة لا تأخذ بعين الاعتبار الحاجة الشمولية الماسّة والملحة لوضع إستراتيجية عميقة وشاملة ومتكاملة ودائمة لوضع حدٍّ نهائي لكافة مشاكل هذه المنطقة، سواء بين الدول أو في داخل الدول ذاتها..
لا اتفاقات أمنية، ولا اتفاقات هدنة، ولا اتفاقات عدم اعتداء، ولا اتفاقات صداقة، ولا غيرها يمكن أن تضع حدا نهائيا ودائما لصراعات هذه المنطقة ومآسيها طالما بقيت شعوبها مُهمّشة وتتلاعب في مصيرها دوما منظومات حُكم شمولية وفاسدة وفوق القانون، تحولتْ إلى أنظمة إقطاع سياسي أقربُ للعصابات منها للأنظمة، لجهة احتكار السلطة والثروة، وإسناد المناصب وفقا للمحسوبيات والقرابات والمحاصصات العشائرية والدينية والمذهبية والمناطقية والاستزلام، وتغيب فيها سلطة القانون والمؤسسات، وكل نظام يحكم بأمره وليس بأمر شعبه، ويقود بلاده نحو ما تقتضيه مصالحه الخاصة وديمومته وليس نحو ما تقتضيه مصالح الشعوب والأوطان، والنتيجة هي الكوارث والويلات والتهلكة..
**
الطريق الذي سلكته أوروبا بإبرام اتفاقية ويستفاليا عام 1648، هو طريق النجاة والخلاص لشعوب هذه المنطقة ودولها، وذلك للتشابه بين الحالتين..
هناك من يتحسسون لمجرَّد الإشارة إلى التجارب الأوروبية السياسية الناجحة وضرورة الاستفادة منها، وكأن الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى الناجحة بامتياز في السياسة والحرية وحقوق الإنسان، هو جريمة أو ذنب أو كُفر.. هؤلاء يجسدون ثقافة ” بوكو حرام” الظلامية الرافضة لكل منشأ غربي..
لا مانع لديهم أن يأتون بكل شيء من الغرب، وأن يشتروا القصور والمَزارِع في الغرب، وأن يرسلون أولادهم للدراسة في الغرب وأن يحملوا جنسيات الغرب، ولكن حينما تأتي إلى تجارب الغرب السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان فإنهم يقفون بقوة ضد ذلك ويرفضونه!. لماذا؟. لأن مصالح القوى المتسلطة على رقاب الشعوب ليست لها مصلحة في أن تتحرر هذه الشعوب من نير عبوديتها وتسلطها وأن تمتلك قرارها وحريتها ويصبح لديها دول قانون ومؤسسات وحقوق إنسان وحرية تعبير وتداول على السلطة ومُحاسَبة، وتأتي بقياداتها وممثليها بملء إرادتها بدل أن تُفرَض عليها بالقوة والتخويف والترهيب..
**
منطقتنا، عاشت وتعيش، منذ قرون، وليس منذ عقود فقط، حالة غليان شبيهة، بشكلٍ أو بآخر، بالحالة التي كانت تعيشها أوروبا في العصور الوسطى، من صراعات وحروب دينية وطائفية ومذهبية وسياسية طاحنة، ومجازر فظيعة بين الكاثوليك والبروتستانت، وذلك قبل اتفاقية ويستفاليا عام 1648 التي وضعت حدا لكل تلك الويلات..
كل تلك الحروب (العبثية والفظيعة والشنيعة) التي أبادت البشر والحجر والشجر، كان لا بُدّ من وقفها ووضع حدٍّ نهائيٍ لأنهار الدماء، فالتقى الجميع في ويستفاليا الألمانية وعقدوا الصلح الشهير بالتاريخ، المعروف بـٍ ” صلح ويستفاليا” عام 1648.. وكان هذا أول اتفاق دبلوماسي بالعصور الحديثة.. وهو من مهّد لِفصل الدين عن الدولة، وإتباع النهج العَلماني في أوروبا الذي أنقذها وأنقذ شعوبها وأوصلها إلى هذا المستوى الرفيع والراقي من التطور.
عادت أوروبا وخاضت حربين عالميتين في القرن العشرين ذهب ضحيتها عشرات الملايين، ولكن هذه الحروب المريرة دفعت أوروبا للتفكير بآلية جديدة للعلاقات الأوروبية والتعاون والتقارب فيما بينهم يجنبهم المزيد من الحروب، فكانت فكرة التعاون الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية بين الدول الأوروبية التي بدأت مع معاهدة باريس عام1951وانبثقت عنها(منظمة الفحم والصلب الأوروبية)ثم تطورت إلى”المجموعة الاقتصادية الأوروبية”وزاد عدد الأعضاء، واستمرَّ التطور إلى أن انعقدت في عام 1992 معاهدة ماستريخت التي تأسس بموجبها الاتحاد الأوروبي الذي اعتُبر وريثا للمجموعة الأوروبية.
