<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]-->
<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]--><!--<!--
عناية الشريعة الإسلامية بالطفولة
أ. د. محمد بن أحمد صالح(*)
المقدمة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارة عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِداَدٌ لاَ يَعْصُوْنَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(1).
لقد ضرب النبي صلى الله عليه و سلم المثل الأعلى في الرفق في تربية الأطفال وعلاج أخطائهم بروح الشفقة والرأفة والعطف والرحمة، ومعرفة البواعث التي أدت إلى هفواتهم والعمل على تداركها وإفهام الأولاد نتيجتها، ولم يقر صلى الله عليه و سلم الشدة والعنف في المعاملة مع كل الفئات ولاسيما الأطفال، واعتبر الغلظة والجفاء في معاملة الأولاد نوعاً من فقد الرحمة من القلب، وهدد المتصف بها بأنه عرضة لعدم حصوله على الرحمة من الله حيث قال عليه السلام للأقرع بن حابس لما أخبر أَنَّه لا يُقبِّلُ أَولاَدَهُ قال عليه السلام : >من لا يرحم لا يُرحم<، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَبَّلَ رسول الله صلى الله عليه و سلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع : إِنَّ لِي عشرة من الولد ما قَبَّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : >من لا يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ<.
ولا شك أن القسوة في معاملة الولد مثبطة للهمة قاتلة للذكاء مؤدية للذل باعثة على النفاق، والنبي صلى الله عليه و سلم قد عمل على إدخال السرور في قلوب الأطفال حيث كان يُقَبِّلهم ويداعبهم ويحملهم في صلاته، ويقوم صلى الله عليه و سلم بتنظيفهم.
أخرج الإمام أحمد أن أسامة عثر بعتبةِ الباب فدمي فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يمصه ويقول : لو كان أسامة جارية لحليتها ولكسوتها حتى أنفقها.
وعن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها(2)، وروى عبد الله بن شداد قال : >بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد... فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا : قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر فقال صلى الله عليه و سلم :>إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته< (3).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي يوماً إذ قال الخادم إن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسُدَّة، قالت : فقال لي قومي فتنحي عن أهل بيتي فقالت : قمت فتنحيت في البيت قريباً...فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبَّلهما.
وأخرج البخاري من حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت : أتيت رسول مع أبي وعليَّ قميص أصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >سنةْ ... سنةْ<، قال عبد الله : وهي بالحبشية حسنة. قالت فذهبت ألعَبُ بخاتم النبوة فزجرني أبي، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دعها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبْلي وأخْلِقِي ثم أبْلي وأخْلِقي ثم أبْلي وأخْلِقي، قال عبد الله : فَبَقِيَتْ حتى ذكر يعني من بقائها(4).
قال الإمام ابن حجر العسقلاني في الفتح (قال عبد الله فبقيت حتى ذكر) أي ذكر الراوي من بقائها أمداً طويلاً، قال أبو عبد الله : لم تعش امرأة مثل ما عاشت هذه يعني أم خالد، قلت : وإِدراك موسى بن عقبة لها دال على طول عمرها لأنه لم يلق من الصحابة غيرها(5)، قال ثابت عن أنس رضي الله عنه :أخذ النبي صلى الله عليه و سلم إبراهيم فقبله ثم شَمَّهُ، وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول عن الحسن والحسين : >هما ريحانتاي من الدنيا<.
وأخرج البخاري من رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت :>جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أَتُقَبِّلون صبيانكم ؟ فما نُقَبِّلهم. فقال النبي : >أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة< وأخرج البخاري عن رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمهما ثم يقول : >اللهم أحبَّهُمَا<ا(6).
وكان صلى الله عليه و سلم يُسلّم على الصبيان ويداعبهم ويتلطف بهم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال لأخ صغير لأنس بن مالك : >يا أبا عُمَيْر ما فعل النُّغَيْر؟< والنغير إسم لطائر يشبه العصفور كان يلعب به أبو عُمَيْر فمات، فكان صلى الله عليه و سلم يداعب الصبي ليخفف عنه، ويزيل حزنه بفقد الطائر الذي كان يلعب به.
وكان التلطف بالصبيان من عادة رسول صلى الله عليه و سلم ، فكان يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف عليهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم : حملني رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم : أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم.
