تعتمد مصر اعتمادًا مطلقًا على مياه نهر النيل، كما تعتمد المياه الجوفية في مصر في معظمها على مياه النهر، ولا شك أن أزمة مصر مع دول المنبع يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات تؤثر تأثيرًا فادحًا على حياة المصريين؛ ولذلك فإن هذه الأزمة لا بدَّ أن تلفت مصر إلى عدد من الحقائق التي تولَّدت وتراكمت تحت الوعي المصري، أول هذه الحقائق أن قدرة مصر على التأثير في القارة الإفريقية عمومًا وفي حوض النيل خصوصًا قد تراجعت بقدر ما تجرأت الدول الأخرى على اتخاذ موقف منفرد أيًّا كانت دلالته؛ ولكنه يعبِّر عن تحدٍّ للموقف المصري.
ثاني هذه الحقائق أن المفاوض المصري لا يزال يتحدث بنفس اللهجة التي كانت مصر في عصورها السابقة تؤهِّله للحديث بها، ولم يدرك المفاوض المصري هذه الفجوة الكبيرة بين لغة الخطاب وبين المواءمات السياسية والظهير السياسي للمفاوض.
صحيحٌ أن لغته وخطابه سليم، ولكن هذا الخطاب يتمُّ إرساله في فضاء مختلف، ولا يمكن الاعتماد طويلًا على انكشاف الخطاب، بعد تراجع طبقات الحماية السياسية التي تغلِّفه.
الحقيقة الثالثة هي أن مصر في هذه الأزمة لم تقرأ الخريطة السياسية الجديدة لإفريقيا قراءةً صحيحة، وظنَّت أنها أحد اللاعبين الأساسيين في الساحة الإفريقية، وهو أمل يتجاوز الحقيقة بكثير.
الحقيقة الرابعة، هي أن النيل لم يعدْ جزءًا من مدركات الشعب المصري؛ ولكن الأزمة أيقظت الشعب على حقائق، في مقدمتها أن الإدارة الحكومية للأزمة لم تعدْ سببًا للطمأنينة، فأضيفت أزمة النيل عندهم إلى مساحات أخرى تخلَّت فيها الدولة عن دورها.
أما الحقيقةُ الخامسة فهي أن تهديد مصر بحرمانها من مياه النيل ولو على المدى البعيد ربما يكون عقوبةً من السماء لحالة الأزمة التي يواجهها النيل في مصر، بعد أن دمره التلوثُ الذي يؤدي إلى رفع تكلفة التنقية، كما قامت جيوش من ورد النيل بغزو مجاريه الرئيسية، فضلًا عن الفضلات والمخلفات التي تقذفها يوميًّا آلاف المصانع ومجاري الصرف الصحي والبواخر السياحية؛ لعل في هذه الأزمة ما يدفع إلى حملة شعبية لردّ الاعتبار للنيل الذي تغنى به الشعراء ويحبه الفنانون.
الحقيقة السادسة، أن هذه الأزمة حصاد علاقات مصر بكل من العدو الصهيوني والولايات المتحدة، وإذا كانت الدولتان تجتهدان في تفاقم هذه الأزمة، فلا أظن أن الحكومة المصرية لديها خيار آخر سوى مراجعة الموقف المصري والسياسة المصرية من واشنطن وتل أبيب.
عند هذه النقطة لا بدَّ من البحث في خيارات مصر في مواجهة هذه الأزمة، فهناك فرق بين إدارة الأزمة بغية الوصول إلى تسوية لها وبين القفز فوق هذه الأزمة بالخطاب التبسيطي.
من مجمل الحقائق السابقة يمكن أن نبني رؤية مصرية شاملة لتأمين حصة مصر في نهر النيل من محاور أربعة، ولكن كل هذه المحاور تعتمد على بداية شجاعة؛ وهي مراجعة موقف مصر من الولايات المتحدة وتل أبيب على أساس المساهمة من الدولتين في تأزيم الموقف، ومع الأخذ في الاعتبار أن موقف مصر سوف يزداد سوءًا إذا بدأ تفكيك السودان، وهو محتمل في يناير 2011م؛ ولذلك فإن الإرادة السياسية لمصر هي نقطة البداية في إعادة الصحوة إلى العقل المصري الذي ظلَّ مغيبًا طوال عقود تكرست فيها هذه الوقائع، وبدأ يفيق فجأةً بسبب هول الكارثة، فإذا كانت مصر لا تدرك أن دورها الإقليمي في العالم العربي وإفريقيا تراجع، وأن سبب هذا التراجع هو غياب الرؤية والإرادة؛ فإن الحديث عن خيارات سوف يبدو في فراغ؛ لأن الذي يملك الاختيار بين البدائل هو الذي يتمتع بالعقلية الحادة والإدراك الحقيقي للأزمة وأبعادها وأخطارها والعزيمة الصادقة على مواجهتها.
ودون الدخول في الكثير من التفاصيل فإن مصر في حاجة إلى تطوير موقفها القانوني وخطابها الدبلوماسي في المسألة المائية، ودراسة آثار الأزمة في السودان على تداعيات الأزمة مع دول المنبع، وإعادة النظر في الدبلوماسية المصرية في إفريقيا على أسس جديدة لمعالجة مظاهر الخَلَل في هذه الدبلوماسية التي لا يتسع المقام لتفصيلها، فضلًا عن التواصل مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية حتى تكون قيدًا على حرية الحركة من جانب دول المنبع.
النيل ومصر توأم لا ينفصلان، وحق مصر الطبيعي والقانوني في النيل لا جدال فيه، ومصر تتعرض لمؤامرة كبرى جزاء ما فرطت فيه في العقود السابقة، ولكن غريزة الحياة أقوى من عوامل الفناء، ولذلك فلا مفرَّ من أن تهبَّ النخب في المجتمع المصري لتولي هذا الأمر الحيوي، لعل ذلك يبعث الروح في جثة المؤسسات الرسمية.
ساحة النقاش