قصة قصيرة تحت الأنقاض - بقلم خليل الشامي
---------------------
أفاق كعادته على صوت آذان الفجر ... تمطى قليلا في فراشه وهو يستمع للمؤذن ثم استجمع شجاعته و ألقى الغطاء بعيدا عند عبارة " الصلاة خير من النوم" وهرول الى الحمام، توضأ ثم صلى بينما كانت زوجته تعد له إفطاره على الطاولة و غداءه في قفة يحملها معه ككل يوم عمل.
وصل الى العمارة التي يقوم بتبييضها، غيّر ملابسه وقام بربط السقالة في الطابق الثاني من خارج المبنى ثم اعتلاها وبدأ يشتغل.
السيارات تسير تحته ... من حين لآخر يرد بصوت مرتفع على تحية أحد معارفه المارين في الشارع دون أن يلتفت ويده تعلو و تنخفض بالفرشاة تلون الحائط بلون آجري و يدندن مقطعا من إحدى الأغاني الني يحفظها أو يسترجع موقفا من مواقف الحياة اليومية...
فجأة شعر بالجدار يتحرك به ..السقالة تتماوج بعنف ... يتمسك بها... يحاول أن يبقى ثابتا ...يدور في وسطها كما لو كان ورقة شجرة اقتلعتها عاصفة هوجاء ....فرقعة مدوية ..وفي ثواني كان تحت أنقاض العمارة ...
فتح عينيه قليلا قليلا... كل ما حوله ظلام .. حاول أن يتذكر ما حدث لكنه كان كمن هو تحت تأثير مخدر ...أراد أن يتذكر كم مضى عليه من الوقت وهو في هذا المكان ولكن دون جدوى... يا الهي ، أين أنا؟؟؟ جمع بعض ما تبقى له من قوة لينهض وهو يتلمس المكان بيديه... ارتطم رأسه بجسم صلب... تلمسه.. هي قطعة من ركام بناء... بدأ يسترجع الأحداث التي سبقت وجوده في هذا المكان ليستنتج انه سجين تحت أنقاض العمارة التي يعمل بها...
شعر برعدة تهز جسده و بجفاف في حلقه... هو الخوف من النهاية المؤلمة في هذا المكان الموحش...هل يكون احد ضحايا هذا الزلزال...تذكر فجأة زوجته وأبناءه.. هل مازالوا على قيد الحياة؟ هل هم بخير؟ كيف له أن يعرف مصيرهم؟ تسارعت أمامه صور أهله، أقاربه، جيرانه، أصدقائه، هل قضَوْا نحبهم؟ هل نجَوْا؟ يا الهي... رحماك ربي... تذكر الله فأخذ يدعوه بكل جوارحه كما لم يدعه من قبل... ربي أنت على كل شيء قدير... إنما أمرك أن تقول للشيء كن فيكون... اللهم نجني كما نجيت يوسف من البئر و يونس من بطن الحوت... يا رب .. يا رب..
تذكر آية " وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " فأخذ يرددها...
دقات قلبه تتسارع .. على صدره ضغط... كيف سيُهَدِّئُ من روعه؟ تذكرفجأة أحد دروس اليوغا التي تابعها على شاشة التلفاز " عندما تشعر بالخوف تنفس بعمق و ببطء "... شرع في تطبيق هذه القاعدة بينما كان يردد بعض الآيات القرآنية التي يحفظها وبعض السُّوَرِ دون أن يتوقف عن التنفس العميق... كان أمله في الله كبيرا...
اشتدّ به العطش والتصقت شفتاه ببعضهما، من أين له أن يشرب؟ خطرت بباله فكرة تردد في تنفيذها ... العطش يلح عليه وحرارة المكان تزيد الطين بلة... لا مفر من إتيان فكرته... نعم .. الأمر يتعلق بالحياة أو الموت... في مثل هذه الحالات كل شيء جائز... اِلتقط قليلا من بَوْلِهِ و شربه بعد أن قاوم حتى يُبْقِيَ جزءا منه في مثانته...عملية ادخار ...ادخار البول...
أحس بثقل في رأسه وبثقل في جفونه لكنه كان يقاوم النوم.. لا يريد أن ينام ... ربما ينام إلى الأبد.. هو يقاوم النوم و يقاوم الموت ويقاوم الخوف... حتى الجوع والعطش .. صراع وجودي فإما حياة أو موت، وهو يريد الحياة، يتشبث بها...
لا يدري كم مرّ عليه من الوقت حين بدأ يسمع دويّ محركات تحوم حول المكان وأصواتا بعيدة.. ازداد خوفه واضطربت فرائصه فقد يتحرك بعض الركام و ينهار فوقه فتقضي عليه أو تدهسه رافعة فتعجنه ...
عاد إلى الدعاء و الابتهال وتذكر قصة أولائك الثلاثة الذين لجؤوا إلى غار فسدت فوهته صخرة كبيرة قالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
حاول أن يتذكر عملا صالحا يدعو به الله ليفرج عنه كربته وينجيه من الموت الذي يقترب منه فلم يجد في ذاكرته عملا ذا بال وأخيرا دعا الله بأن ينجيه ممّ هو فيه بعمل صالح هو لا يذكره ولكن الله يذكره.
كانت أصوات المحركات والعباد تتداخل فترتفع تارة و تنخفض أخرى ولكنه لم يكن يتبين فحواها كمن كان تحت الماء يسمع ضجيجا ولا يتبيّنه.
فجأة تذكر أمرا مهما قد ينجيه ممّ هو فيه من خطر قاتل... مد يده يتحسس جيوبه ... الهاتف.. نسي هاتفه ..نسي وسيلة اتصاله بالعالم ... وجده في أحد جيوبه... لقد وجد كنزا وأي كنز تراه ..أخرجه بسرعة بيد مرتجفة ... هل سيستطيع الاتصال... بمن سيتصل..طلب زوجته... لم يتلق أي جواب.. لا يمكن الحصول على مخاطبكم في الوقت الراهن... حاول أن يتذكر رقم الحماية المدنية فلم تسعفه ذاكرته..
الشحن يكاد ينفذ وعليه أن يتصل بأحدهم ليعلمه انه على قيد الحياة ولكنه تحت الركام...
كان يمرر قائمة الأسماء على الهاتف... توقف عند اسم أحدهم كان قد اشتغل في دهن داره.. سجل الرقم وطلب... كان قلبه يدق بسرعة ...طالت لحظات انتظار سماع الرنين.. يا الله ... انه يرن..رن..رن...إنه أحلى صوت سمعه في حياته فاق صوت أم كلثوم التي يعشق غناءها...
الله يهديك يا سي محمود.. ارفع السماعة ..أرجوك ارفع السماعة ..أنا في خطر...
لم يصدق أذنه حين جاءه الصوت " ألو.. من معي؟"
كاد أن يغمى عليه.. لا...لا .. ليس وقت إغماء الآن..صاح : ألو.. سي محمود.. أنا ثامر الدهان..
أنا تحت الأنقاض في عمارة الشيخ سعيد بشارع مكة... الرجاء أن تعلم المسؤولين عن مكاني حتى لا تدهسني الجرافات..
جاءه صوت سي محمود مطمئنا ونصحه بأن لا يكثر من الحركة و ان يهدأ فهو سوف يسعى لإنقاذه.
مرت ساعات وساعات منذ أن أجرى الإتصال الهاتفي...
- ثامر...هل تسمعني يا ثامر.. نحن أعوان الحماية المدنية جئنا لنخرجك من مكانك.. لا تقلق.. حافظ على هدوئك.. سوف تكون بخير..
جثا على ركبتيه وهو يبكي من الفرح ويشكر الله ويتوسل إليه أن يُتِمَّ فضلَه عليه فيخرج إلى العالم من جديد...بعد ثمانية وأربعين ساعة تحت الأنقاض.
بقلم خليل الشامي
26/04/2016