مصطلح الدعاية أو ما يُعرف في اللغات الأخرى بـ "البروباجندا" هو تلك الرسالة المعدة والموجهة سلفًا للتأثير بشكل متعمد على أفكار وأفعال الجمهور فرادى أو جماعات، يتم ذلك التوجيه عبر رسائل صحيحة أو خاطئة، فهي عملية "كذب" وظيفية تتم بنشر كم من المعلومات لا يهم إن كان ذا مصداقية أو غيره ما دام سيدفع المتلقي لتبني الفعل المطلوب.

هذا المصطلح الذي ظهر إبان حرب الثلاثين عامًا التي شهدتها أوربا في القرن السابع عشر والتي عُرفت بحرب الفلاحين والتي حدثت نتيجة الانشقاق التاريخي في الكنسية الكاثوليكية بتمرد "مارتن لوثر كينج" على الكنيسة، ما تشكل على إثره لجنة كنسية للدعاية خوفًا من انتشار هذه الأفكار، ومنذ تلك اللحظة والبروباجندا وثيقة الصلة والارتباط بالديكتاتوريات على مر التاريخ.

تلك البروباجندا التي تُستخدم لإصابة الجماهير في أفكارهم بطلقة واحدة هي التقنية التي يستغلها الطغاة للترويج لأنفسهم ولمنجزات لا تتواجد غير في أوهام عقولهم الباطنة، وإذا ما تجرئ أحد على مناقشتهم في تلك المنجزات الوهمية، استخدمت نفس الآلة الدعائية لاغتيال هذا المتجرئ معنويًا ولا مانع من اتهامه بالخيانة والعمالة وانعدام الوطنية.

مشهد مكرر من التاريخ

عناوين الصحافة في صبيحة هذا اليوم من أيام الديكتاتوريات متشابهة إلى حد كبير جلها تدور في فلك واحد كالإنجاز العظيم، المشروع القومي، انتصار ضخم، الجميع يتحدث عن العصر الجديد الذي سيبدأ عقب انطلاق هذا المشروع، أبواق الأنظمة الإعلامية والدعائية تتحدث عن التربص بالمشروع من قبل الأعداء، النظام يتهم معارضيه بالحقد على نجاحه، إنها معركة بقاء، هذا المشروع هو سر النجاة الوحيد لهذه الدولة، انظر كيف فعلها الزعيم القائد الملهم وحده.

لم يختلف الحال كثيرًا في مصر في الأيام القليلة الماضية فالنظام وأتباعه وأشياعه على قلب رجل واحد، يتحدثون عن أهم إنجاز في تاريخ مصر الحديث "قناة السويس الجديدة" ربما هي أهم من أهم إنجاز في تاريخ مصر الحديث المباركي "مشروع توشكى"، وربما هي أهم أيضًا من أهم إنجاز في تاريخ مصر الحديث الساداتي والناصري، فكل ديكتاتور يأتي لديه ما هو أهم في تاريخ مصر الحديث والسلسلة لن تنقطع.

رئيس التحرير يُصدر تعليماته بكتابة المنشيت الرئيسي لجريدته عن المشروع الجديد صبيحة يوم الاحتفال الأسطوري "هدية مصر للعالم أجمع"، وسبحان من ألقى في أفئدة رؤوساء تحرير كافة الصحف الرسمية والتي تُطلق على نفسها مستقلة والحزبية المؤيدة منها والمعارضة نفس العنوان الرئيسي الذي يتحدث عن تلك الأسطورة التي صنعها الجنرال، في الوقت نفسه كان المذيع الهمام يقف مرتديًا ملابس بحرية كناية عن تأييده لهذا المشروع داعيًا إلى التفاؤل بالمستقبل المشرق الناتج عن هذا المشروع الوليد عن تفتق ذهن الجنرال الملك.

في نفس تلك اللحظة كانت أجهزة الدولة المعنية أيضًا تقوم بدورها في الأحياء والأزقة للترويج لهذا المشروع العملاق الذي لم يسبقنا به أحد من العالمين، فالأجهزة الإدارية للأحياء ومجالس المدن بالتعاون مع جهاز الشرطة عليهم أن يجبروا كافة المحلات التجارية وغيرها من المنافذ المملوكة  للشعب على تعليق لافتات تأييد لمشروع الجنرال، ومن يرفض ذلك قد تصل عقوبته لإغلاق منفذ رزقه لأنه لم يفرح مع مصر الجنرال، في الديكتاتوريات الفرحة إجبارية كما هو الحزن تمامًا طالما يحتاج ذلك مشروع الرئيس الوطني وما عليك إلا أن تنفذ في صمت، مثلما روى شاب صُودرت أدوات مطعمه الخاص بسبب رفض تعليق لافتة إجباريًا على واجهة محله تؤيد المشروع القومي الذي سيجعل مصر "قد الدنيا".