وكان يُؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة وليسميه فيأخذه فيضعه في حجره، فربما بال عليه الصبي فيصيح بعض من يراه، فيقول صلى الله عليه و سلم : لا تزرموا الصبي، فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ من دعائه له وتسميته، ويبلغ سرور أهله فيه لئلا يروا أنه تأذى ببوله، فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده.
أخرج البخاري من رواية عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم وضع صبي في حُجْرِهِ يحنكه فبال فدعا بماء فأتبعه، ومن هذه النصوص يتبين مدى عناية المصطفى صلى الله عليه و سلم بالأطفال، وشفقته بهم وحرصه على إدخال السرور عليهم، فالأطفال هم بعض الحاضر وكل المستقبل فيحتاجون إلى بناء شخصيتهم وإشعارهم بالاهتمام بهم، وهذا بلاشك يترك آثاراً حسنة في نفوسهم ويعودهم على الثقة بالنفس ويربي فيهم العزة والأنفة وحب الغير والتآخي ويشيع بينهم المودة.
وقد أخذ الخلفاء والصحابة رضي الله عنهم بنهج النبي صلى الله عليه و سلم في الترفق بالأطفال وأخذهم باللين، والشفقة والعطف، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يهابه عظماء الرجال تأخذه الرقة واللين بالأطفال، ويستنكر الغلظة والشدة في معاملتهم، ويعتبر ذلك من الأمور المخلة بأهلية الإنسان في الولاية على الغير.
فقد دخل عليه أحد عماله وولاته فوجد عمر مستلقياً على ظهره وصبيانه يلعبون حوله فأنكر عليه سكوته على لعب الأطفال من حوله، فسأله عمر : كيف أنت مع أهلك ؟ فأجاب : إذا دخلت سكت الناطق، قال عمر : اعتزل عملنا، فإنك لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد صلى الله عليه و سلم ؟.
فالخليفة الراشد يضرب مثلاً في حسن معاملة الأهل والولد والسعي في إدخال السرور عليهم، ليتربوا تربية حسنة بعيدة عن الخوف والجبن ويظهروا بمظهرهم الطبيعي حتى يمكن تقويمهم وتهذيبهم، وتشجيعهم وتكريمهم إن أحسنوا.
وقد عزل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هذا الوالي لجفائه وشدته وقسوته وغلظته مع أقرب الناس إليه من الأهل و الأولاد؛ لأَن من يفعل هذا مع أسرته يكون مع الناس أشد جفاء وغلظة وقسوة في المعاملة، لقد كان أمير المؤمنين خير مثل في الرفق والعدل وحسن السياسة وسداد الرأي.
ومن الإحسان إلى الأطفال تعليمهم حسن الأدب، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :>ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن< أي ما أعطى والد ولده، قال في النهاية النحل العطية والهبة ابتداء من غير عوض ولا استحقاق، أي من تعليمه ذلك ومن تأديبه بنحو توبيخ أو تهديد أو ضرب، على فعل الحسن وتجنب القبيح، فإن حسن الأدب يرفع العبد المملوك إلى رتبة الملوك(7)، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : > ما ورَّث والد ولداً خيراً من أدب حسن<.
ولقد دعا نبي الرحمة إلى تكريم الأطفال وغرس الأخلاق المثالية في نفوسهم وتعويدهم حسن السمت والتحلي بالصدق، والأمانة واحترام الكبير، فقال >ليس من أمتي من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه< وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهم عن النبي : الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم<.
إن العمل على تربية الأولاد من أهم أولويات الآباء ومن أعظم حقوق الأبناء على الآباء >فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه< أخرجه البخاري ومسلم. ذكر الفقهاء أن للولد على أبويه حقوقاً ينبغي القيام بها، فيلزمهما تربيته تربيةً حسنة كلٌّ بما يناسبه، فالأم تحضنه وترضعه والأب يقوم بمصالحه ولوازمه، فينفق عليه ويؤدبه عند بلوغه السن المناسبة لذلك، بأن يُعَوِّدَهُ على اكتساب الأخلاق الحسنة والبعد عن الخصال السيئة، فإذا بلغ من العمر سبع سنين، علَّمه أداء الصلوات و فعل الطاعات واجتناب المنهيات وألحقه بالتعليم ليصير عضواً عاملاً نافعاً في المجتمع، فيكون لأبويه أثراً حميداً، وذكراً حسناً.
كما ينبغي للأبوين أن يكونا مثال الاستقامة والأدب في سلوكهما أمام أولادهما، لينشأ الأولاد وقد طُبِعوا على كريم الأخلاق ومحاسن الأعمال.
