تلقت الوسط رؤية علمية متكاملة وضعها الاستشاري الكبير الدكتور ممدوح حمزة لحماية مصر والمصريين من شبح الفقر المائي الذي يتهددنا جميعا ننشرها بالتفصيل فيما يلي :
لا يوجد مورد أنفع للبشرية وأحفظ لوجودها مثل الماء العذب، وكل مورد دونه بدائل إلا الماء، فمنه نشأت الحياة وبه قامت الحضارة، وهو مورد لازم لذاته لايستعاض عنه بغيره كالبترول والفحم والغاز الطبيعى، وهو أصل الحياة ومعين بقائها .
والماء العذب مورد شحيح، بطئ التجدد، يمثل 3% من مجمل مياه الأرض- ظاهرها وباطنها- ونسبة الجليد منه 77.6%، والمياه الجوفية 22% تقريباً، والكمية الباقية لا تتجاوز 1% عليها يحيا 6.7 مليار نسمة معيشة وزراعة وصناعة، ويتحصل عليها فى مناطق كثيرة من العالم بكلفة وعناء، ويتهدد نسبة 30% منه مخاطر التلوث، ويتهدده كذلك الإستهلاك العشوائى الجائر، وتنامى مناطق التصحر والجفاف فى العالم. وتتجلى أثار الأزمة بوضوح فى الوطن العربى، فحصته أقل من1% من المياه العذبة فى العالم، وإجمالي الأمطار الساقطة على أراضيه حوالى 2% من مجمل مياه الأمطار..وتؤكد دراسات "منظمة الأغذية والزراعة" أن هناك 19 دولة عربية واقعة تحت خط الفقر المائي، منها 14 دولة تعاني خطراً حقيقياً في نقص المياه العذبة حاضراً ومستقبلاً . وبحلول عام 2015 ستقل حصة المواطن العربى من المياه العذبة عن 800 متر مكعب سنوياً، وحسب تقديرات منظمة "الفاو" سترتفع الاحتياجات المائية العربية من 205 مليار متر مكعب حالياً إلى 400 مليار متر مكعب بحلول عام 2025، وسيصل عدد السكان إلى 500 مليون نسمة بنهاية نصف القرن الحالى. وتقع مصر ضمن مجموعة الدول الـ 14 الأشد فقراً فى الموارد المائية، فنصيب الفرد فى مصر حالياً لايتجاوز 750 مترمكعب سنوياً، علماً بأن خط الفقر المائي 1000 متر مكعب..وبمراجعة أنصبة المواطنين من المياه فى العالميتضح أن الأزمة المائية قد أدركت مصر بالفعل. فلا وجه للمقارنة بين حصة مواطنيها وحصة مواطنى دول العالم خاصة فى أمريكا الشمالية وأوربا وشرق أسيا والعديد من الدول الإفريقية ومع الوضع فى الإعتبار أن الزراعة تستهلك حوالى 80% من مواردنا المائية العذبة فإن اتخاذ التكلفة المائية معياراً لترسيخ الاستراتيجيات الزراعية يستلزم معرفة المحاصيل الأكثر كلفة مائية والتقليل من زراعتها.. وأيضاً تربية الثروة الحيوانية ذات تكلفة مائية مرتفعة، يلى ذلك بعض المحاصيل الزراعية وأهمها الأرز وقصب السكر، وتتناقص المياه المستهلكة فى إنتاج الخضروات والفواكه والبقوليات والحبوب كالذرة والقمح والفول. ولا يقتصر ضبط التكلفة المائية على تقنين مصادرنا الغذائية فقط ، فالمشروبات التى نتناولها يومياً تدخل فيها حسابات التكلفة المائية، فإنتاج كيلوجرام من الشاى يستهلك حوالى 9200 لتراً من المياه، وهى تكلفة مائية أقل مقارنة بـ 21000 لتراً من المياه تلزم لإنتاج كيلوجرام من البن، وتقل كمية المياه المستهلكة فى إنتاج الشاى الأخضر والينسون والأعشاب البديلة ذات الفوائد الصحية المتميزة .