أما الرئيس الملهم حينها كان مشغولًا بإصلاح السفينة الملكية "المحروسة" كاستدعاء لتاريخ ديكتاتوري آخر رحل على متن هذه السفينة، ومع أول نداء لمساعده الضابط الذي لا يثق في غيره من المدنيين، والذي جاء لينبه الرئيس المدني أن لباسه العسكري المرشالي جاهز وينتظر بلهفة أن ينول شرف ارتداء الجنرال له، وما أن تجهز الرئيس العسكري ببزته الكولونيلة التي أثقلت صدره بنياشين مجهولة المصدر، حتى امتطى التاريخ وأبحر ملوحًا لشعبه الذي يتخيله، ومع لحظة تبادل الأدوار يظهر الرئيس المدني حاملًا سُرة من الدنانير الذهبية من قوت شعبه ليوزرعها على ضيوفه من الطغاة الذين حضروا ليهنئوه بمشروعه الفذ.

ما أشبه الليلة بالبارحة

"أطلقنا صاروخ" مداه 600 كيلو متر، صاروخ عربي يستطيع إصابة تل أبيب إذا أُطلق من القاهرة، القاهر، الظافر، عبد الناصر عام 1962 في العيد العاشر لثورة يوليو يحضر تجربة إطلاق طرازين من الصواريخ الحربية، تلك كانت الدعاية والبروباجندا الناصرية في ذلك الوقت التي تحدثت عن امتلاك صواريخ رادعة لإسرائيل، لكن زيف وخداع هذه الآلة الشرسة في ذلك الوقت كان كفيلًا بوضع هذه الصورة في الوعي الجماهيري حينها، ولكن الحقيقة اكتشفها أحد قادة الجيش في ذلك الوقت وهو الفريق سعد الدين الشاذلي، ولكن بعد أن حدثت هزيمة يونيو 1967.

يروي الشاذلي في مذكراته أنه سمع عن تلك الصواريخ والتي تسائل عنها المصريون عقب الهزيمة الشنيعة لمجموعة العسكرتارية الناصرية أمام إسرائيل، أخذ سعد الدين الشاذلي يتقصى وراء هذه الصواريخ، حتى وصل إلى المشروع الذي أنفق عليه ملايين الجنيهات ويجده ميتًا بعد أن تم تسريح كافة العاملين به على القطاعات الإدارية في الدولة، ولكن لحسن حظ التاريخ أنه وجد بعض من عينات هذه الصواريخ في المخازن وآثر أن يقوم بتجربتها ميدانيًا ليكشف حقيقة ما روجته الدعاية الناصرية عن هذه المشاريع القومية الجبارة الأسطورية.

يقول الشاذلي: "كانت هناك عيوبًا جوهرية في هذا السلاح تجعله أقرب ما يكون من المقلاع أو المجنيق اللذين كانا يُستخدما في العصور الوسطى"، كما أكد الشاذلي أن أقصى مدى يمكن أن يصل إليه الصاروخ هو ثمانية كيلو مترات، فهذا هو الإعلام والدعاية الديكتاتورية التي جعلت 8 كيلومترات تصبح 600 كيلومترًا.

مكينة الكذب هذه هي التي تحدثت عن مشروع الفضاء المصري في الستينات، وهي التي تحدثت عن نجاح تجربة أول طائرة تصنع في مصر، وهي التي تحدثت عن السيارة العربية، وغيرها وغيرها، حتى تمادت دعاية العسكرتارية في الكذب على الشعب بأخبار تقول أن الجيش المصري يوشك أن يدخل تل أبيب في 5 من يونيو 1967، وبالتأكيد أي فرد شكك في هذه الأنباء حينها قوبل بالتخوين ورمي بإنعدام الوطنية، حتى كانت النهاية هي تدمير جيش بأكمله وفقدان الأرض.

تجربة البروباجندا النازية

كذلك حين نتحدث عن هتلر النازي صاحب أعتى مكينة إعلامية كاذبة والتي كانت أسطورة حينها في غسيل الأدمغة وبيع الأوهام للشعب الألماني، وذلك عبر "جوزيف جوبلز" وزير هتلر للدعاية النازية ورائد الحرب الإعلامية النفسية وأسطورة فنون الإعلام الكاذب.

