البحث النوعي qualitative research منهجية في البحث في العلوم الاجتماعية تركز على وصف الظواهر والفهم الأعمق لها، ويختلف عن البحث الكمي الذي يركز عادة على التجريب وعلى الكشف عن السبب أو النتيجة بالاعتماد على المعطيات العددية. فالسؤال المطروح في البحث النوعي سؤال مفتوح النهاية ويهتم بالعملية والمعنى أكثر من اهتمامه بالسبب والنتيجة[1].
اتخذ البحث النوعي عدة أسماء، منها البحث الطبيعي naturalistic ، لأنه يهتم بدراسة الظواهر في سياقها الطبيعي، وقد يسمى البحث التفسيري، لأنه لا يكتفي بالوصف فقط بل يتعدى ذلك للتحليل والتفسير، وقد يسمى، خاصة في مجال دراسات علم الإنسان، العمل الميداني fieldwork، ويسمى أحيانا في هذا المجال أيضا الإثنوجرافي. وهناك فرق بينه وبين (البحث الوصفي) الذي يأتي ضمن أنواع البحث الكمي، أن البحث الوصفي يعتمد بدرجة أساس على الأرقام والاستبانات[2].
هناك أنواع متعددة من البحث تدخل تحت مسمى البحث النوعي، وهذا ناتج عن تنوع أهداف البحث النوعي، فتارة يكون هدف البحث النوعي تأسيس نظرية grounded theory، وتارة يكون الهدف بناء المفاهيم أو التعرف عليها، وربما كان الهدف الوصف. إلا أنه رغم هذا التباين في الأهداف فإن كل هذه الأنواع تتفق على أن المقصد هو "الفهم" الأعمق لسلوك الإنسان وخبراته، ووصف عمليات بناء المعاني التي يستخدمها الناس وما هي تلك المعاني. فعلى النقيض مما هو موجود في البحث الكمي، فالبحث النوعي لا يسعى لجمع "حقائق" عن سلوك الإنسان يتحقق منها على ضوء نظرية معدة، تمكن العلماء من التنبؤ بسلوك الإنسان، من خلال التعميم، بل في البحث النوعي ينظر إلى سلوك الإنسان على أنه من التعقيد بحيث يصعب فهمه بهذه الطريقة. فالنظر للبحث من خلال منظور السبب والنتيجة أو التنبؤ يؤثر سلبا في قدرة الباحث النظر بشكل أعمق للمعاني التي يتضمنها سلوك الإنسان.
وقد تنامى قبول هذا التوجه في البحث، خاصة في المجال التربوي، نتيجة لتضاؤل الرضا عن التوجه التقليدي الكمي في دراسة المشكلات التربوية والاجتماعية، خاصة ما لا يتناسب منها مع التحليل العددي. أضف إلى ذلك القناعة بأن السلوك الإنساني يتأثر بشكل كبير بالبيئة التي يوجد فيها، ولذا فمما يساعد على فهم السلوك فهم البيئة التي يقع فيها. فالبحث النوعي لا يكتفي بوصف الأشياء كما هي بل يسعى للحصول على فهم أعمق للصورة الكبرى التي يكون فيها ذلك الشيء، ويبحث عن معرفة كيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وكيف يشعر الناس المحيطين بها، وما آراؤهم حولها وما المعاني التي يحملونها عنها[3].
استراتيجيات البحث النوعي
1. دراسة الحالة
دراسة استراتيجية من استراتيجيات البحث النوعي، وهي عبارة عن فحص دقيق وعميق لوضع معين أو حالة فردية، أو حادثة معينة، أو مجموعة من الوثائق المحفوظة. فالفكرة الأساسية في دراسة الحالة هي أن تتم دراسة حالة واحدة (وربما عدد من الحالات) بشكل مفصل ودقيق وباستخدام كافة الوسائل المناسبة. وقد يكون هناك تنوع في أهداف أو أسئلة دراسة الحالة إلا أن الهدف العام هو الوصول إلى أكمل فهم ممكن لتلك الحالة. فأسلوب دراسة الحالة يقصد منه الوصول إلى فهم عميق لحالة معينة، قد تكون لفرد أو أفراد أو فصل معين في مدرسة، أو مدرسة، أو نحو ذلك، ويكون دراسة الحالة في وضعها وسياقها الطبيعيين، دون الانشغال بتعميم النتائج على الحالات الأخرى.
