عناق الشيخ والمقدس
فى نهاية الستينيات نشب خلاف مفاجئ، لا أدري لماذا كنت أصنفه على أنه خلاف طريف، الخلاف كان بين اثنين من أصحاب البيوت فى شارعنا، وللخروج من هذا المأزق سوف أستخدم وصف الأشقاء، وأقول من أصحاب البنايات، اما " شارعنا " فهو يستحق هذا الوصف، حيث كان أطفالا فى مثل سني واكبر كمان يأتون اليه قاصدين اللعب بين نهريه نظرا لاتساعه، الخلاف كان بين الاثنين: رجل معمم وآخر قبطى غير معمم، على اسم الشارع ـ شارعنا ـ وعلى الرغم من طرافة المشاجرة ـ وأشهد بأنه كان خلافا متحضرا لم يستخدم فيه عنف لفظى ولا مادى ـ إلا أن الأمر كان يمثل بالفعل مشكلة لكثير من السكان، خاصة الذين تقتضى مصالحهم وجود عنوان دقيق، مثل أولئك الذين يودون التقديم لأولادهم فى المدارس، أو زملائنا الذين يودون ملأ استمارات الشهادات العامة، أو استخراج أوراق رسمية مثل البطاقة الشخصية ـ قبل حلول الرقم القومى ـ فالشارع له اسمين، واحد باسم الشيخ، والآخر باسم عمى القبطى، وأصبحت الناس فى حيرة .. وكل يختار ما يعجبه : شارع الشيخ.....أو شارع المقدس .....
معظمنا انحاز للمقدس، لأنه كان رجلا محبوبا، كما أن اسمه سهلا ..... بالنسبة لى كان هناك سببا آخر لتفضيل الاسم القبطى؛ هو أن ابن المقدس كان صديقا شخصيا مفضلا، على الرغم من أنه كان يصغرني بعامين أو تلاتة، وكان يتمتع بخلق عظيم، وازداد تعلقى به بعد وفاة والده المقدس الطيب، فساعدته فى ترتيب مقاعد المعزين، واستمر وقوفى الى جواره حتى المساء، عندما جاء القسيس ليعطى العظة من خلال مكبر الصوت، وكان دورى هو توزيع الماء المغمور بقطع الثلج على المعزين، ليطفئ نيران الصيف الملتهب ـ بالمناسبة كان الناس يقولون نفس الكلام المكرر فى سبعينيات القرن العشرين: ده حر محصلش، ده احنا قربنا من جو السودان الشقيق ( الآن تم استبدال هذه الجملة بعبارة: احنا قربنا من جو الخليج الشقيق )، أو أول مرة نشوف الجو ده..ده مفيش نفس..الرطوبة عالية قوى.. إيه الخنقة دى !
المهم أننى تعاطفا مع صديقى قررت أن أكون إيجابيا، وكتبت على جدران المنازل ـ شوية منها ـ شارع .... والد صديقى، مما حرك الشيخ وطلب فتوى جهات رسمية؛ فهو يؤكد على أنه صاحب حق و أنه أقدم من استوطن الشارع، ولكن جاء الرد الرسمى القانونى يحمل اسم ثالث ـ لا هذا ولا ذاك ـ وامتثلنا لكتابة الاسم الجديد رغم ما به من صعوبة..
وذات مساء خرج الشيخ الوقور مهرولا، بين جيئة وذهاب، ولما استطلعنا الأمر، عرفنا أنه يبحث عن قطة صغيرة، أنجبتها قطته الكبيرة.. كان الشيخ لا يتردد فى طرق الأبواب بحثا عن ذلك المخلوق المدلل دون جدوى.
بعد كر وفر، ووسط تعاطف منا ورغبة فى تذوق " الحلاوة " التى وعد الشيخ من يعثر على قطته باغداقه الكثير منها... فجأة جاء صديقى ابن المقدس يحمل القطة الصغيرة، وفى يده الأخرى قطارة يسقى القطة عن طريقها شرابا طهورا من اللبن الطاهر.
وفى مشهد يتحدى صناع السينما المسلوقة، فوجئنا بالشيخ يحتضن الصبى ابن المقدس... فاضت أعيننا من الدمع... هذا هو الدرس المصرى الذى يجب أن يستوعبه اللاعبون فى الماء العكر !
كل سنة ومصر بخير.. بمسلميها وأقباطها..
وعيد ميلاد مجيد وسعيد.
ساحة النقاش