كيف نجدد حياتنا ؟ (4) – التجربة اليابانية
التجربة اليابانية رائعة ومثيرة ومفعمة بالأمل وروح التحدي ، لقد كانوا يعرفون حقيقة الأوربيين الاستعمارية فمنعوهم من دخول بلادهم وكانوا يقولون عن الأوربيين : هؤلاء جراثيم المرض يجب أن لا يأتوا إلى بلادنا . ولم يكونوا يسمحون للسفن التجارية الهولندية أن تأتي إلى موانيهم إلا مرتين في العام فقط ، وكانوا يخضعون هذه السفن للتفتيش الدقيق ، فإذا وجدوا الكتب العلمية في الطب والهندسة وغيرها صادروها وزودوا بها جامعاتهم ، ولو وجدوا كتب داعرة لا نفع فيها أخذوها فأتلفوها ورموا بها في البحر ، فالإحساس الشديد عند اليابانيين بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي دفعهم للبحث عن العلم ـ ومنذ البداية ـ وكان هذا العلم موجوداً عند الأوربيين فعملوا المستحيل للحصول عليه بمصادرة الكتب وبإرسال البعثات العلمية للتجسس على الأوربيين في مصانعهم وجامعاتهم حتى استطاعوا أن يأخذوا العلم منذ القرن الثامن عشر مما جعل اليابان دولة ضخمة هي الثالثة فى الدول الصناعية والأولى فى مجال الإلكترونيات.
وكل هذا بسبب روح التحدي وحبهم الشديد للاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي وكانت المشكلة القاتلة للشعب اليابانى هو ما حدث من اصطدام عسكرى مع الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وأنها خرجت اليابان منهزمة هزيمة معنوية ومادية ولكن اليابان حكومة وشعباً فقد قرروا وصمموا على تحدي هذه الهزيمة الساحقة وأن يبدءوا رحلة العودة إلى المجد والتقدم رغم ما حدث من استسلام أثناء الحرب بسبب استخدام أمريكا للقنابل الذرية في تدمير الشعب اليابانى ومنجزاته ، ولقد صدق الشاعر العربى في قوله:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن بستجــــيب القــدر
ولابـــد للـــيل أن يــــنجـــلى لابد للقــــيد أن ينـــــكسر
وبعد نصف قرن من الأمل المتواصل والتحدي المستمر لروح الهزيمة استطاعت اليابان أن تصل إلى قمة التفوق الاقتصادي والتقدم التكنولوجي وتستطيع الآن أن تقول لأمريكا لا. وفي استطلاع للرأى أجرته صحيفة “الواشنطن بوست” الأمريكية بهذه المناسبة وكان السؤال المطروح هو : من الذي انتصر؟
قبل أكثر من نصف قرن ، وفي صباح يوم الأحد 7 ديسمبر عام 1941، قامت الطائرات التابعة لسلاح الجو الياباني بهجوم على موجتين أولاهما في الثامنة إلا خمس دقائق والثانية في التاسعة إلا ربعاً ، وكانت حصيلة الهجوم: إغراق 18 سفينة حربية أمريكية وتدمير وإعطاب 188 طائرة ومصرع 2330 من العسكريين الأمريكيين وإصابة 1347 آخرين. وكان الهجوم مرتكزاً على الأسطول الأمريكي العامل في المحيط الهادى بميناء “بيرل هاربر” بجزر هاواى.
وبمناسبة مرور 50 عاماً على هذه الذكرى ، ازدحمت شاشات التليفزيون الأمريكي بالبرامج، وملأت الكتابات أعمدة الصحف والمجلات ، وأتخمت الأسواق ـ الجديدة والقديمة ـ كلها يتنافس في عرض وتحليل ما جرى فى ذلك اليوم الذى يطلقون عليه اسم “يوم الأحد الدامي” وإن كانت التسمية الأكثر شهرة بين الأمريكيين هي: “يوم العار” day of infamy وإني لأنظر بإعجاب للعقلية التي تجتهد في الاستفادة من الهزائم كما تستفيد من الانتصارات. لقد علمتنا شرائع السماء “أن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين” ولا يكون ذلك إلا عند تحليل أسباب الهزيمة والاستفادة منها.
وكان الشيء الغريب هو السؤال الذي طرحته صحيفة “الواشنطن بوست” بهذه المناسبة وهو: من الذى انتصر ومن الذي انهزم فى الحرب العالمية الثانية؟!!
ولا شك أن هذا التسؤال يبدو غريباً وبعد عشرات السنين من الحدث ، وربما غير مبرر على ضوء المعرفة التاريخية المعروفة للجميع … وهي أنّ اليابان قد استسلمت بلا قيد ولا شرط بعد 45 شهراً من هجومها على “بيرل هاربر” إثر إلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتي “هيروشيما و ناجازاكي” فكانت اليابان هي البلد الوحيد في التاريخ ـ حتى اليوم ـ الذي ذاقت ويلات الهجوم الذري.
لكن اليابان “المهزومة” عسكرياً رفض شعبها الهزيمة حتى لا يقع تحت براثن أعتى القوى التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية ، بل هبت لكي تعمل بكل جدية وتصميم مما وصل بها إلى المركز الرفيع الذي تحتله اليوم ، وكانت النتيجة هي أن الشركات الكبرى والاستثمارات الأمريكية الضخمة التي سارعت إلى “غزو” اليابان فور انتهاء الحرب ، مثل “سفن أيليفن” و “مركز “روكفلر” وإطارات “فاير ستون” وغيرها أصبحت اليوم مملوكة بالكامل لرؤوس الأموال اليابانية ، وليس هذا فقط ، بل أصبحت سيارات “الهوندا ، والتويوتا ، والميتسوبيشي” تحقق معدل مبيعات تتزايد باستمرار داخل الولايات المتحدة ـ مهد صناعة السيارات في العالم ـ بينما يتراجع أمامها إنتاج ومبيعات العمالقة من أمثال “فورد ، وجنرال موتورز” وغيرهما ، بل إن رأس المال الياباني أخذ يعبر المحيط الهادي ، في موجات عاتية ، ليشتري ما يمكن للمال أن يشتريه على الأرض الأمريكية: من ناطحات سحاب إلى استوديوهات السينما إلى صناعة الدواء التي أصبح اليابانيون يملكون 40% منها . وانتبه الأمريكيون ـ في انزعاج ـ أن اليابانيين مضوا يقيمون المصانع ومحطات توليد الكهرباء ، بل والمدارس اليابانية ، على الأرض الأمريكية.
وفي المحصلة النهائية فإننا نجد اليوم أن الميزان التجاري بين البلدين يحقق فائضاً هائلاً لصالح اليابان يصل إلى 134 مليار دولار سنوياً ، وأصبحت الخزانة الأمريكية في وضع يضطرها كما يقول الصحفي الأمريكى “ت.ر. ريد” خبير الشئون اليابانية في صحيفة “الواشنطن بوست” إلى أن تمد يدها إلى طوكيو كل شهر ، لتتوسل اقتراض المزيد من مليارات الدولارات. وهو وضع يبرر – في وجهة نظر هذا الصحفي الأمريكى – ذلك التساؤل الذي أثير فى ذكرى مرور نصف قرن على “يوم العار” الأمريكى: من كان الطرف المنتصر في تلك الحرب ومن كان المهزوم؟ (1)
إن هذه المعركة بجانبيها – المنتصر يومها والمهزوم – درس تاريخي هام والتاريخ إنما هو دروس وعبر ، ولا يستفيد منها إلا العقلاء فقط ، وصدق الله العظيم: “إنما يتذكر أولو الألباب”.
ساحة النقاش