بخلاف الوضع في البحث التجريبي الذي يتحكم الباحث فيه بمتغيرات الدراسة ليستكشف مدى تأثير السبب (أو العامل المؤثر)، وبخلاف البحث المسحي الذي تطرح فيه مجموعة من الأسئلة على عينة ممثلة لمجتمع الدراسة. بخلاف هذين الحالين فإن أسلوب دراسة الحالة يهتم بملاحظة خصائص وحدة مفردة. والهدف من هذه الملاحظة الاستكشاف بعمق أكثر والتحليل بشكل أدق وأكثر تركيزا للظواهر التي تكون دورة الحياة لهذه الوحدة. و "الحالة" الجيدة هي ما كانت واضحة المعالم، بحيث تكون حالة محددة يمكن توصيفها لتتميز عما سواها، وتكون دراسة الحالة ذات طابع شمولي، بحيث لا تكون جانبا واحدا من حالة معينة، فترابط الحالة الداخلي أمر مهم لتكون مؤهلة للدراسة. ويفضل أن يكون هناك تنوع في مصادر البيانات والمعلومات الخاصة بالحالة المدروسة. ويمكن استخدام جميع المعلومات الممكنة كمية كانت أو نوعية، لكن أسلوب الملاحظة هو العنصر الرئيس في دراسة الحالة.
2. الاثنوجرافي
اشتهر هذا النوع من البحث النوعي لدى علماء الاجتماع والدراسات الانثروبولوجية. وبعض المراجع تجعل هذا الاسم مرادفا للبحث النوعي. فالاثنوجرافي تعني الكتابة عن البيئة الثقافة لشعب ما أو مجموعة تكون وحدة ثقافية. فهو نوع من البحث يهتم بالوصف التفصيلي المتعمق لبيئة ثقافية ما. وقد تكون هذه الثقافة ثقافة مدينة أو مجتمع أو مدرسة أو صف دراسي أو نحو ذلك.
3. النظرية المؤسسة Grounded theory
النظرية المؤسسة تعني بناء نظرية من خلال تحليل البيانات، ومن خلال الترقي بالبناء على الأنساق والأنماط التي يكشف عنها التحليل. فمن خلال التصنيف الأولي للبيانات والمؤلفة بينها تتشكل الأنساق وتتضح بشكل أكثر تجريدا، ومع تعدد تلك الأنساق ووضوحها يمكن أن تكون نظرية تمتد جذورها للبيانات الأولية. وهذا ما يسمى بالنظرية المؤسسة، بمعنى أن الباحث يسلك مسلكا استقرائيا بحتا inductive method بحيث ينتقل من البيانات إلى النظرية وليس من النظرية إلى تحليل البيانات.
في البحث النوعي لا يسعى الباحث لأن تكون العينة ممثلة إحصائيا، كما في البحث الكمي. بل العينة يقررها الباحث بناء على الهدف من بحثه والسياق الذي يتم فيه البحث، بما يضمن توفر معلومات كافية للوصول لفهم أعمق لمجتمع الدراسة[4]. فالقصد ليس الخروج بنتائج يراد تعميمها، بل التعمق في فهم الحالة أو الظاهرة المدروسة.
جمع المعلومات
طرق جمع المعلومات
في البحث النوعي هناك ثلاث طرق أساسية لجمع المعلومات: المقابلة، والملاحظة، ودراسة الوثائق.
أولا: المقابلة
تعتبر المقابلة من الطرق الرئيسية لجمع المعلومات في البحث النوعي. فعن طريق المقابلة يستطيع الباحث أن يتعرف على أفكار ومشاعر ووجهات نظر الآخرين. كما تمكن هذه الطريقة الباحث من إعادة بناء الأحداث الاجتماعية التي لم تلاحظ مباشرة.
أنواع المقابلة
1. المقابلة المنظمة: وفيها يتم سؤال المشارك سلسلة من الأسئلة المعدة سلفا، والتي سبق وحددت أنماط إجابتها، فهناك قدر ضئيل من التنوع في الأجوبة. وقد تستخدم هنا الأسئلة المفتوحة. وفي المقابلات المنظمة يتلقى جميع المشاركين الأسئلة نفسها وبنفس الترتيب والطريقة. ويكون دور الباحث محايدا. وطبيعة هذا النوع من المقابلات يركز على الأجوبة العقلانية وليس على الأجوبة العاطفية.