صور هذا الرجل أدولف هتلر للألمانيين على أنه المنقذ لهم ولألمانيا واستطاع حينها أن يروج للفكر النازي بقوة، وأن يسوق في ركابه عشرات الملايين من الألمان، فها هو هلتر يُعلن عن عاصمة بديلة لبرلين يُعدها لتكون أضخم عاصمة في العالم وقد بنيت لها المجسمات بالفعل ومن الواضح أن ثمة زعيم عربي يسير على هذه الخطى، وقد صدق الألمان حينها ذلك وصدق الآن المصريون ذلك أيضًا، وقد كان ذلك قديمًا بفضل الدعاية النازية القوية، ولكنها لم ترى النور واختفت ملامح هذه التجربة بكل أوهامها في حكم العالم، ومات هتلر منتحرًا وزير دعايته.

تجربة البروباجندا الفاشية

تجمعت الحركات الفاشية في إيطاليا تحت شعارات مثل احترام وتبجيل هيبة الدولة، والحاجة إلى القائد الزعيم الملهم القوي الحازم، بدأت الدعاية الفاشية بالحديث عن أن نهضة وطنية لن تقوم إلى على جثث الضعفاء، وأن على الفاشية أن تصل للحكم، ليظهر"أندريا موسولينى" كمخلصًا لهم وكهذا القائد الملهم، خوفًا من صعود التيار الشيوعي في ذلك الوقت.

حتى سيطر النظام السياسي الفاشي على جميع ما ينشر في الصحافة الإيطالية، وأصبحت الصحف الفاشية تبث الدعاية للترويج لسياسة موسوليني فقط، وتمارس الدولة الرقابة الصارمة على المطبوعات لقمع الآراء المخالفة لها. كما فُرض على كل أطفال المجتمع الالتحاق بمنظمات الشباب، حيث يدربهم النظام على المسيرات ويتعلمون المفاهيم الفاشية. كما أن للشرطة السرية دور في سحق أي مقاومة أو معارضة، وإذا سجن أحد بتهمة المعارضة  ققد يؤدي ذلك إلى التعذيب حتى الموت، في ظل كل ذلك هناك أشياء أهم لدى الزعيم موسوليني وهي عبارة عن مشاريع قومية كبرى أسطورية ستنفذها الفاشية من أجل مصلحة البلاد.

عليك أيها القارئ العزيز أن تُعيد قراءة العنوان الفرعي لأننا نتحدث عن الفاشية في إيطاليا وليس عن الأحداث في مصر وأي تشابه بين الأحداث فهي محض صدفة خيالية.

تجربة بروباجندا الديكتاتوريات العربية

في العراق كان الشعب العراقي يعاني ويلات الحصار الاقتصادي في منتصف التسعينيات، بينما في الوقت نفسه كان الزعيم صدام حسين يُشرف بنفسه على بناء أكبر مسجد في العالم. وكان من المقرر بناء هذا المسجد وسط بحيرة صناعية في منطقة المنصور في العاصمة بغداد، وكانت دعاية صدام حسين لا تكف عن ذكر هذه الأسطورة المؤلفة من ثمانية منارات وقبة بارتفاع 150 مترًا و يستطيع استيعاب 100 ألف مصلي، حتى غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003.

وعلى ذكر المشاريع المائية العملاقة كانت هناك تجربة ليبية ديكتاتورية أشبه بتلك المصرية التي يُحاول الزعيم الخالد عبدالفتاح السيسي تقمصها، وهي عزم العقيد معمر القذافي إنشاء مشروع النهر الصناعي العظيم أضخم مشروع لنقل المياه في العالم، في الثالث من أكتوبر بالعام 1983 وفي قرار فردي كمحاولة لحل مشكلة الجفاف قرر معمر القذافي تنفيذ فكرة هذا المشروع عبر حفر 279 بئر عملاق في أماكن المياة الجوفية ومد خطوط الأنابيب مجموع طولها 4000 كيلومتر، كان تمويل المشروع من الخزانة العامة الليبية الذي تم تقدير حجمه بـ 27 مليار دولار ليتجاوز لاحقًا سقف 35 مليار دولار.

أقيمت الاحتفالات الباذخة في ليبيا ابتهاجًا بنجاح مشروع القائد الملهم وتمت دعوة الرؤوساء والملوك لحضور حفل افتتاح هذا المشروع،  ولكن حقيقة المشروع لم يعلمها الكثيرون، فقد ثبت بعد ذلك فشل المشروع لأنه سيتسبب في تجفيف الآبار بالجنوب الليبي كما أنه في نفس الوقت أطاح بمشروعات التحلية في الشمال، بالإضافة لخسارة ليبيا مليارات الدولارات في هذا المشروع لمجرد رغبة الزعيم في حشد الجمهور خلفه كعبقري لامع منقذ ليبيا، عن طريق استخدام البروباجندا الدعائية لتخدير وعي الجماهير.