وبالنظر إلى حجم التكلفة المائية للأنماط الغذائية السائدة فى العالم. يتبين أن النمط الغذائى الأمريكى الذى تدخل فيه اللحوم الحمراء بنسبة عالية تكلفته المائية أكثر من 5500 لتر يومياً، وتنخفض هذه التكلفة فى الأنماط الغذائية كلما تراجعت فيها نسبة اللحوم الحمراء، فالنمط الغذائى النباتى لاتتجاوز تكلفته المائية 2500 لتراً، وهو الأقرب إلى النمط الغذائى الهندى الذى يتفوق فى خصائصه الصحية عن النظم الغذائية الأخرى، فلاشك أن هناك توافق هارمونى بين الأغذية الموفرة للمياه والأغذية المناسبة للصحة..فليس مصادفة أن تكون البدائل الغذائية النباتية أفضل من نظائرها الحيوانية فى مناسبة كمية السعرات الحرارية وتلاشى نسبة الدهون المشبعة والكولسترول المسببان لأمراض الأوعية الدموية التى تعد أساس أمراض القلب والمخ، بالإضافة إلى قلة تكلفتها المائية مما يتوجها كأغذية فائقة الفائدة. وجدير بالذكر أن الأغذية التى أساسها حيوانى تتسبب أكثر من أى مجال آخر فى زيادة ظاهرة الإحتباس الحرارى..فالثروة الحيوانية التى يربيها الإنسان علاوة على تكلفتها المائية الفائقة فإنها الأخطر صحياً بالنسبة له والأشد تلويثاً للبيئة، ولا مبالغة فى القول بتهديدها لوجوده . ويتضح من أن التكلفة المائية للسعرات الحرارية فى الأغذية ذات الأصل الحيوانى مرتفعة جداً خاصة فى اللحوم الحمراء مقارنة ببدائلها النباتية.. فإنتاج سعر حرارى من لحوم الأبقار يستهلك حوالى 6.25 لترات من المياه، فى حين يستهلك إنتاج سعر حرارى من حبوب الفول أقل من 0.25 لتراً من المياه .. وتقل كمية المياه اللازمة لإنتاج السعرات الحرارية من فول الصويا والقمح والمكسرات والبطاطس عن مثيلتها الحيوانية فى الضأن والماعز والدجاج والبيض ومشتقات الألبان . وفى مجال الصناعة: يجب عدم السماح بإقامة صناعات ذات تكلفة مائية مرتفعة إلا فى الضرورات القصوى، مع البحث دائما عن البدائل الصناعية الأقل تكلفة مائية.. ففى مجال صناعة الملابس والمنسوجات فإن التكلفة المائية تقل كثيراً كلما اعتمدت هذه الصناعة على خامات نباتية كالقطن والكتان والحرير أو المنسوجات البتروكيماوية، وترتفع هذه التكلفة كثيراً فى صناعة المنسوجات والملابس والإكسسوارت حيوانية المصدر كالجلود والأصواف والأوبار، مما يعنى أن نكون متحفزين لطلب المستثمرين الأجانب لإقامة صناعات فى مصر ليست فقط ملوثة للبيئة وإنما أيضاً المستنفذة لمواردنا عموماً والمياه على وجه الخصوص. وبمقارنة أكثر تفصيلاً من خلال الشكل البيانى الخاص بالتكلفة المائية لصناعة الملابس والمنسوجات .. يتبين إن إنتاج قطعة من الجينز وزنها 1 كيلو جرام يستهلك 1000 لتر من المياه، بداية من الزراعة ونهاية بوصولها إلى منافذ البيع، بما لا يقارن بكمية المياه اللازمة لإنتاج 1 كجم من الملابس أو الشنط أو الأحذية المصنوعة من جلود الأبقار التى تستهلك حوالى 17000 لتراً من المياه، وبما لايقارن أيضاً بالأصواف التى يستهلك إنتاج الكيلوجرام منها حوالى 170 ألف لتر من المياه . وفى مجال الإستيراد والتصدير: ينبغى منع تصدير منتجات زراعية أو صناعية ذات تكلفة مائية مرتفعة والسماح فقط بتصدير منتجات ذات تكلفة مائية قليلة، والعكس فى مجال الإستيراد بحيث يتم استيراد المنتجات ذات التكلفة المائية المرتفعة التى تتطلبها الأسواق المحلية . إن عرض البيانات السابقة يمثل نموذجاً مصغراً للبيانات والمعلومات الضخمة الموجودة فى المراجع العلمية والأبحاث الإقتصادية المعنية ببحوث التكلفة المائية - لما نأكل ونشرب ونلبس ونزرع ونصنع ونصدر ونستورد - والتى ينبغى أن تكون المرجعية الرئيسية للحكومة لوضع استراتيجية قومية للتوجيه الأمثل فى استخدام المياه العذبة المتاحة لنا، وتكون كذلك إطاراً جوهرياً للمجتمع لتغيير السلوكيات والثقافات الإستهلاكية بين المواطنين . ففى مجال الزراعة: لابد من قيام وزارة الزراعة بتقنين مجالات الإنتاج الزراعى وفقاً للتكلفة المائية، فالثروة الحيوانية -على سبيل المثال- يتطلب إنتاجها قدراً كبيراً من المياه وتعد من أكبر الأسباب التى أدت إلى تفاقم الأزمة المائية لارتباطها بدورات زراعية وتركيب محصولى مرتفع التكلفة المائية..