2. المقابلة غير المنظمة: وهي مقابلة غير مقننة، ذات أسئلة مفتوحة وعميقة. في المقابلة غير المنظمة، يكون دور الباحث أقرب لمدير الحوار أكثر منه مقابلا. وهذا النوع يمكن الباحث من فهم تفكير المشارك وسلوكه دون إسقاط فرضيات الباحث السابقة أو تصنيفاته عليه، والتي قد تحد من أقوال المشاركين[5].
3. المقابلة الجماعية: هي المقابلة التي يعمل فيها الباحث مع مجموعة من الناس في وقت واحد. في هذا النوع يكون دور الباحث إدارة الحوار وتسهيل جريانه وانسيابيته، ومهمته تسجيل التفاعل الذي يدور بين المشاركين، وهذا يتطلب مهارات في إدارة الحوار وتوجيهه الوجهة المرادة. وقد تكون المقابلة الجماعية منظمة، أو غير منظمة. والمقابلة الجماعية قد تظهر جوانب من الحالة المدروسة ربما لا تظهر في أنواع المقابلات الأخرى، وذلك نتيجة لما يعطيه التفاعل بين آراء المشاركين ومشاعرهم وخبراتهم من إثراء للمقابلة وقدح لأفكار الآخرين من المشاركين.
التسجيل الصوتي من الأشياء المهمة في المقابلة، فلا يكفي أن يسجل الباحث ملاحظاته أثناء المقابلة (وإن كان هذا قد يكون خيارا مناسبا، أحيانا). فالتسجيل يساعد الباحث على إعادة النظر في المعلومات التي قيلت وتأملها مرة أخرى. وقد يكون من المفيد كتابة الملاحظات مع التسجيل الصوتي لتقييد ما قد يلفت انتباه الباحث أثناء المقابلة.
بعد انتهاء من تسجيل المقابلة، من الضروري أن يفرغ نصها كتابة، ليسهل تحليله والتأمل فيه. وفي كثير من الأحيان يكون مفيدا أن يعاد نص المقابلة لمن أجريت معه المقابلة ليعيد قراءة النص ويضيف ما يراه مناسبا أو يوضح ما يحتاج إلى توضيح.
ثانيا: الملاحظة
الطريقة الأساسية الثانية لجمع المعلومات في البحث النوعي هي الملاحظة. للملاحظة تاريخ عريق في العلوم الاجتماعية. ولها أهمية كبيرة في البحث التربوي بشكل خاص. فكثير من المواقف التربوية تحتاج إلى أن يقوم الباحث بملاحظتها في وضعها الطبيعي وتسجيل ما يرى ويسمع مما يجري فيها في حياتها اليومية الطبيعية. ففي هذه الطريقة لا يتدخل الباحث في شئون الفئة المراد بحثها، كما في بعض طرق البحث، بل يلاحظ ما يدور فعلا في الوضع الطبيعي.
والملاحظة قد تكون كمية (منظمة) وقد تكون نوعية غير منظمة. ففي الملاحظة الكمية يقوم الباحث بالملاحظة ويسعى لجمع معلومات رقمية (كمية) غالبا عن طريق أداة معدة سلفا. فمثلا يقوم بتسجيل عدد الأسئلة التي يلقيها المعلم، وعدد الطلاب المشاركين في الفصل، أو حساب الوقت الذي يستغرقه المعلم في الحديث، ونحو ذلك. فالملاحظ/ الباحث يهتم غالبا بتسجيل أرقام، وقد سبق وأعد نماذج لذلك.
أما الملاحظة النوعية فهي أقل تنظيما من ذلك، فالملاحظ/الباحث لا يستخدم تصنيفات وأنماط محددة سلفا، بل يسجل ملاحظاته بشكل طبيعي ومسترسل ومفتوح، فيقوم بتسجيل الواقع كما يحدث. والفكرة الأساسية هنا هي أن التصنيف والتوصيف الذي تتعرض له المعلومات الناتجة عن الملاحظة ستظهر بعد جمع المعلومات وتحليلها، بدلا من أن تفرض تعسفا على المعلومات أثناء عملية الملاحظة.
وعندما تكون الملاحظة غير منظمة فإن عملية الملاحظة تنشأ من خلال سلسلة من العمليات المختلفة. فتبدأ باختيار الوضع المراد ملاحظته وتحديد طريقة الوصول إليه ثم بدء عملية الملاحظة والتسجيل. ومع تقدم الدراسة أوالبحث تتغير طبيعة الملاحظة بحيث تزداد تركيزا مما يؤدي إلى مزيد من الدقة والوضوح في أسئلة البحث، وهذا بدوره يؤدي أيضا إلى دقة أكثر في اختيار مواضع الملاحظة. وتستمر الملاحظة وجمع المعلومات حتى يحصل للباحث ما يسمى بالإغراق (التشبع) النظري، وهي الحالة التي يحس فيها الباحث أن الملاحظة لم تعد تأتي بجديد، بل تكرار لما سبق.
