جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تقشَّفوا تقشَّفوا وإلا قاسمناكم بالغصبِ في قوت يومكم، يكفيكم فتات خبزكم فنحن أولياء نِعَمِكم، اسمعونا وأطيعونا فنحن شئتم أم أبيتم أسيادكم، ستظلون عبيدنا ولكن أمام الإعلام لا صوت يعلو فوق صوتكم، نحن حُكامٌ لا يهابون شعوبهم، فكيف لا ونحن المتجبّرون فى الأرضِ لا نخاف فى الظُلْمِ حتى لَوْمات لومكم.
تحيا "مسرنا" رغماً عن إرادة مصركم، وطننا هو الحضن ولا عزاء لأحلام وطنكم، مُباحٌ لكم جري الوحوش فى البرية، ولو خرجتم عن القطيع فلا غير السجون مصير يليق بكم.
"1"
لأول مرة منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني نجد مَن يترحم هذه الأيام على حقبة المخلوع حسني مبارك السوداء، ولهؤلاء عذرهم الحقيقي، فمصر تمر بأسوأ فتراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ناهيك عن الحياة السياسية التي قُتِلَت تماماً منذ بيان 3 يوليو/تموز، والإلقاء بأي مُعارِض في خندق الإرهاب والأجندات التآمرية الشيطانية، فالمعايير انقلبت، والمبادئ ازدوجت، وانكشفت الأقنعة وتعرّى كل صاحب سوء يضمر في صدره الشر للعباد، ولكن يظل كل متمسك بأهداف الثورة النقية -25 يناير- هو صاحب الثوب الأبيض الوحيد وسط مستنقع لا مفر من اجتيازه والسير على أشواكه.
اتّسعت دائرة العداء التي خلقها نظام عبد الفتاح السيسي، من محاولة القضاء على كل ما له علاقة بثورة 25 يناير، لتضم الطبقة الفقيرة من الشعب نتيجة تبنّي النظام الحاكم سياسة اقتصادية رأسمالية متوحشة يسعى النظام بمقتضاها إلى تحصين رجال الأعمال الذين يحاول السيسي منذ توليه الحكم ضمهم إلى معسكره، وإبعادهم عن مرمى ما يسميه نظامه "برنامج إصلاح المنظومة الاقتصادية"، في دولة يطالب مطبلاتية النظام فيها بعدم المعارضة والانضمام لصفوف المنبطحين.
وفي نفس الدولة تقف الطوابير في مديريات التضامن الاجتماعي للحصول على "شهادة فقر" لتقديمها للمدارس والإعفاء من المصروفات الدراسية!
ونفس الدولة لم نجد من النظام الحاكم فيها أي رد فعل أو تحرك رسمى لاحتواء كارثة غَرَق مركب الهجرة غير الشرعية على سواحل "رشيد" التى تطل على البحر الأبيض المتوسط، سوى لانتشال جثث الضحايا، ثم يسافر سامح شكرى، وزير الخارجية، للأراضي الفلسطينية المُحْتَلَّة بطائرة خاصة للمشاركة في جنازة شيمون بيريز أحد أهم قادة "العدوان الثلاثي" على مصر.
"2"
لماذا لم يذكر السيسي "اليهود" أو "العدو" في كلمته بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول هذا العام؟! ولماذا لم يخصص كلمته أساساً للحديث عن بطولات الجيش المصري في الحرب؟! السيسي اكتفى بتوجيه التحية للجيش و"الشرطة"، والوقوف بضع ثوانٍ حداداً على أرواح الشهداء.
السيسي في العموم لا يترك مناسبة إلا ويزج بالجيش في حديثه، بل وتخصيص كلمته كاملة في بعض الأحيان للقوات المسلحة، ومشروعات الجيش التنموية ودوره في العمل المدني.
أما اليوم الذى نحتاج فيه إلى الحديث عن الجيش وتخصيص كلمته كاملة لرجال القوات المسلحة وبطولاتهم، يتجاهل فيه السيسي دوره ويعتبره هامشياً، ولم يتطرق إلى الحرب أساساً إلا من بعيد بإشادة سطحية عن وقوف الشعب خلف الجيش.
ننتظر تلك الذكرى بفارغ الصبر لتذكرة "العدو" بمذلته في ملحمة أكتوبر مثلما يفعلون معنا في ذكرى نكسة 1967، ولكن السيسي خصص نصف كلمته للترحيب بالديكتاتور السوداني عمر البشير والسودانيين بسبب مشاركتهم بفرقة مشاة في الحرب، لهم دورهم في 6 أكتوبر، ولكن أين أنت يا سيسي من بطولات الجيش المصري؟!