يقول الإمام الغزالي(8) : > الصبيُّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش عليه، ومائل إلى كل ما يمال به عليه، فإن عُوِّدَ الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلِّم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأُهْمِلَ إِهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في عنق القيّم عليه والوالي له<(9).
وعلى ذلك نصت المادة (365) من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية لقدري باشا : >يُطلبُ من الوالد أَن يعتني بتأديب ولده وتربيته، وتعليمه ما هو ميسر له من علم أو حرفة، وحفظ ماله، والقيام بنفقته إن لم يكن له مال، حتى يصل الفتى إلى مرحلة الاكتساب وتتزوج الفتاة، ويطلب من الوالدة الاعتناء بشأن ولدها وإرضاعه في الأحوال التي يتعين عليها ذلك<.
وفي تحفة المودود للإمام ابن القيم : >أن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللإبن على أبيه حق، فكما قال تعالى : { وَوَصَّينا الإنسان بوالديه حُسناً }(10)، وقال النبي : >اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم<(11).
فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر انحراف الأولاد إنما جاء بسبب إهمال الآباء لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً، وقد حكي عن بعضهم ـ ممَّن فرط في حق ولده في الصغر ـ أنه عاتب ولده على العقوق، فقال له : يا أبت : إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً<(12).
عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :>إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته<(13).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :>كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول<(14).
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه و سلم ، فجاء ابن له، فقبَّله وأجلسه في حجره ثم جاءت بنت له، فأخذها فأجلسها إلى جنبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم >فهلا عدلت بينهما<(15)، وقال إبراهيم النخعي :>كان السلف يستحبون التسوية بين الأولاد حتى في القبلة<(16)، وجاء في >شرح السنة للبغوي< : يستحب التسوية بين الأولاد في النِّحَلِ ـ أي الأُعْطِيات ـ وفي غيرها من أنواع البِرِّ، حتى في القُبَلِ، ذكوراً كانوا أو إناثاً حتى لا يعرض في قلب المفضول ما يمنعه من بِرِّه(17).
ومن الحقوق المهمة للأبناء على الآباء العدل بينهم في العطاء المنجز حال الحياة حيث إن تفضيل بعضهم أو تخصيصه بالعطية ذريعة ظاهرة قريبة جداً إلى وقوع العداوة والبغضاء بين الأولاد والعقوق للآباء، لما قد يقع في نفس المفضول بالهبة من شيء، فيمنعه من حسن الطاعة والبِرّ لوالديه وربما كان سبباً لعقوق الوالد وقطيعة الرحم بينه وبين إخوته(18).
وأصل ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهم من حديث النعمان بن بشير ــ رضي الله عنه ــ أن أباه أتى به إلى رسول الله فقال : > إني نحلتُ ابني هذا غلاماً فقال : أكلُّ ولدك نحلْتَ مثله ؟ قال : لا. قال : فارجعه.
وروي البخاري أيضاً عن النعمان أنه قال : أعطاني أبي عطية فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تُشْهدَ رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : > إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. فقال : >أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال : لا. قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم< قال : فرجع، فَرَدَّ عطيته.
وجاء في رواية لمسلم أنه قال : >فلا تشهدني إِذَنْ، فإني لا أشهد على جور< وفي رواية ابن حبان : >لا تشهدني إلا على عدل، فإني لا أشهد على جور< وفي رواية أخرى لمسلم >فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق< وفي رواية مسلم >فأَشْهِدْ على هذا غيري، ثم قال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال : بلى. قال : فلا إذن.<
وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >اعدلوا بين أبنائكم، أعدلوا بين أبنائكم، أعدلوا بين أبنائكم<(19).
ولا يشمل ذلك الأولاد من البنين فقط بل يشمل البنات أَيْضاً، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فيتق الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة<.
جاء في الفتح الرباني : >الإحسان إليهن يشمل كل الخصال المحمودة من أدب وإنفاق وحسن معاشرة ونحو ذلك، وجاء عند أَبي داود بلفظ من عال ثلاث بنات فأَدَّبَهُنَّ وزوَّجهنَّ وأحسن إِليهن فله الجنة، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >من عال ابنتين أو ثلاث بنات أو أختين أو ثلاث أخوات حتى يمتن أو يموت عنهن كنت أنا وهو كهاتين وأشار بأصبعه السبابة والوسطى< ومعناه أن لا تنقص درجته عن درجة النبي إلا كما ينقص السبابة عن الوسطى.
