|
||||
|
بعد أن أنهت "حياة سندي" مرحلة البكالوريوس على حسابها الخاص بتفوق، حصلت على منحة لإتمام الدراسات العليا من جامعة كامبريدج في تخصص "التقنية الحيوية"، وقد سجل الشهر الرابع من مرحلة الدكتوراة سبقًا لها، حينما أرادت المشاركة في مؤتمر "جوردن" المرموق في بوسطن، ولكن كامبريدج اعترضت بشدة على ذلك، بحجة أنها لا تتحمل تكاليف مشاركة طلابها إلا في العام الثالث بعد أن يكونوا قد حققوا شيئًا يستحقّ تمثيل هذا الكيان العريق، فسألتهم حياة: "ماذا لو كانت الجهة المنظمة على استعداد لتغطية التكاليف؟ هل تمانعون؟"، فعلت وجوههم الدهشة، فأعطتهم موافقة المؤتمر على دفع كافة التكاليف رغبة في الاطلاع على ورقتها المثيرة، وكان هذا الموقف وردود الأفعال الواسعة على ورقتها قد أعاد ترتيب العلاقة بينها وبين كامبريدج لتتخذ مسارًا جديدًا.
لذلك، لما تعاقدَت جامعة موسكو مع جامعة كامبريدج لإنجاز أبحاث في التقنية الحيوية، فاجأتهم الأخيرة عندما أرسلت لهم سندي لتشرف على مسار الأبحاث وحدَها، وهو ما أثار حفيظة الروس عندما رأوا هذه الشابة الصغيرة المحجبة، فقابلوها بازدراء أول الأمر، فلما دخلت معهم إلى قاعة الاجتماعات خاطبتهم بلهجة صارمة قائلةً: "لقد قطعت كل هذه المسافة بناء على طلبكم ولديّ مهمة سأنجزها، فهل نبدأ؟" وما هي إلا أيام قليلة حتى تبدلت انطباعاتهم جذريًّا.
وكانت مثل هذه النتائج هي الطريق الذي جعل كامبريدج تكون البوابة لاختيار حياة سندي عام 99 في عضوية "مجموعة العلماء الشباب الأكثر تفوقًا في بريطانيا" والتي تتبع لمجلس العموم البريطاني، وهي مجموعة استشارية تقابل الوزراء والمسئولين لبحث الاستراتيجيات التي تتعلق بمستقبل العلوم والمجتمع.
هذا التقدير لم ينشأْ من فراغ، وإنما بسبب إنجازاتها البحثية التي أحدثت دويًّا في الأوساط العلمية، ولعل أبرز اختراعاتها هو جهاز مارس "MARS " في السنة الثانية من الدكتوراة، وحول هذا الجهاز تقول حياة سندي في لقاءٍ لها على موقع عربيات: "عكفت طويلًا على دراسة شريحة الجينات والحمض النووي DNA والأمراض الوراثية، ووجدت من كل ذلك أن المجسات المتوفرة إما أنها معقدة للغاية وضخمة أو أنها تفتقد للدقة، فمثلًا المجسات الخاصة بالحمض النووي عند استخدامها لمعرفة ما إذا كانت الحالة تؤهلها جيناتها للإصابة بمرض السكري لا تتجاوز نسبة دقتها 25%، فعملت أيضًا على اختراع مجس آخر لرفع هذه النسبة إلى 99.10%".
أما رسالة الدكتوراة، فكانت نقلة أخرى، لأنها عبارة عن 5 رسائل في تخصصات دقيقة مختلفة، وقد استغرقت المناقشة أكثر من 4 ساعات، فلما انتهت المناقشة، اختلت اللجنة لـ 5 دقائق، قبل أن تعود إلى داخل قاعة كامبريدج الشهيرة ليتم تقليدها وسامًا لا يقدر بثمن عندما قال البروفيسور المقرر: "مبروك، لقد تم إجازة رسالتك، لقد فتحت يا حياة للعلماء نافذة جديدة لفهم العلوم".