فالبرسيم والشعير والذرة الرفيعة وغيرها من الزراعات اللازمة للأعلاف الحيوانية تؤثر بشدة حسب تقارير الأمم المتحدة على المساحات المنزرعة بالقمح والفول وغيرهما من المحاصيل الاستراتيجية البروتينية اللازمة لطعام الإنسان. هذا التأثير السلبى للإنتاج الحيوانى على الموارد المائية وعلى تقليص مساحات المحاصيل البروتينية يفرض على متخذ القرار مسؤولية اقتصادية كبيرة .. فإما أن ينتج كيلوجرام من اللحوم الحمراء بتكلفة مائية حوالى 17000 لتر، أو ينتج 8 كيلوجرام من الفول بنفس التكلفة المائية، علماً بأن القيمة الغذائية بين اللحوم الحمراء والفول متشابهة كثيراً مع وجود مزايا صحية لصالح الفول. ويمكن من خلال التنسيق مع دول حوض النيل تعويض متطلبات السوق المصرى من البروتينات الحيوانية باستيراد الماشية من دول الحوض والتى تتوفر فيها المراعى الشاسعة بفضل مياه الأمطار ، كما يمكن من خلال التعاون الاقتصادى بين دول الحوض توفيراللحوم والجلود ومشتقات الألبان لدول الحوض كافة، على أن تقدم مصر فى هذا الإطار خبراتها العلمية لهذه الأنشطة.. فالتعاون الاقتصادى بين دول الحوض سيحول كثيراً دون تدخلات أجنبية مغرضة، وسيحفظ المياه فى دول الحوض لأجل دول الحوض ويقنن استخدامها، ويضبط التكلفة المائية فى اقتصاديات هذه الدول .وفى مجال الزراعة أيضاً لابد من تقنين الزراعات الأكثر استهلاكاً للمياه كقصب السكر والاستعاضه عنه بمحصول البنجر، وكذلك مراجعة سياسات زراعة الأرز فى مصر -خاصة بعد رفع الحظر عن تصديره- فإنتاج كيلو جرام من الأرز يستهلك حوالى 3800 لتراً من المياه، وقياساً بتكلفة تحلية مياه البحر.... فإن رى كيلوجرام أرز يساوى 18 جنيهاً تقريباً لتصل التكلفة الإجمالية لسعره إلى حوالى 20 جنيهاً بعد إضافة مصروفات الزراعة والتسميد والحصاد والنقل والبشر والضرب والتعبئة والتخزين والتغليف، وهو رقم يفوق أضعاف سعر تصديره إلى الخارج، وقد أحجمت كثير من الدول عن تصديره أو زراعته، ومنها انجلترا التى فضلت استيراده صيانة لمواردها المائية . فهناك العديد من الدول مثل أستراليا واليابان والصين التى تقل فيها التكلفة المائية لزراعة الأرز عن 2000 لتر للكيلوجرام.. ولاشك أن الاستعانة بتكنولوجيا هذه البلدان سيحقق خفضاً مناسباً فى التكلفه المائية لزراعة الأرز فى مصر بنسبة قد تصل إلى حوالى 50% من التكلفة المائية الحالية. وفى مجال الصحة والتغذية:لابد أن تعتمد وتروج وزارة الصحة ومعهد بحوث التغذية أنماطاً غذائية ذات محتوى نباتي عالى عوضاً عن الأغذية الحيوانية ذات التكلفة المائية المرتفعة والأكثر ضرراً للصحة العامة، على أن يتم التسويق لهذه البدائل النباتية بين جميع شرائح المجتمع..فالدراسات العلمية تؤكد أن البروتينات التى تشيع فى أطعمة البسطاء كالفول والعدس وفول الصويا والقمح والبطاطس والطماطم والخضروات والفاكهة افضل فى اكتفاء السعرات الحرارية والتكلفة المائية مقارنة باللحوم الحمراء والدجاج والبيض ومشتقات الألبان..ولايفهم من هذه الدعوة أن تكون أطعمتنا نباتية صرفة، فهذا أمر يصعب على المستهلكين المصريين، ولكن أدعو إلى تقنين استهلاك البروتينات الحيوانية لتحقيق الفائدة الصحية والاقتصادية معاً، وأن يتم استيرادها بدلاً من تكبد تكلفتها المائية المرتفعة .