وعن سُراقة بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : يا سراقة ألا أدلك على أعظم الصدقة أو من أعظم الصدقة؟ قال : بلى يا رسول الله قال : ابنتك مردودة إليك ليس لها كاسب غيرك. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >من وُلِدَتْ له ابنة فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يُؤثر ولده عليها يعني الذكر أدخله الله بها الجنة<(20).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :>من كان له ثلاث بنات فصبر على إوائهن وضرائهن وسرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن فقال رجل أو اثنتان يا رسول الله؟ قال أو اثنتان، فقال رجل أو واحدة يا رسول الله قال أو واحدة<(21).
رحمة الأولاد
الرحمة : رقة في القلب، وحساسية في الضمير، وإرهاف في الشعور تستهدف الرفق بالآخرين، والتألُّم لهم، والعطف عليهم، وكفكفة دموع أحزانهم وآلامهم، وهي التي تهيب بالمؤمن أَن ينفر من الإِيذاء، وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدر خير وبر وسلام للناس أجمعين.
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم رحمة الناس بعضهم بعضاً لرحمة الله إياهم، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء<(22).
وحكم صلى الله عليه و سلم على العازفين عن الرحمة بأنهم هم الأشقياء فقال : >لا تنزع الرحمة إلا من شقي<(23).
ومن المشاعر النبيلة التي أودعها الله في قلب المؤمن، وفي قلب الأبوين على الخصوص شعور الرحمة بالأولاد والرأفة بهم، والعطف عليهم وهو شعور نبيل له في تربية الأولاد، وفي إعدادهم وتكوينهم أفضل النتائج وأعظم الآثار.
والقلب الذي يتجرد من خلق الرحمة يتصف صاحبه بالفظاظة العاتية، والغلظة اللئيمة القاسية، ولا يخفى ما في هذه الصفات القبيحة من ردود فعل في انحراف الأولاد، وتخبطهم في أوحال الشذوذ ومستنقعات الجهل والشقاء.
وقد حرص الرسول صلى الله عليه و سلم بموضوع الرحمة بالأولاد وحرصه الشديد على تحلي الكبار بهذا الخلق الكريم والشعور النبيل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أتى النبي رجل، ومعه صبي فجعل يضمه إليه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم :>أترحمه؟ قال : نعم. قال : فالله أَرحم بك منك به، وهو أَرحم الراحمين<(24).
وكان صلى الله عليه و سلم إذا رأى أحداً من الصحابه لا يرحم أَولاده يزجره بجزم، ويوجهه إلى ما فيه صلاح البيت والأسرة والأولاد فعن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء أَعرابي إلى النبي فقال : أتُقبِّلون صبيانكم؟ فما نقبِّلهم. فقال النبي صلى الله عليه و سلم :> أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة<(25).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل صبي لها تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيان التمرتين ونظرا إلى أُمهما فعمدت الأم إلى التمرة فشقتها فأعطت كل صبي نصف تمرة، فجاء النبي صلى الله عليه و سلم ،فأخبرته عائشة، فقال : > وما يعجبك من ذلك؟ لقد رحمها الله برحمتها صبييها<(26).
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى طفلاً يحتضر، وأوشكت أن تفيض روحه فاضت عيناه بالدموع حزناً، وعطفاً على الصغار، وتعليماً للأمة فضيلة العطف والرحمة.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : أَرسلت بنت النبي صلى الله عليه و سلم إلى أبيها : أن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل عليه الصلاة والسلام يقرئ السلام ويقول : >إِنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب< فأرسلت تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع ــ أي تتحرك وتضطرب ــ ففاضت عيناه، فقال سعد : يا رسول الله، ما هذا ؟ قال : >هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده<، وفي رواية :>جعلها الله في قلوب من شاء من عباده، وإِنما يرحم الله من عباده الرحماء<(27).
إن ظاهرة الرحمة إذا حلت قلب الأبوين وترسخت في نفسيهما، قاما بما يترتب عليهما من واجب، وأديا ما عليهما من حق تجاه من أَوجب الله عليهما حق الرعاية، وواجب المسؤولية، أَلاَوهم الأولاد.
ومن الرحمة التي أَودعها الله في قلب الأبوين ما يبدو آثارها جلياً في معاملاتهم لأولادهم وحنوهم عليهم، وتبدو آثار هذه الرحمة في تقبيل الأب لإبنه، واحتضانه له، ومعانقته إِياه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبَّل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : >من لا يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ<(28).
