|
||||
|
علي الحمدان
في الأسبوع الماضي، كان العالَم المتعطش إلى أفكار وحلول جديدة حول نظام عالمي جديد يسمح بمزيد من الاستقرار ويعالج الخلل في موازين القوى وفي عمل المؤسسات الدولية، على موعد مهم مع قمة دافوس السنوية في دورتها الأربعين، والتي جاءت هذه السنة بعنوان جذَّاب هو: "نحو تحسين أوضاع العالم: إعادة التفكير.. إعادة التصميم.. إعادة البناء". وقد شارك في المنتدى حوالي 2500 من أهم النُّخَب السياسية والاقتصادية والفكرية، من بينهم رؤساء دول كبرى وقياديون وتنفيذيون في 900 شركة من أكثر الشركات تأثيرًا حول العالم. وقد شهد منتدى دافوس 2010 تركيزًا منقطع النظير طيلة 4 أيام على عبارات بدأت بالدخول إلى الخطاب الاقتصادي الجديد بقوة وتعكس الخوف من تَبِعات استمرار الوضع الحالي، مثل "الرأسمالية الجديدة" و"الرأسمالية المتطورة" و"الاقتصاد الجديد"، والتي جاءت على لسان أغلب المشاركين. ورغم وجود تبايُن كبير في وجهات النظر، فإنّ نبرة التشاؤم بالمستقبل كانت هي سيدة الموقف ومحلّ الاتفاق بين الجميع.
وبينما كان النقاش في اتجاهه إلى طريق مسدود، أعلن رجل الأعمال بيل جيتس رئيس مجلس إدارة "مؤسسة بيل وميليندا جيتس" وزوجته عن مفاجأة مُدَوّية وذلك بتبرعمها بمبلغ عشرة مليارات دولار خلال السنوات العشر المقبلة لتمويل برامج التطعيم ضد الأمراض في الدول النامية. وقد صرَّح جوليان لوب ليفي، الرئيس التنفيذي لمؤسسة "GAVI " التي تركِّز على زيادة معدلات المناعة لدى الأطفال في دول العالم، بأن هذا التبرُّع خطوة غير مسبوقة ستُسْهِم في إنقاذ أرواح حوالي 8 ملايين طفل سنويًا. وهذا يعني أن جيتس لم يأتِ إلى المؤتمر نظرًا لأنه يعانِي من وقت الفراغ الزائد، ولا حبًّا للثرثرة والتقاط الصور مع بعض المشاهير، أو طمعًا في حضور البوفيهات الفاخرة في أغلب الظنّ، ولكن لأن لديه خطوة استراتيجية يريد أن يقدِّمها لارتباطها بموضوع القمة التي قرّر السفر إليها، وهي خطوة أعلنها في عبارات قصيرة أحرجت كثيرًا أولئك الذين جاءوا من كل مكان بحثًا عن مصالحهم الخاصة.
الخيارات المتاحة في دائرة المشاريع الإنسانية والاجتماعية أكثر من أن تُحْصَى، وهو ما أثار التساؤل حول السبب الذي يدفع مثل بيل جيتس لوضع كل هذا المبلغ في سلة واحدة بدلاً عن توزيعه على مشاريع متنوعة تكفل له حضورًا إعلاميًا مستمرًا وصاخبًا لا ينقطع في كل مكان، ولكن هذا الإشكال سيزول إذا درسنا جيدًا نشاط مؤسسة "بيل وميليندا جيتس" والغاية الأساسية من وجودها. كما أنه يجب أن ندرك نقطة مهمة، وهي أنه عندما يتحول رجل أعمال فذّ مثل بيل جيتس إلى دعم وتأسيس المشاريع الإنسانية والاجتماعية وإدارتها، فإنّه ينقل معه عقله وخلاصة تجاربه التجارية والمؤسسية، وهي نقطة رغم بداهتها فإننا لا نرى تجلياتها في الأغلبية الساحقة من المشاريع الخيرية التي يقف وراءها كبار رجال الأعمال المسلمين. ولكي يفهم الإنسان طبيعة الخيار، فإنّه حين يزور الموقع الإلكتروني لمؤسسة "بيل وميليندا جيتس" سيجد في الأعلى عبارة لافتة تقول: "All Lives Have Equal Value " وتعني أن "كل نفس لها قيمة واحدة متساوية مع غيرها من النفوس"، وهي رؤية ستظلّ تصاحب الزائر أثناء تجوله لكل صفحات الموقع وقراءته لكل ما يرتبط بالمؤسسة.
