Select ratingPoorOkayGoodGreatAwesome
<!-- Place this tag where you want the +1 button to render --> <!-- Place this render call where appropriate -->
تُعد شخصية المفتى من حيث شروطه وآدابه هى المحطة الأخيرة فى طريق التشريع الإسلامى، فللإفتاء مكانة عظيمة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يتولى هذا المنصب فى حياته، باعتبار التبليغ عن الله، وقد تولى هذه المكانة بعد النبى، صلى الله عليه وسلم، أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، فالمفتى خليفة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى أداء وظيفة البيان، وشَبَّه «القرافى» المفتى بالترجمان عن مراد الله تعالى، وهذه الدرجة العالية للإفتاء ينبغى ألا تدفع الناس للإقبال عليه، والإسراع فى ادعاء القدرة عليه، سواء أكان ذلك بحسن نية وهى تحصيل الثواب والفضل، أم بسوء نية كالرياء والرغبة فى التسلط والافتخار بين الناس، فقد ورد عن النبى، صلى الله عليه وسلم، قوله: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» (أخرجه الدارمى فى سننه).. وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكلتَ إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها» (متفق عليه).
أما عن الشروط الواجب توافرها فى شخصية من يتولى منصب الإفتاء فهى عديدة، أولها الإسلام، فلا تصح فتيا غير المسلمين للمسلمين. وثانيها العقل، فلا تصح فتيا المجنون. وثالثها البلوغ، وهو أن يبلغ من يفتى الحلم من الرجال، والمحيض من النساء، أو يبلغ 15 عاماً أيهما أقرب، لأنه لا تصح فتيا الصغير والصغيرة، والشرط الرابع هو العلم، فالإفتاء بغير علم حرام، لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتضمن إضلال الناس، وهو من الكبائر.
ويضاف إلى ما سبق شرط التخصص، وهو شرط نضيفه فى هذا العصر، نظراً لطبيعته، ونعنى به أن يكون من يتعرض للإفتاء قد درس الفقه والأصول وقواعد الفقه دراسة مستفيضة، وله دُربة فى ممارسة المسائل وإلمام بالواقع المعيش، ويفضل أن يكون قد نال الدراسات العليا من جامعات معتمدة فى ذلك التخصص، وإن كان هذا الشرط هو مقتضى شرط العلم والاجتهاد، فإن العلم بالفقه والاجتهاد فيه يقتضيان التخصص، ولكن طريقة الوصول إلى هذه الدرجة تحتاج ما ذكر، ولقد اعتبرت التخصص شرطاً منفصلاً رغم اندراجه فى شرط العلم والاجتهاد لحسم حالة الفوضى التى تثار هنا وهناك ممن لم يتخصص فى علم الفقه والأصول، ويعترض ويناظر على فتاوى ما درس مبادئها الفقهية ولا أصولها. (راجع «البحر المحيط» للزركشى، ج8 ص362).
وهناك شرط الاجتهاد، وهو بذل الجهد فى استنباط الحكم الشرعى من الأدلة المعتبرة، وليس المقصود هو أن يبذل العالم جهداً ملاحظاً قبل كل فتوى، وإنما المقصود بلوغ مرتبة الاجتهاد. يضاف إلى ذلك شرط جودة القريحة: ومعنى ذلك أن يكون كثير الإصابة، صحيح الاستنباط، وهذا يحتاج إلى حسن التصور للمسائل، وبقدر ما يستطيع المجتهد أن يتخيل المسائل بقدر ما يعلو اجتهاده، ويفوق أقرانه، فهو يشبه ما يعرف فى دراسات علم النفس بالتصور المبدع. والشرط الأخير هو الفطانة والتيقظ، فيشترط فى المفتى أن يكون فطناً متيقظاً ومنتبهاً بعيداً عن الغفلة.
وهناك بعض الآداب التى يجب أن يتحلى بها المفتى مثل أن يراعى ألا يفتى حال انشغال قلبه بشدة غضب أو فرح أو جوع أو عطش أو إرهاق أو تغير خُلُق، أو كان فى حال نعاس، أو مرض شديد، أو حر مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة الأخبثين، ونحو ذلك من الحاجات التى تمنع صحة الفكر واستقامة الحُكم، كما عليه الحِفاظ على حسن منظره من نظافة وتطهر، ونقاء سريرته باستحضار النية الصالحة عند الفتيا.
إلا أن من الآداب التى ينبغى أن يتحلى بها المفتى، والتى قد تصل إلى حد الشروط فى أيامنا هذه، التيسير على الناس، وإدخالهم فى دين الله، وإلقاء الستر عليهم، والعمل على جعل الناس متبعين لقول معتبر فى الشرع، فذلك خير لهم من تركهم للدين بالكلية، وإيقاعهم فى الفسق، مما يعد صداً عن سبيل الله من حيث لا يشعر العالم، إذن فالمقصد الأساسى الذى يسعى لتحقيقه المفتى هو إحداث آلية شرعية للتعامل مع التراث الفقهى الإسلامى، بحيث لا تخرج عنه ولا تكون عائقاً للمسلم المعاصر، وأن ذلك لا ينبغى الإنكار عليه لأن الرأى الذى سينتهى إليه محل خلاف، وأساس هذا قاعدة: من ابتلى بشىء مما اختُلِف فيه فليقلد من أجاز.
والتيسير الذى نقصده وتتبع الرخص بشروطه هو ما نقل تعريفه ابن أمير الحاج حيث قال: «أى أخذه من كل منها - أى المذاهب - ما هو الأهون فيما يقع من المسائل (ولا يمنع منه مانع شرعى)»، («التقرير والتحبير شرح التحرير»، لابن أمير الحاج، ج3 ص351)، ونستخلص من ذلك أن تتبع الرخص جائز، ولكن بشروط وقيود لا ينبغى إهمالها، وهو مذهب أكثر العلماء، ومن أبرزهم العز بن عبدالسلام، والقرافى، والعطار، وغيرهم من المحققين.
وجاء فى ذلك المعنى نقول أخرى منها قول سفيان الثورى رحمه الله: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذى قد اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه» («حلية الأولياء» ج6 ص368). وقال الإمام أحمد بن حنبل: «لا ينبغى للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم» («الآداب الشرعية» لابن مفلح ج1 ص166، و«غذاء الألباب» للسفارينى ج1 ص223)، وقال الإمام الحنبلى ابن قدامة المقدسى: «وجعل فى سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة» («المغنى» لابن قدامة، ج1 ص1).
إن التيسير على الناس والترخص لهم لإدخالهم فى الدين خير من التعسير عليهم وإلزامهم بالقول الشديد، لما فى ذلك من مخالفة لمنهج النبى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وسبيل الصالحين من أسلافنا العلماء، ولما فيه أحياناً من صَـدٍ عن سبيل الله سبحانه وتعالى.. رزقنا الله الفهم والإخلاص.
ساحة النقاش