وكان النبي صلى الله عليه و سلم يُقَبِّل فاطمة عليها السلام، وكذا كان أبو بكر رضي الله عنه يُقَبّل ابنته عائشة رضي الله عنها، ودل الحديث على أن عدم تقبيل الولد دليل على أن الرحمة لم تتمكن من قلب هذا الذي لا يقبل أَولاده.
وكما أن تقبيل الولد من الرحمة فكذلك ضمه ومعانقته، فعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم على النبي صلى الله عليه و سلم ،فإذا امرأة تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي صلى الله عليه و سلم : أَترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال صلى الله عليه و سلم : >ََلََّلهُ أرحم بعباده من هذه بولدها<(29).
فهذه المرأة كما عرف من سياق الحديث أنها كانت قد فقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبان في ثديها، فكانت إذا وجدت صبياً أَرضعته ليخف اللبان فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته.
صور من رحمته صلى الله عليه و سلم بالأولاد :
كان الرسول صلى الله عليه و سلم معروفاً بالرأفة، والرحمة والشفقة، ورقة القلب وقد وصفه الله جل شأنه في قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُم عزيز عليه ما عَنِتُّمْ حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }(30).
وكان المثل الأسمى للرفق بالأطفال والعطف عليهم والرحمة بهم، عن أنس بن مالك قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : >إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأَتَجَوَّز في صلاتي، لما أعلم من شدة وجد أُمه من بكائه<(31)، فالرسول خفف في الصلاة لمَّا سمع بكاء الصبي رحمة بالصبي، ورحمة بأمه أيضاً لأنه خشي أن تلتهي عن صلاتها لاشتغال قلبها ببكائه.
وذات يوم تعثر الحسن وقيل الحسين ــ أي زل ووقع ــو النبي صلى الله عليه و سلم على منبره، فنزل فحمله، وقرأ قوله تعالى : { إنما أَموالكم وأَولادكم فتنة }<(32).
فعن بريدة رضي الله عنه قال : >كان النبي يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فيهما فنزل النبي صلى الله عليه و سلم فقطع كلامه فحملهما ثم عاد إلى المنبر ثم قال صدق الله { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } رأيت هذين يعثران في قميصهما فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما<(33).
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم في إِحدى صلاتَيْ العشى الظهر أو العصر، وهو حامل الحسن أو الحسين فتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها فقال : >إني رفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو ساجد فرجعت في سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الناس : يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها، فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه قد أوحي إليك قال : >فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته<(34).
فهذا من رحمته صلى الله عليه و سلم بالأولاد، يركب الطفل على ظهره الشريف وهو ساجد، ولا يقوم من سجوده، ليكمل الطفل لعبه، حتى لا يزعجه رحمة به، وشفقة عليه، ومثل هذا فعل صلى الله عليه و سلم مع أمامة بنت أبي العاص، فعن أبي قتادة قال : خرج علينا النبي صلى الله عليه و سلم وأُمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها(35) وأُمامة هذه هي ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه و سلم فمن رحمته صلى الله عليه و سلم وشفقته بأُمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها على الأرض.
فالرسول صلى الله عليه و سلم كان المثل الأسمى للرحمة، والرفق بالأطفال والعطف عليهم وقد أعطانا درساً في الرحمة، وكان رحيماً بالناس صغيرهم وكبيرهم مؤمنهم وكافرهم، ولا عجب في ذلك فقد قال الله تعالى في شأنه : { وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين } (36) وهو القائل عليه الصلاة والسلام : >مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ<(37) وعن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : >لا يرحم الله من لا يرحم الناس<(38).
قال ابن بطال في الأحاديث السابقة : الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالأحكام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب.
وقال ابن أبي حمزة : يحتمل أن يكون المعنى من لا يرحم غيره بأي نوع من الإحسان لا يصل له الثواب كما قال الله تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان }(39).
القسوة على الأولاد
القسوة هي : الصلابة في كل شيء والشدة والعنف قال تعالى : { ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة }(40)، ومعنى قست غلظت ويبست، فالقسوة في القلب هي ذهاب اللين والرحمة منه، وتستعمل القسوة في الزمن الصعب، فيقال زمان قاس وفي الشيء الرديء.
margin-top: 0cm; margin-right: 20.0pt; margin-bottom: .0001pt; margin-left: 20.0pt; text-ali