هذه إنجازات تعمدتُ إيرادها بهذه الطريقة حتى نختار اللحظة المناسبة فعلا للكشف عن القيمة الرئيسية التي تحكم تحركات حياة سندي في مقابل القيم الهامشية بالنسبة لها، فامرأة تحصل على الدكتوراة ومعها هذا التاريخ الحافل، يعني أن كل الأبواب في كل مكان في العالم مفتوحة تمامًا لها بدون استثناء مطلقًا، بما في ذلك إسرائيل نفسها التي دعتها ثلاث مرات، وهذه من أخطر اللحظات وأكثرها حساسية، وتعرف بمرحلة اتخاذ القرار "Decision Making " في مجال الفلسفة الأخلاقية، وكثير من العلماء لا يدرك الكثير من أبعادها إلا بعد فوات الأوان، ويذكر المسيري أنه سأل مخترع القنبلة النووية عن أول شيء فعله عندما انتهى من اختراعه، فرد عليه العالم بأنه "تقيأ مباشرةً!"، والسبب في هذا، أنه ظل يعمل طوال السنوات وفق نموذج إدراكي يقوم بلا وعي بتهميش كل التفكير في عواقب مثل هذا الاختراع، فلما انتهى منه أدرك فظاعة ما سيجري، ولكن حياة سندي كانت على وعي كبير بكلّ هذا، وقامت برفض كل الخيارات التي قد تستغلّ أبحاثها لخدمة أغراض عسكرية أو أي أغراض لا تخدم الإنسانية.
وقد أعلن معمل "سانديا لاب" في تكساس، وهو أكبر معمل تجري فيه أبحاث حساسة في أمريكا حاجته لحياة سندي لأنه لا يوجد لها نظير في مجالها، وهو ما قابلتْه بالرفض التام، كما أنها رفضت الانخراط في ناسا لأن أبحاثهم طويلة العمر وتقطع عليها خط الرجعة إلى بلادها، كما أن أبحاثهم لا يستفيد منها الفقراء.
ولذلك، لا عجب لمن كانت رؤيتها حادة بهذه الطريقة، أن يتم اختيارها من قبل منظمة "Pop Tech " عام 2009 لتكون واحدة من 15 عالمًا يُنتظر من أبحاثهم أن تغير مسيرة العالم.
في هذه الفترة، قامت حياة سندي ومعها مجموعة من الشركاء يتقدمهم البروفيسور جورج وايتسايد بخطوة استراتيجية مهمة عندما قاموا بتأسيس مؤسسة غير ربحية أطلقوا عليها "التشخيص للجميع"، وكان الارتباط بمشروع مؤسسي تكون فيه شريكة جورج وايتسايد مكسبًا مهمًّا، لأنه الاسم الأول في عالم الكيمياء بين مَن هم على قيد الحياة حسب مؤشر "Hirsche " في آخر إحصائية عام 2009 وعضو مؤسس لـ12 شركة قيمتها السوقية اليوم تتجاوز الـ20 مليار دولار.
وهدف هذه المؤسسة، كما تقول عنها حياة سندي، هو "إيجاد حلول وتقنيات حديثة منخفضة التكلفة لتشخيص الأمراض في جميع أنحاء العالم وتحديدًا في الدول النامية التي لا تتوفَّر فيها المعامل والمختبرات بتجهيزاتها المتطورة، مما يجعل التشخيص عملية صعبة ومكلفة قبل العلاج إذا تطلب الأمر".
ولم تمضِ فترةٌ بسيطة، حتى أعلنت حياة سندي عن اختراعها لتقنية جديدة ستكون قادرة على اختزال مختبرات التحليل في جهاز بحجم بصمة اليد، مصنوع من الورق تمامًا، ويمكن للشخص العادي أن يستخدمه لإجراء التحليل في أي وقت وقراءة النتيجة مباشرةً من خلال درجة الألوان وخطوطها لتشخيص الحالة المرضية دون الحاجة لزيارة المعمل، كما أنه يمكن تحري الدقة أكثر، من خلال استخدام كاميرا جوال عادية لتصوير الورقة بعد تغيُّر لونها، وسيكون البرنامج القارئ للصورة قادرًا على إعطاء النتيجة مباشرةً أو إرسالها إلى أي مختص في حال الضرورة، وهذه نقلة مهمة، لأنها ستكون قادرة على إنقاذ حياة مئات الآلاف من الناس الذين يموتون كل سنة بسبب عدم الحصول على حقهم في التشخيص المبكِّر.