ثالثا: تحليل الوثائق
الطريقة الأساسية الثالثة لجمع المعلومات في البحث النوعي تحليل الوثائق. تعتبر الوثائق التاريخية أو الحديثة مصدرا مهما للبحث التربوي النوعي. فمن خصائص المجتمع الحديث التوثيق. فالتقارير التي يكتبها المشرفون التربويون كل عام، والتوجيهات الي يدونونها في سجلات المدارس عند زيارتها، وما يكتبه المعلمون والخبراء من تقارير وبحوث وملاحظات، وما يصدر من تقارير وتوجيهات رسمية. بل ما قد يكتبه الطلاب في دروس الإنشاء أو في رسائلهم للمعلمين. كل هذه تعتبر وثائق مهمة للباحث ويستطيع من خلال دراستها وتحليلها التوصل إلى نتائج مهمة ومفيدة.
وقد يدخل في تحليل الوثائق ـ خاصة في بعض أنواع البحث النوعي، مثل البحث الإثنوجرافي ـ دراسة الصور والأعمال الحرفية اليدوية وكل ما يتعلق بالثقافة وأنماط الحياة الاجتماعية.
تحليل البيانات
مرحلة تحليل البيانات هي المرحلة الحاسمة في البحث النوعي، وهي التي تعطي لهذا النوع ميزته، وتعطيه طعما خاصا وممتعا وتجعله مجالا للإبداع في التحليل والتركيب. وهي المرحلة التي يتميز فيها الباحث الخبير عن غيره. كما أنها المرحلة التي يختلف فيها البحث النوعي عن البحث الكمي بشكل واضح، ففي البحث الكمي يعتمد التحليل بالأساس على العمليات الإحصائية، بسيطة كانت مثل المتوسطات والتكرارت، أو المعقدة مثل تحليل التباين، بأنواعه، والقياسات المتكررة ونحوها. بينما التحليل في البحث النوعي أكثر عمقا وأبعد في سبر أغوار الظاهرة المراد بحثها.
تنتهي مرحلة جمع البيانات عادة بكم كبير ومتنوع من البيانات، تشمل نصوص المقابلات، والملاحظات الميدانية والتعليقات المبدئية عليها، بالإضافة إلى وثائق متنوعة كثيرة تتعلق بموضوع البحث. ويبدو لأول وهلة أن تحليل المواد المجموعة وتفسيرها واستخراج معانيها أمرا شاقا. وكثيرا ما يجد الباحث المبتدئ نفسه في حالة ذهول ـ وربما إحباط ـ أمام هذا الكم الهائل من البيانات. لكنها بالنسبة للباحث الخبير والملم بموضوع بحثه تكون ثروة معلوماتية ومصدرا للإبداع والتعمق في التحليل.
تحليل البيانات هي العملية المنظمة للبحث في نصوص المقابلات والملاحظات الميدانية والمواد الأخرى التي جمعت من خلالها البيانات وتنظيمها لزيادة فهم الباحث لها وليتمكن من تقديم ما اكتشفه للآخرين. ويشتمل التحليل على العمل مع البيانات وترتيبها وتقسيمها إلى وحدات يمكن التعامل معها وتركيبها synthesize بحثا عن أنماط patterns وأنساق واكتشاف ما هو المهم وما يمكن أن يستفاد من تلك البيانات.
متى تبدأ عملية التحليل؟
يبدأ التحليل بشكل أو بآخر مع بداية جمع البيانات بحيث ينتهي تقريبا بعد نهاية جمع البيانات بقليل. وهذا غالبا ما يقوم به الباحثون الميدانيون الخبراء المتمرسون في البحث النوعي. فعملية جمع البيانات لا بد أن يتخللها نوع من التحليل، ولو بشكل مبدئي. أما مرحلة التحليل الخالص فتكون بعد الانتهاء من جمع البيانات. ولذا فمن المرجح أن يقوم الباحث خاصة المبتدئ بالتركيز على جمع البيانات واستكمالها، ثم يتفرغ لعملية التحليل بعد ذلك.
ليس من الجيد بدء عملية التحليل بعد الانتهاء من جمع البيانات مباشرة، بل ربما كان من المفيد ترك البيانات قليلا والانشغال بشيء آخر، وذلك لطرد الملل عن نفس الباحث من ناحية، ولكي يخرج الباحث من جو البحث قليلا لكي لا يقرأ ما في ذهنه أثناء قراءاته للبيانات. لكن ليس من الجيد أيضا أن تطول فترة الابتعاد، حتى لا ينسى الباحث السياقات التي جمعت فيها البيانات، والتي تفيد كثيرا في وضع الملاحظات على تلك البيانات.
مراحل تحليل المعلومات
تمر عملية تحليل المعلومات بعدة مراحل تبدأ من تنظيم البيانات لتسهيل الوصول لها إلى كتابة نتائج البحث (أو تقرير البحث). وتتنوع آراء الباحثين في تقسيم هذه المراحل، وتختلف أساليبهم في التحليل، وتختلف تسمياتهم لها بشكل قد يحدث إرباكا للقارئ. ومن خلال التتبع يمكن تحديد عدد من المراحل الأساسية التي يمر بها عادة أغلب الباحثين، وهي: تنظيم البيانات، وتصنيف البيانات، وتسجيل الملاحظات، وتحديد الأنساق والأنماط، صياغة النتائج، التحقق من النتائج، وأخيرا كتابة تقرير البحث.
مراحل تحليل البيانات
1. تنظيم البيانات
في هذه المرحلة يكون لدى الباحث كم كبير من البيانات، أمضى في جمعة مدة زمنية طويلة، ما بين مقابلة وملاحظة ووثائق وغير ذلك. كما أن لديه كما من الملحوظات الأولية التي سجلها أثناء جمع المعلومات. هذه المعلومات تحتاج إلى تنظيم وترتيب يساعد الرجوع لها بشكل سريع، وعلى التعامل معها بشكل ييسر تحليلها. وليس هناك نمط تنظيم واحد، بل يمكن للباحث أن ينظم البيانات بالشكل الذي يراه مناسبا، فيمكن تصنيفها حسب طريقة جمع المعلومات (الملاحظة أو المقابلة أو الوثائق)، ويمكن تصنيفها على حسب الأفراد الذين أجري عليهم البحث، أو غير ذلك بما يراه الباحث ملائما له وللأسلوب الذي سينتهجه في التحليل. ويمكن أن يتم هذا التنظيم بشكل يدوي، عن طريق وضعها في ملفات، أو يمكن الاستفادة من الحاسب في تصنيفها وفهرستها. وهناك برامج حاسوبية مخصصة للبحث النوعي تساعد على عمليات تنظيم البيانات وتحليلها، لكن حسب علمي لا يوجد شيء منها معرب.
2. تصنيف البيانات (coding)
في القراءة الأولية للبيانات يبدأ الباحث في تسجيل نظام تصنيف يسير عليه أثناء التحليل. وهذا النوع من التصنيف هو عبارة عن إعطاء عناوين للمعلومات التي تحتويها البيانات المجموعة. وهذه الجزئيات قد تكون كلمة أو عبارة أو جملة أو فقرة كاملة. فهذا التصنيف يكون عنوان أو اسم لتلك الجزئيات التي يرى الباحث أنها ذات معنى في بحثه. وبعض الباحثين يسمي هذا النوع من التصنيف (التصنيف المفتوح)، وقد يسمى (التصنيف الوصفي). وأسئلة البحث عامل أساس في تحديد وتوجيه نظام التصنيف.
3. تسجيل الملاحظات memoing))
بعد هذا التصنيف، يجب أن يعيد الباحث القراءة ويسجل ملاحظاته بعد أن استقر في ذهنه هيكل مبدئي لهذا النظام التصنيفي، أي بعد أن أعطى عنوانا مميزا لكثير من جزئيآت البيانات التي لديه، وبدأت تظهر لديه نقاط تمثل معالم وإن كانت باهته لمعان في بداية التكون، لم تكن ظاهرا عند الجمع الأولي للمعلومات. وتكون هذه الملاحظات على شكل أسئلة تؤدي إلى مزيد من البحث سواء في المعلومات المتوفرة أو للبحث عن معلومات إضافية، أو على شكل تسجيل علاقات بين الفئات التي وضعت، لكنها تحتاج إلى تحقق. وكلما تكررت القراءة زاد احتمال اكتشاف شيء جديد في البيانات، ولذا فإن الباحث يجب أن يكثر من قراءة بياناته ولا يكتفي بالقراءة أو القراءتين. وفي هذه المرحلة يستطيع الباحث أن يحدد ما إذا كانت العينة التي حددها مرضية وتفي بغرض البحث أم لا. فكلما كثرت الأسئلة دون إجابات أو تعذر بناء نظام تصنيفي جيد كان ذلك مؤشرا على نقص العينة والحاجة لمزيد من البيانات.