هذا يعني أن كل المشاريع الخاصة بالمؤسسة يجب أن تعكس هذه الرؤية ابتداءً، وهي رؤية دقيقة ترتكز على سؤال "القيمة" الذي يرتبط ارتباطًا متلازمًا لا ينفكّ أبدًا عن سؤال "الحقوق" كما هو معلوم. وهو ما يضيق من دائرة الخيارات التي أمامها، وفي الوقت نفسه يتيح المجال لدراسة الفرص المفتوحة لانتخاب أكثرها جاذبية للاستثمار في دائرة المشاريع الإنسانية والاجتماعية. وهذا مشروع يعتمد على مقاييس أخلاقية تختلف عن المقاييس الربحية، ولكنه يتحرك بنفس المنطق الإداري رغبة في تحقيق نفس النجاح. وعندما يكون الاستثمار في دائرة الحقوق، فإننا في واقع الأمر يجب أن نشير إلى أن الحقوق الضائعة أو الناقصة في هذا العالم كثيرة، وأغلبها خلافِي شديد الخلافية، وهذا ما يدفع المؤسسة إلى البحث عن أقلها شبهة وأكثرها إجماعًا. وبما أنّ النفوذ الذي تملكه المؤسسات غير الربحية أقل بكثير من النفوذ الذي تملكه مثل الشركات متعددة الجنسية "MNCs " في المحيط الدولي، فإن "إدارة المخاطر" في مثل مؤسسة "بيل وميليندا جيتس" ستشير عليها بالابتعاد تمامًا عن دائرة كثير من المشاريع المرتبطة بالحقوق الإنسانية السياسية في أي مكان مهما كانت أهميتها في تحقيق المساواة بين البشر؛ لأنها تعي جيدًا مستوى البراجماتية البحتة والتذبُّذب الحاد الذي يحيط بملف الحقوق الذي تديره الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الخارجية، وهو ما يشكل خطرًا يهدد مصير أي مشروع طويل المدى.
الرجل الذي أبهر العالم وظلّ علماؤه يدرسون لسنوات طويلة خياراته الاستثمارية العبقرية في مجالات التقنية والبرمجيات، لم يجد في مجال المشاريع الإنسانية والاجتماعية، استثمارًا أكثر قابلية على عكس رؤية مؤسسته وتحقيق أهدافها، من الاستثمار الأخلاقي لصالح حقوق الأطفال، ولم يجد حقًّا أهم وأعظم ثمرة يمكن أن يحقق لهم المساواة المنشودة بغيرهم مثل حقوقهم في الحصول على كافة التطعيمات الطبية في البلدان الفقيرة. وهذه التطعيمات تستخدم منذ عقود لحماية الإنسان والحيوان من الآثار المرضية الناتجة عن العدوى بميكروب ما، سواء كان هذا الميكروب فيروسًا أو بكتيريًا. وبحسب أحد التقارير الطبية فإنّ التطعيم "يتكون من ميكروب حي كامل، تَمّ إضعافه وفقد شراسته أو قدرته على إحداث المرض. ويهدف الأطباء من حقن مثل تلك المواد داخل أجساد الأطفال والبالغين إلى تعريف جهاز المناعة بها، ومِن ثَم تدميرها وتذكرها لاحقًا. فجهاز المناعة له (ذاكرة) يمكنه من خلالها تذكر المواد الغريبة التي دخلت الجسم، واسترجاع أفضل الطرق وأكثرها فعالية في القضاء عليها. ولذا عندما يصاب الشخص لاحقًا بالميكروب كامل الحيوية وبالغ الشراسة، يكون جهاز المناعة بميكانيزماته المختلفة، وآلياته الدفاعية المتعددة، على أهبة الاستعداد، وعلى درجة قصوى من اليقظة، تُمَكّنه من القضاء على الميكروب الغازي والتخلُّص منه قبل أن يتمكن من الجسد وأن تستفحل آثاره المرَضية والسمية". ويبدو أن بيل جيتس وجد من خلال وَعْيه بأبعاد هذه الوظيفة، أن هذه التطعيمات تعمل عمل المؤسسات السياسية والقانونية التي تتعلق بحق الإنسان بالحماية، ولكن أداء التطعيمات كمؤسسات داخل الجسم مضمون في تحقيق الأهداف، وهو ما يجعلها أولى بالاستثمار من غيرها من المؤسسات الواقعية المعرَّضة بقوة للفساد والحياد عن الأهداف المرجوة.