وانبثق عن معاهدة ماستريخت – وللمرة الأولى – مفهوم المواطنَة الأوروبية، أي السماح لمواطني الدول الأعضاء في الاتحاد بالتنقل بحرية بين كل دول الاتحاد.. فأصبحت الجغرافية الأوروبية بمثابة هوية وطنية لكل الأوروبيين.
**
هذا هو النهج الذي تحتاجه منطقتنا، وهذه هي طُرُق وسبُل التعاون التي يجب أن تحصل، ليس فقط في إطار ضيق كما إطار مجلس التعاون الخليجي، وإنما في إطار أوسع يشمل كافة المكونات الأساس بالمنطقة من عرب وإيرانيون وأتراك وأكراد وغيرهم .. وهذا هو الطريق الذي يحرر هذه الشعوب من كافة أشكال العبودية، سواء عبودية الأنظمة الدينية، أم عبودية الأنظمة العائلية الوراثية، أم الشمولية، أم غيرها..
شعوب هذه المنطقة ملَّت وسئمت من كل أشكال العبودية والظلم والتهميش وتنشد الخلاص، ومبادرة السيد ظريف لن تجلب لها هذا الخلاص، لأن المشاكل أعمق من ذلك بكثير..
**
المشكلة ليست فقط في الصراع مع إسرائيل ومع أمريكا، فهاتين قوَّتا احتلال وعدوان معروفتين، وواجب كل عربي وطني وشريف التصدي لمخططات أمريكا ومخططات إسرائيل المدعومة أمريكيا.. والمشكلة ليست فقط بين الدول بالمنطقة، إنها أعمق وأشمل، إنها في الصراعات أيضا داخل الدول.. فهل هناك من يجهل وجود صراعات عميقة وواسعة في كل بلد على حِدَه، سواء بين مكونات الشعوب، أو بينها وبين الأنظمة والقيادات الحاكمة، أم بين النُّخب السياسية ذاتها داخل هذه البلدان، وكلها تقوم على أسس طائفية ودينية ومذهبية وعشائرية وعرقية، أو مصالح سياسية أو سواها.. هذا فضلا عن الصراع مع الإرهاب والتطرُّف ومع العقول التكفيرية الخطيرة.. والصراع بين من ينشدون إقامة دول دينية ويرفعون شعار:(الحل بالإسلام والدولة الدينية) ويريدون إعادتنا 1400سنة للوراء، وبين من يتطلعون للتقدم نحو المستقبل بعقول نيِّرة ومتطورة ومنفتحة وحداثية وحضارية، وليس العودة للوراء..
**
كل هذا لا حلّا له إلا بــِ (ويستفاليا) إسلامية وعربية شاملة تنقل بلدان هذه المنطقة إلى دول القانون والمؤسسات والتساوي بالمواطَنَة، والديمقراطية والتعددية والتداول على السلطة بشكل سلمي عبر صناديق الاقتراع، كما هو حال أوروبا اليوم .. وهذا لن تقبله الأنظمة الملكية العائلية الحاكمة سواء في الخليج العربي أم خارجهُ .. ولن يقبله النظام في إيران أيضا.. فمهما بلغت حدة الخلافات، يبقى الجميع متفقون على بقاء أنظمتهم الشمولية من إيران وحتى المغرب العربي.. ولذا يحاربون أي حراك أو اتجاه نحو الديمقراطية وحرية الشعوب، كما يفعلون اليوم في السودان والجزائر..
وهكذا، على هذا الحال، سيبقى الجميع يراوح في ذات المكان، وستبقى دوامة العنف والحروب والاقتتال الداخلي، ماضية، بين الدول، وداخل الدول، إلى ما شاء الله، وهذا ما تريده أمريكا وإسرائيل، لهذه المنطقة.. وهذا ما توفرهُ المنظومات الحاكمة بنماذج حكمها السائدة..
بالطبع يجب أن نلوم أمريكا، ويجب أن نلوم إسرائيل، ويجب أن نلوم الإرهاب والتكفير والتطرف، ولكن يجب أن نلوم أيضا النظام الرسمي في كل الشرق الأوسط، عربي وغير عربي، فالجميع شركاء في لعبة الموت التي تدفع أثمانها باهظا هذه الشعوب المغلوب على أمرها..
هناك تجربة أوروبية ناجحة أمامنا(مقابل كل تجاربنا الفاشلة) فلماذا نُغمِض أعيننا عنها ولا نعمل للاستفادة منها؟. هل يوجدُ سببا واحدا سوى أن المنظومات الحاكمة لا مصلحة لها بذلك؟.
ساحة النقاش