"ليس أمام مصر سوى إحدى إثنتين، إما أن تموت بالتسمم البطئ الذي سرى واستشرى من قبل في جسدها، وإما أن تعيش بفصد الدم الفاسد المسمم، إما أن تنحدر مصر بهدوء وبطئ، وبهوان وهوينى، إلى ما لا نهاية، وإلى ما دون الحضيض، وإما أن تنفجر على نفسها داخليا وخارجيا، في نوبة قوة عظمى تجدد شبابها وتستعيد كرامتها، وتحل أزمتها التاريخية، أمام مصر باختصار، خياران لا ثالث لهما: الانحدار التاريخي أو الثورة التاريخية.....".
وقد كانت "الثورة التاريخية" هي خيار أبناءها، بعد أن ظن الكثيرون أنها لن تكون أبدا، ومتى كانت من قبلُ حتى تحل ببلادنا اليوم؟!، لقد خاطب ودها مفكرون وكتاب عديدون ودعوا إليها ونظّروا لها، غير أنها عصت عليهم وعلى أجيالهم التي انتموا إليها، ويقف في الصدراة من أولئك صاحب المقولة السابقة العظيم جمال حمدان، فهو واحد من الذين بشروا بها، وانبرى لمدة ثلاثين عاما ينقب، ويحلل، ويبحث، ويدرس، ويؤلف عن شخصية مصر، ومجتمعها، وتاريخها، وجغرافيتها، ليخلص نهاية إلى أن المطلوب هو "حدث عظيم وأعظم في الوجود المصري، لا يرج مصر وحدها ويخرجها من مأزقها التاريخي الوجودي، ودوامة الصغار، والهوان، والأزمات التراكمية المعيبة، التي فرضت عليها، ولكن أيضا يرج الدنيا كلها من حولها لنفرض عليها احترامها وتقديرها من جديد، والاعتراف بها شعبا أبيا كريما عزيزا إلي الأبد".
كانت أمنية سطرها قلب عالم عاشق على دفتي كتاب، وها هم أحفاده وقد سطروها بدمائهم وتضحياتهم على أرض الواقع.
لقد سطعت شمس مصر زاهية عبر تاريخها المغرق في القدم مرات ومرات لتجنح سريعا من بعدُ إلى المغيب في كل مرة، ذلك أن أمرها كان رهين بمشيئة حاكمها، إن شاء له سعيه وجده وحكمته نفذت أشعة خيرها إلى أبنائها وإلى محيطها ـ اتسع ذاك المحيط أم ضاق ـ لتشخص إليها الأبصار باسمة شاكرة فضلها، وان قزُم هذا الحاكم احتجبت تلك الشمس خلف غيوم جهله وصغاره، لتتناول الظلمة مصرنا وهي محيطها ذاك.
أما وقد انتصب الشعب المصري ثائرا، نازعا عن كاهله آخر حكامه الطغاة، أما وقد أخذ بزمام أمره في يده، فستسطع شمس بلادنا من جديد كأزهى ما تكون، غير أنها شمس لن تعرف الغروب كسابقاتها، وها هو محيطها العربي وقد تملكته رعشة الأشواق للخروج إلى فضاء ثورتها المجيدة ليستدفئ بأشعة خيرها من بعدُ.
طوبى لشباب مصر الذين تعهدوا الثورة في الأربعة أيام الأولى حتى تأكدت.
طوبى لشهدائها.
طوبى لأبطال يوم الأربعاء الدامي.
طوبى لمن شارك، وبارك، وسعد لها.
محمد السيد الطناوي
ساحة النقاش