<!--[if !supportLineBreakNewLine]-->
نزيف الروح
لا أريد أن أبيح ذاكرتي لك دفعة واحدة، ولا أن أفتح لك كل خزائن الروح، ولا أريد قراءة محطات الانتظار الممتدة عبر العمر، ولا أن أفيض بالكلام عن حضورك، الذي بات يملأ مكاني وزماني ويرمي بي عند حدود وطن كان عامراً بالياسمين والشيح والعنبر... هذا الحضور الذي يملآ قلبي طمأنينة عن مدننا، عن بساطة البدويَّ فينا، عن تعثر طفلتين في الطريق خلف جدتهما... الأولى تتعثر، تسقط، تمسح دمعتها، تمسح التراب عن ثيابها وجرح ركبتها... الأخرى تجرها، تحثها لتلتحق بالجدة التي تحمل حقيبتهما المدرسية وتحمل نظرة حذرة توجهها لكل غريب قادم إلى المدينة "البيضاء" الصغيرة... الطفلة الأولى هي أنا، عن مدرستي وقلم الرصاص المميز الذي أهداه إلى والدي بعد خروجه من السجن، عن فطوري البسيط المختلط برائحة حبر الكتب المدرسية الجديدة، عن المواد البسيطة التي نصنع منها "عرائسنا القماشية"، عن المثلجات الرخيصة التي تبيعها جارتنا،عن الفرق بين شارعنا الحبيب والشارع الخلفي حيث تسكن العفاريت، عن حكايات جدتي عندما تنقطع الكهرباء، عن رغيف " التنور"، عن ميراثها العريق من أهازيج الصحراء و"غناوي العلم"، عن وشمها الأخضر المرسوم بدقة المتعانق مع عروق اليد النافرة، عن رائحة الحناء في كفها وهي تتحسس بها حرارة جسدي الهزيل، وأصابعها المخضبة التي ترتعش حباً عندما تتخلل خصلات شعري الفاحم وأنا أتدثر تحت لحافها نائمة، شذى حبات عقد العنبر التي تتزين به وحبيبات الريحان المختلطة بالمسك التي تدسها بين طيات ملابسها، عن عقد "المحابيب" التي تجمعها حبة حبة وأساور الفضة، محفظتها حيث النقود وحبات الحلوى، رعشة قلبها وهو يرتجف دفئاً ليغير اتجاه النبض والدمع أمام نغمة "مالوف طرابلسية" عن البهاء الكاسر معها، عن أنفاسها اللافحة في حضرة بوادينا، أن أشرح لك ما يفعله هواء "المرج" ونسمات الجبل بكيانها... ولا أريد أن أختلي بك في عرس شعبي نتبادل الغناء لنقتحم به مواقيت الوطن بفرح لذيذ وعربدة تثير الأشجان تحت سماء "برقة" ومطرها الحميم يغمر جسدينا ويفيض بالبهجة... كم أتمنى أن أحدثك عن فزان، والواحات، عن تذوق لذة الشاي في "الباكور"، عن كل مدينة في الوطن، عن كل قرية ملأتْ سماء الروح بالقناديل والفرح والأغاني... لكني كنت مجبرة على الانسحاب والاستدارة، مجبرة على الرجوع، على النكوص، فمغادرتك بشكل مباغت أوقف فيض الكلام في حلقي، غادرتَ وانسحبتَ، رضيتَ بالغربة ما إن هزم الغرباء ربيع الوطن الكاذب الذي جاء كاحتمال سقط سهواً من خلف ردهات التاريخ الموحشة حتى تركتني ورحلت ظلماً.
خيرية فتحي عبد الجليل: