في مثل هذا اليوم 15 أبريل/نيسان من عام 2014، شهدت القاهرة موكباً ينتمي بالكلية إلى زمن حرافيش نجيب محفوظ، حين تحركت ثلاث سيارات دفع رباعي، محملة بأوراق ترشيح عبد الفتاح السيسي للانتخابات الرئاسية، في"زفة بلدي" تليق بفتوة في حارة، قرر أن يكون حاكمها بالتوت والنبوت.
وصل موكب السيارات، التي حملت 200 ألف توكيل، صباح الإثنين، بقيادة المحامي محمد بهاء أبوشقة، منتصف أبريل قبل ثلاث سنوات، لمقر اللجنة العليا للانتخابات بهيئة الاستعلامات، تحمل أوراق ترشح السيسي للانتخابات، وسط إجراءات أمنية مكثفة، عكس المعتاد منذ بدء عمل اللجنة.
كانت تلك لحظة استهلال واستحلال الكذب في مصر، وإشهاره أسلوباً وحيداً في الإدارة وفلسفة يتيمة للحكم، ومن يومها والبلاد تنتقل من كذبة إلى أخرى، ومن وهم إلى وهم أكبر منه، حتى باتت تتمتع بأكبر مخزون مما يسمى "الفنكوش" في العالم.
"أنا أقسمت بالله وهتشوفوا أن إحنا مالناش طمع في حاجة غير أن إحنا نشوف بلدنا مصر قد الدنيا".
"بيتقال إن ده حكم عسكر.. لا والله ما حكم عسكر ولا فيه رغبة ولا إرادة لحكم مصر".
كان ذلك في ديسمبر/ كانون أول 2013، حين وقف وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، يخطب وسط الضباط والجنود في الشعب، لينفي عن نفسه تهم الغدر والخيانة، ويعلن بصريح العبارة أن انقلابه على الرئيس المدني المنتخب، إنما هو لوجه الله والوطن، وليس طلباً لسلطة أو جاه.
قبل ذلك بأيام، استقبل ضابط الانقلاب بالقاهرة، جون كيري، وزير الخارجية الأميركي في نوفمبر/ تشرين الثاني، ليخرج السيسي بعدها بتصريحات قال فيها: "لسنا طامعين في السلطة، وإرادة الشعب ستختار من يحكمها والقوات المسلحة لا تحكم مصر، ولكن تقوم بحماية الإرادة الشعبية، وهي ليست طرفاً فى الصراعات السياسية وليست ضد فصيل بعينه، لكنها ستكافح الإرهاب".
وقبل ذلك بشهور، كان قائد الجيش الثاني الميداني، اللواء أحمد وصفي، يتحدث إلى قائد طابية إعلام الثورة المضادة، عمرو أديب، ليقسم بشرفه العسكري، إن ما جرى في 30 يونيو/ حزيران من العام نفسه 2013 لم يكن انقلاباً عسكرياً على الحكم، ثم أطلق نكتته الأشهر، "لما تلاقوا الفريق السيسي أخذ رتبة زيادة، قولوا إنه انقلاب عسكري".
لم تمض سوى أسابيع حتى كان الفريق السيسي، الذي لم يشارك في حرب واحدة طوال تاريخه، سوى معركة إبادة المعتصمين ضد انقلابه في رابعة العدوية وغيرها، يقفز مباشرة إلى رتبة المشير، ثم يقفز أعلى، ويصبح القائد الأعلى، والفرعون الأعلى، والفقيه والإمام والبابا وقائد فريق الدراجات الهوائية في مصر.
على صفحته بموقع "فيسبوك" كتب المرشح عبدالفتاح السيسي في بيان، "إنه لا مكان للحكم الشمولي في مصر ولا عودة إلى الوراء، مؤكداً أن الشعب الذي خرج في "ثورتين عظيمتين" لا يمكن لأحد أن يسيطر عليه أو يتحكم في مصيره. وأوضح أن الرأي العام هو الذي يقود مصر في الوقت الراهن".
وعلى عجل تم إصدار أمر استدعاء لنجم سيئ السمعة "جبهة الإنقاذ"، حمدين صباحي، ليلعب دور المهزوم أمام فتوة الحارة، غير قادر على الرفض أو الممانعة، للمشاركة في عملية سياسية ضخمة، زائفة، تحولت فيها الانتخابات إلى غسالة عملاقة، ألقوا بحمدين داخلها، مسحوقاً ومبيضاً في آن.
بانهيار الحد الفاصل بين الصدق والكذب والجد والهزل، في ذلك اليوم، وضع عبدالفتاح السيسي وجماعته السياسية والإعلامية أيديهم على الحل للاحتفاظ بالقدرة على السيطرة على المجتمع: اكذب وضع كذبتك في مغلف لامع وأنيق، يمكنك أن تقنع الجمهور، وإذا استشعرت مللاً من الكذبة، عاجِلْه بكذبة أفخم، ووهم أكبر، ينسيهم ما سبق.. وهكذا دواليك.
واعلم أنك لن تجد صعوبة في إيجاد متطوعين لتقنين أكاذيبك وشرعنة أوهامك، فخلف كل حمدين يتلاشى، حمدين جديد، يبدو ليبرالياً، أحياناً، وسمساراً، غالباً، ومعلناً عن استعداداته للعب دور مسحوق الغسيل في انتخابات رئاسية مبكرة أو غير مبكرة، طوال الوقت.
في عيد ميلاد الكذب: كل عام وكل الكذابين، في السلطة و"المهارشة" ليسوا بخير.
ساحة النقاش