النهايات المتشابهة

ثمة مشتركات بين تلك الأحاديث التاريخية السابقة التي سقتها، أولها أن أي ديكتاتورية في التاريخ تسعى عبر وسائل الإعلام والدعاية لجعل الديكتاتور عقيدة الوطن، فلا تستطيع أن تفصل بين الوطن والقائد الملهم، وسيعتبر انتقاد شخص الديكتاتور هو هجوم على الوطن يأتي من شخص فاقد الوطنية للوطنية، وسيتكرر هذا حتى يخلط عوام الجمهور في أذهانهم  بين الوطن والديكتاتور، وسيتحول الدفاع تلقائيًا عن ذلك الديكتاتور بالضبط كما أنه الوطن ولا وطن بعده.

ومن المتشابهات أيضًا نهايات تلك الأنظمة الفقاعية الخادعة التي اعتمدت على بروباجندا الكذب واقتاتت في بقائها على الصورة والكلمة دونما الفعل، بدايةً من أول مثال ناصري كانت نهايته فشل ذريع إذ فرط في جزء من بلاده قبيل مصرعه عبر توريطها في حرب خاسرة في سبيل خطبة عصماء يرضي بها غرور نفسه.

كذلك نهاية النازية بانتحار هتلر الذي وصل به الحد لاحتلال فرنسا ورغم كافة أوهامه النازية التي سعى لتحقيقها فإنه ترك ألمانيا فريسة لهزيمته من دول الحلفاء واستيقظ الألمان على حقيقة فراغ الدعاية النازية، أما الفاشية أتت على الإيطاليين بنتائج كارثية حين  فشل الجيش الإيطالي في احتلال اليونان 3 مرات، ونال الإيطاليين هزيمتهم أمام البريطانيين في ليبيا، وقد ضَعُفَ الجيش الإيطالي بعد أن أنهكته الحروب المستمرة، حتى أثر ذلك على الوضع الداخلي وانهار الاقتصاد الإيطالي، وهرب موسوليني مُتخفيًا حتى قبض عليه في عام 1945وأُعدم وتم تعليقه في محطة للوقود.

وما نهاية الديكتاتوريات العربية عنا ببعيد فبالرغم من مكينة تخليد صدام حسين كقائد وزعيم وإمبراطور أُعدم صدام حسين على يد الأمريكان بعد غزو العراق وتدميره، ولم تفلح دعاية صدام في كف الأذى عن نفسه فضلًا عن شعبه، كذلك كانت نهاية ديكتاتور كمعمر القذافي ملئ الدينا ضجيجًا بألقابه، فما زادت نهايته عن قتله وسحله على يد الثوار في ليبيا، وهكذا كانت نهاية ملك ملوك أفريقيا كما كانت تُحب البروباجندا الدعائية له أن تلقبه.

تلك الصفات المتشابهة هي التي تجعل لدى كافة الطغاة حالة من الإنكار حين تتحدث الشعوب عن التغيير، فقل إعدام الديكتاتور الروماني نيقولاي تشاوشيسكو كان في مقابلة صحفية سُئل فيها عن التغيير والتظاهرات المطالبة به، فما كان جوابه إلا أن قال بعنجهية وكبر بأنه لا يوجد شيء مما تقولونه، وبعدها بأربعة أيام فقط من هذا التصريح تم القبض عليه مع زوجته وتم إعدامهما.

هذا الحالات من الكبر والغرور لم تمنع حاكم "أفريقيا الوسطى" العسكري "جان بيدل بوكاسا" من إنفاق ثلث ميزانية الدولة في يوم واحد للاحتفال بتنصيبه، هذا بالرغم من موت ربع أطفال جمهورية "أفريقيا الوسطى" في عام 1976 بسبب المجاعة.

لا نستطيع أن نتخيل النهاية في مصر بعد هذه الاحتفالات الأسطورية بعيدًا عن هذه النهايات لأن المقدمات واحدة ومتطابقة إلى حد كبير، ولا نستطيع أيضًا أن نقنع الجنرال وأبواقه بأن هذه النهاية الحتمية لأن جميع الديكتاتوريات سالفة الذكر لم تكن تتصور أي من نهايتها التي سردناها ولكنها الحتمية التاريخية التي لا تُحابي أحدًا من الطغاة.  

المصدر: نون بوست // أسامة الصياد صحفي سياسي مصري
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 259 مشاهدة
نشرت فى 18 ديسمبر 2016 بواسطة tarek2011

ساحة النقاش

قصاقيص الصحافة البيضاء

tarek2011
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

33,457