4. تحديد الأنساق والأنماط
تحديد الأنساق والأنماط نوع من التصنيف، لكنه يكون على مستوى أعلى من التجريد، ولذا قد يسميه بعض الباحثين التصنيف المحوري axial coding، لأنه يجعل الفئات تدور على محور واحد، وقد يسميه آخرون أسر التصنيف coding families، لأنه يجمع عدد من الفئات في أسرة واحدة. وقد يسمى التصنيف الاستنتاجي (في مقابل التصنيف الوصفي). فبعد أن يتم التصنيف المفتوح، ويتم وضع الملاحظات عليها تعاد قراءة البيانات المصنفة، لتصنف الفئات مرة أخرى على شكل أنماط وأنساق في مستوى تجريدي أعلى من التصنيف المفتوح الذي هو عبارة عن عناوين لجزيآت المعلومات. وهذا النوع من التصنيف يحتاج إلى تفكير عميق وقراءة متأنية، لإيجاد علاقات وعمل مقارنات بين مجموعات البيانات، بحيث يحدد الباحث ما هي الأنماط والأنساق التي تكونت من تصنيف البيانات، ويبدأ في ضم بعضها لبعض والمقارنة بين تلك الأنساق والأنماط.
5. صياغة النتائج
بعد تكون الأنماط والأنساق يحتاج الباحث إلى الترقي قليلا في التجريد، ليصوغ تلك الأنماط والأنساق على شكل نتائج للبحث، تدعمها الأنساق التي ظهرت وتشكلت من خلال التصنيف الأساسي المفتوح. وبعض الباحثين يسمي هذه المرحلة التصنيف الانتقائي، وذلك لأن الباحث يختار في عملية التصنيف هذه ما يتناسب مع أسئلة بحثه، وربما يدع ما سوى ذلك. والنتائج في هذه المرحلة تبقى على شكل افتراضات propositions.
6. التحقق من النتائج
في هذه المرحلة يعود الباحث لقراءة بياناته وربما عاد للدراسات السابقة وأدبيات موضوع الدراسة، للتحقق من النتائج التي توصل إليها، ومناقشتها، وتعديل ما يرى تعديله أو بيان رأيه فيها. وهو في هذه المرحلة يتأكد من أن ما توصل إليه بعد عمليات التصنيف المختلفة لا يوجد في البيانات الأساسية ما يناقضه، أو يجعله يعيد النظر في الافتراضات التي توصل إليها. وعلى عكس ما هو موجود في البحث الكمي، يجب أن يكون التركيز على الدراسات السابقة وأدبيات الموضوع في هذه المرحلة، وليس قبل البحث، حتى لا تؤثر على آراء الباحث، وأسلوبه في التحليل. والتحقق في هذه المرحلة ليس مثل التحقق في البحث الكمي، حيث يدخل الباحث بفرضيات يريد أن يختبرها، فالافتراضات في البحث النوعي إنما خرجت من عملية التحليل وليس قبله، وعملية التحقق منها إنما هي في الواقع جزء من عملية التحليل.
وعملية التحليل عملية متداخلة المراحل، وتستمر إلى آخر لحظة في كتابة تقرير البحث. ولذا يشير بعض الباحثين في البحث النوعي إلى أن البحث النوعي ليس له حد ينتهي عنده، خاصة عندما يكون موضوع البحث كبيرا ومعلوماته غزيرة والباحث خبيرا فيه. فلا بد من وضع حد يقرر الباحث أن ينتهي عنده البحث.
[1] Bogdan, R. and Biklen, S. (1998). Qualitative research for Education. Allyn and Bacon.
[2] . Gay, L.(1996). Educational Research. Merrill Prentice Hall. p. 208
[3] . [3] . Gay, L.(1996). Educational Research. Merrill Prentice Hall.
[4] . Hohnson, R. & Waterfield, J. (2004). Making words count: The value of qualitative research. Physiotherapy Research International. 9 (3), p. 121.
[5] . Punch, K. (2000). Introduction to social research. Quantitative and qualitative approaches. Sage: London.
ساحة النقاش