لقد درس بيل غيتس البيئة الاستثمارية جيدًا خلال السنوات الخمس الماضية. ففي افتتاح مؤتمر دافوس عام 2005، أطلق مع حكومة النرويج حملة لإنقاذ حياة ملايين من الأطفال عن طريق التطعيم بمبلغ مليار دولار. وحينها أعلنت مؤسسة بيل وميليندا جيتس أنها ستتبرع بمبلغ 750 مليون دولار للتحالف الدولي للأمصال والتطعيم على مدار عشرة أعوام بينما وعدت النرويج بتقديم 290 مليون دولار على مدار الأعوام الخمسة المقبلة. وفي عام 2006، وللمرة الأولى في التاريخ تَخَطّى عدد الأطفال الذين تَمّ تطعيمهم بالمصل الثلاثي حاجز الـ100 مليون، وهو ما يوفِّر لهم حاليًا وقاية فعالة ضد المرض أو الإعاقة أو الوفاة من الدفتيريا والتيتانوس والسعال الديكي. وتعتبر أيضًا قصة مرض الحصبة من النجاحات الهائلة التي تنسب للتطعيمات حيث انخفضت نسبة الوفيات بسبب هذا المرض بمقدار 68% ما بين عامي 2000 و2006، وهو ما يعادل انخفاضًا بأكثر من نصف مليون في عدد الوفيات السنوية. وهذا ما ينطبق أيضًا على قصة مرض شلل الأطفال، الذي نجحت التطعيمات الطبية في خفض معدلات الإصابة به بمقدار 99% منذ إطلاق المبادرة الدولية للقضاء على شلل الأطفال، حيث انخفض عدد الحالات من 350 ألف حالة عام 1988، إلى مجرد 1300 حالة في العام الماضي.
وحينما رأت مؤسسة "بيل وميليندا جيتس" هذه المؤشرات المشجعة للاستثمار الحقوقي الأخلاقي، ووجدت أن هناك حوالي 1.3 مليون رضيع وطفل صغير ما زالوا يلقون حتفهم سنويًا جراء أمراض بكتيرية وفيروسية كان من الممكن تجنبها لو كانت التطعيمات متوافِرة، قررت المؤسسة الرائدة أن تتخذ قرارًا تاريخيًا بمضاعفة المبلغ المخصص من 750 مليون دولار إلى 10 مليارات دولار خلال عشر سنوات، وذكرت المؤسسة أنّها ستكشف عن خطة ستقوم بتطعيم 8 ملايين طفل سنويًا، ذكر رئيس مؤسسة "GAVI " أنّها ستكون كفيلة بجعل العقد القادم عقد التطعيمات بحق، وأنها من المحتمل جدًّا أنها ستغطي كل النقص. وهذا يعنِي شيئًا مهمًا، وهو أن هذه المؤسسة استطاعت أن تحقق رؤيتها على أرض الواقع، وأن تأخذ حقًّا من الحقوق الضائعة لتقوم بتغطيته كاملًا وتحقق المساواة المطلوبة بين النفوس بلا تمييز فيما يخص هذا الحق.
لقد كان بيل جيتس علامة فارقة في تاريخ البرمجيات، وها هو اليوم يعلن نفسه كعلامة فارقة في تاريخ العمل المؤسسي غير الربحي. وقد يقول قائل: إن بيل جيتس عندما قرر تغيير العالم، فإنه يملك القدرة المالية الكبيرة التي تؤهله للتفكير بتغيير العالم، وهي قدرة لا تتوافر عند غيره أصلًا. ولهؤلاء سيكون موضوعي القادم إن شاء الله، مع فتاة سعودية مسلمة، لا تملك شيئًا مما يملكه جيتس إلا الإرادة والحلم. وإلى ذلك الحين، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه..
ساحة النقاش