هذا الاختراع هز الأوساط العلمية، فقد حصل على المركز الأول في مسابقة خطط العمل للمشاريع الاجتماعية التي أقامتها جامعة هارفارد، وهي المرة الأولى التي يفوز فيها مشروع تقدمه مؤسسة غير ربحية في منافسة مع مؤسسات ربحية عملاقة، وليس هذا فحسب، بل إن هذا الاختراع قد فاز أيضًا بالمركز الأول في مسابقة المبادرات التي أقامها معهد "MIT "، وهو بذلك أول مشروع على الإطلاق يحصد الجائزتين من الجامعتين المنافستين في عام واحد، وهو أمر في غاية الأهمية لصالح مؤسسة "DFA "، لأن التقدير العلمي من جامعة هارفارد الأولى في العالم في مجال الأعمال ومعهد "MIT " الأول في العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا، والكلام هنا لسندي، سيساعد على المضيّ في اختباراتنا المعملية لنضع الجهاز في متناول المحتاجين ومؤسسات الرعاية الصحية في العالم.
الذين قرءوا المقال السابق، سيتساءلون عن مستوى التواصل بين مؤسسة حياة سندي وبين مؤسسة جيتس، ومدى قدرة الأخيرة على الرصد والاستثمار بما يخدم رؤيتها ويحقق أهدافها، فهذه هي اللحظات التي يمكن فيها اختبار مؤسسة جيتس، لأن مشاريع مؤسسة "التشخيص للجميع" معنيَّة بإعطاء الحقوق المتساوية بين البشر في جانب مهم هو جانب التشخيص، وهو ما يتفق تمامًا مع رؤية مؤسسة جيتس، ولأن الأمر على هذا النحو فعلًا، ولأن الشعارات التي تطلقُها مؤسسة جيتس ليست من باب الدعوى أو العبث، كان من الطبيعي أن تحصل حياة على تمويل لإنجاز أحد المشاريع، وهو مشروع لاختراع جهاز ورقيّ بتكلفة بسيطة يقوم بقياس الوظيفة الكبدية، ويلعب دورًا حساسًا لمتابعة التأثيرات الجانبية عليها لأولئك الذين يأخذون جرعات دوائية لعلاج الإيدز وغيره، وقد وجدت حياة سندي أنه لا يمكن اليوم القيام بعملية التشخيص لأداء هذه الوظيفة بعيدًا عن المستشفيات المتطورة، وهو أمرٌ متعذر في كثير من الأماكن الفقيرة في العالم، ويؤدي تأخُّر التشخيص إلى الوفاة رغم إمكانية العلاج، ولكن لديها مجموعة من الأفكار التي ستنقذُ حياة مئات الألوف من البشر من خلال جهاز ورقي قد تصل تكلفته إلى أقلّ من دولار واحد، وهذا بالضبط ما يريدُه جيتس، لأنه لا يريد لمشروعِه أن ينتهيَ عام 2019، ولكنه يريد إحداث ثورة في عالم المؤسسات غير الربحية تستمرُّ للأبد، وذلك من خلال زيادة قدرتها على تملُّك مثل الاختراعات الإبداعية بسهولة وتغيير اتجاهِها من خلال فتح مسارات جديدة كانت في يوم من الأيام يظنُّ أنها مقفلةٌ للأبد.
لا أستطيع التحدث نيابة عن حياة سندي، ولكني متأكِّد من أنها عندما أسست "DFA " وتلقت تمويلًا جزئيًّا من رجل أعمال مثل بيل جيتس، أن ذاكرتها عادت سنوات للوراء، وتحديدًا إلى عام 2005 عندما ألقت كلمة في أشهر دورة من دورات منتدى جدة الاقتصادي أمام جمع من أكبر رجال الأعمال في الخليج والعالم الإسلامي، قالت لهم بالحرف الواحد: "إن من ينجح في التحكم بالتقنية الحيوية ينجح بالتحكم في العالم وتسخير موارده لحياة أفضل، فالتقنية الحيوية اليوم مفتاح النهضة العلمية والاقتصادية"، ولسان حالها يقول "ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد".
ولم تكن حياة سندي تطلب منهم تبرعًا مطلقًا، كما ذكرت في مقابلتها الأخيرة على البي.بي.سي، بل إنها قد عرضت عليهم مجموعة من الأفكار التي تخصُّ الاستثمار في التقنية الحيوية، وذكرت لهم أن في رأسها ما سيدرُّ عليهم الكثير من المال، وكم كان إحباطها كبيرًا، عندما انتهت من إلقاء كلمتها، فلم يتصل بها إلا ثلاثة رجال أعمال فقط، أمريكي، وبريطاني، وياباني! ولو كنت هناك، لربما أنشدت لحياة سندي قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
ساحة النقاش