وفى مجال صناعة الملابس : ينبغى التركيز على الصناعات الأقل تكلفة مائية المصنوعة من القطن والكتان والتقليل قدر الإمكان من الملابس الحيوانية المصدر كالجلود والأصواف والأوبار، ولامانع من إضافة الأنسجة الصناعية الآمنة صحياً إلى الملبوسات القطنية لتقليل تكلفتها المائية، ومن الأفضل استيراد جلود الشنط والأحذية والإكسسوارات المختلفة والتقليل من إنتاجها محلياً نظراً لتكلفتها المائية المرتفعة علاوة على أضرارها البيئية، مع إلزام الصناعات المستهلكة بكثافة للمياه عموماً بإعادة معالجة هذه المياه وتدويرها واستخدامها في حلقة مقفلة.. ولابد فى هذا الصدد أن تضع وزارة الصناعة "قائمة سوداء" بالصناعات ذات التكلفة المائية المرتفعة، تماماً مثل "القائمة السوداء" التى وضعتها وزارة البيئة للصناعت الملوثة للبيئة. وفى مجال السكان: لابد من تحديد السقف الذى لا يجب أن يتجاوزه عدد السكان فى مصر قياساً بالموارد المائية المتاحة مستقبلاً ووضع سياسات وآليات حاسمه لضبط هذا الرقم ومنع تجاوزه، بحيث يصبح نصيب الفرد من المياه فى مصر متجاوزاً لخط الفقر المائى، مع مواصلة برامج صيانة وتطوير الموارد المائية من خلال استراتيجية قومية طويلة المدى . أما على مستوى تغيير السلوكيات والثقافات: لابد من توطين ثقافة وسلوك الندرة ونبذ سلوك الوفرة لدى المواطنين واتباع طرق جديدة وجذابة لبث المعلومات والبيانات المتعلقة بالتكلفة المائية لحياتنا ومعيشتنا..فاستخدام الرسائل الإلكترونية عبر الهواتف المحمولة والبريد الإلكترونى بجانب الوسائل التقليدية سيكون له أثر كبير فى تغيير سلوكيات المواطنين، وسيكون مناسباً أن تطبع التكلفة المائية للسلع على أغلفة العبوات والنشرات المرفقة . ولا يغفل الدور الهام لوسائل الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية والأسرة ومؤسسات المجتمع المدنى فى توطين سلوكيات معيشية اقتصادية واعية .. فاتباع طرق التنظيف الجاف وتقنين عملية النظافة البدنية والتخليى عن سلوكيات هدر المياه بشكل عشوائى فى شوارعنا ومنازلنا سيحقق مردوداً إيجابياً فى استهلاك المياه العذبة..فحلاقة الذقن وغسل الأسنان من خلال سلوك الندرة يمكن أن يوفر حوالي 5 لترات من المياه في كل صباح، وتقل الكلفة المائية كذلك عندما نقوم بتركيب صنبور اقتصادى يقلل من تدفق المياه . إن ضبط التكلفة المائية مرتبط بقرارات المواطن الشرائية والسلوكية، فحوالى 1625 مليار متر مكعب من المياه تستهلك سنوياً لإنتاج السلع والبضائع الزراعية والصناعية التى تتدفق استيراداً وتصديراً عبر القارات بمايوازى 65% من كمية المياه العذبة فى العالم، وحراك الحياة وديناميكيتها إنما وقوده الرئيسى الماء العذب.. مما يستوجب معه حصول المستهلك على المعلومات الدقيقة بشأن التكلفة المائية للحياة ليتمكن من اتخاذ القرار الاقتصادى والتصرف السلوكى السليم..ولابد أن يعى أن الندرة الشديدة فى المياه العذبة ستشعل خلال عقود قليلة صراعات ومنازعات شرسة لم تشهدها البشرية من قبل، وسيغدو الماء السلعة الأغلى والأهم استراتيجياً فى حسابات السياسة الدولية. ويزيد من المخاطر التى تهدد موارد مصر المائية أن عقد الأمن المائى المصرى فى منطقة حوض النيل على وشك الإنفراط بسبب السدود الجديدة فى أثيوبيا وأوغندا وبسبب انطلاق مشروعات استثمارية مائية كبيرة فى دول الحوض، وكذلك دخول بلاد أجنبية لشراء مساحات هائلة من أراضى واقعة داخل الحوض يتم زراعتها ليس لصالح دول الحوض وإنما لصالح البلاد المستثمرة، مما يعنى تصدير مياه حوض النيل فى صورة محاصيل زراعية لدول خارج الحوض، مما يضر ضرراً بالغاً بحصة مصر المائية، إضافة إلى تفجر اعتراضات جادة على الاتفاقيات المائية التاريخية بين مصر ودول الحوض .إن وجود منابع النيل خارج مصر وانفلات التزايد السكانى وعشوائية سلوك المجتمع فى استهلاك المياه .. كل ذلك يستلزم وضع الاستراتيجيات القومية اللازمة لتحديد الاستخدام الأمثل لمواردنا المائية المتاحة واتخاذ ذلك كأساس لخطط التنمية فى جميع المجالات.
ساحة النقاش