أما النصف الثاني من كلمته فخصصه للحديث عن تضحيات الشعب وتجاوزه الأزمات والصعاب، وربطها بالأيام التي نعيشها والحرب على الإرهاب، في الوقت الذي كان يجب فيه أن يتحدث عن مهمة الجيش الرئيسية وبطولاته في ذكرى الحرب.
"3"
بلادنا في عهد السيسي تحولت من "مصر" إلى "مسر"، مُحِيَت مفاهيم مجتمعية عديدة في أقل من عامين، وتبدلت عقائد كنا نظنها ثابتة لا خلاف عليها، ودخلت الصحافة عصراً جديداً من "التعبوية" لم نعهدها حتى أيام جمال عبد الناصر، لمحاولة إرساء نظرية "المعارضة = مؤامرة"، فلن تكون وطنياً مخلصاً في نظر النظام إلا بالتطبيل والاكتفاء بالإشادة، وفي ذلك يتنافس المتنافسون وبشدة، اللهم إلا القليل من الصحفيين الملتزمين بأخلاق المهنة وخصائصها.
فالصحفي الذي يقدس مهنته لا يمكنه أبداً تأييد أي حاكم أو مسؤول حتى لو والاه على المستوى الشخصي -فالصحفي أولاً وأخيراً مواطن لديه توجّهات فكرية معينة- إذ يعلم كيفية الفَصْل بين أفكاره الشخصية وعمله المهني الموضوعي.
لا يجوز أبداً للصحفي تأييد أي مسؤول أو أي حاكم باعتباره الرقيب، فالصحفي هو همزة الوصل بين المجتمع وبين كل ما يُمارَس من الأنظمة الحاكمة، وكل الأقاويل الخاصة بأن الدولة تمر بمرحلة عصيبة تستوجب التكاتف والتلاحم، لا تبرر أبداً تأييد الحاكم أو الانبطاح له، فليس على الصحفي غير "الرَّصْد"؛ رَصْد الإيجابيات، ورَصْد السلبيات، وتحليل الأمور لطرح التساؤلات التي من شأنها توعية المجتمع.
وفي دولة مثل "مسر" انعدم فيها كل ما هو إيجابي أو تصرف شِبْه حكيم من النظام، فلم يتبقَّ للصحفي إلا رَصْد السلبيات، أو الكوارث -إذا صح القول- فليس من حقك كفرد من النظام الحاكم أو كعنصر مجتمعي موالٍ له أن تصف الصحفي بـ"الإرهابي"؛ لأنه يمارس دوره في فَضْح فسادك أو قمعك، ليس من حقك اتهام الصحفي بـ"المتآمر" لأنه يعارض.
"المعارضة" وظيفة الصحفي الأساسية باعتبارها إحدى أدوات الرقابة والرَّصْد والتقويم، لا يوجد تقويم دون معارضة، والمسؤولون في أي نظام حاكم بأي دولة يعلمون ماهية الصحافة، على اعتبار أن هناك مَن يراقب ويقيم ويحلل ويوعي المواطن.
الرئيس الأميركي الأسبق "ريتشارد نيكسون" استقال من منصبه بسبب اثنين من الصحفيين في الـ"واشنطن بوست" هما: كارل برنستين، وبوب وودورد، اللذان فجَّرا فضيحة الـ"ووتر جيت" Watergate، عندما تجسس نيكسون على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس له في مبنى "ووتر جيت" قبل معركة التجديد للرئاسة.
أما في مصر تحول الصحفي -إلا القليل منهم- من التقويم والمعارضة إلى التطبيل والانبطاح لدرجة العَصْف بأي صحفي معارض يحاول حتى التطرق إلى السيسي كرأس الدولة وأساس نظام سمته الرئيسية الظُلْم والشمولية.
يعلمون أننا لسنا بمتآمرين، ينكّلون بنا للتنكيل بثورة 25 يناير التي وجدنا معها كياننا، يعلمون أن الصحافة التعبوية لم تأتِ على مصر إلا بالكوارث، يعلمون أن "مصر" تحولت إلى "مسر" التي لم يسلم منهم حتى اسمها، "مسر" التي يتجلى فيها الآن كل ما يدور في خاطر السيسي.. ولكننا بالمرصاد.
المصدر: أحمد براء // كلمتى
ساحة النقاش