بين الستينات والألفية الثالثة (2ـ3)
العيـــــــــد فى قريـــــــــة مصرية
فى القرية وقبل العيد بيومين تقريباً كان الزحام على أشده فى دكان خياط القرية- الترزى- وعلى الرغم من أن والدتى كانت اشترت من أجلنا ملابس العيد من (مصر)- أم الدنيا كما يسميها أبناء خالتى - إلا أن أبى كان من أنصار أن "تفصل" ملابس أخرى فى "البلد" حتى أبدو متساوياً مع الأهل والعشيرة – حساسية مفرطة- الدكان عريض جداً وله باب أضخم من باب أكبر مول فى مصر الآن، مصنوع من خشب النخيل، وفى جانبيه مصطبة لانتظار الزبائن.. ترزى قريتنا كان فى ورطة كبيرة، لأنه ترزى عربى، متخصص فى تفصيل الجلباب العربى- فهو زى كل أبناء القرى وقتها!.. حتى المدرسة التى زرتها حتى لا أتغيب كثيراً عن دروسى كانت المعلمة- المدرسة يعنى- ترتدى الجلباب الأسود ولكنها فجأة رفعت عنها جلبابها لتبدو فى صورة أكثر مدنية أمام تلميذ قادم من مصر وكانت المفاجأة أنه من أسفل الجلباب الأسود، كان هناك جلباب آخر ولكنه ملون "مشجر بلون البهجة"!
هل لهذا علاقة بالعيد..؟
طبعاً..
المصراوى
ورطة عمنا الترزى كان سببها أن ابن مصر الغلباوى يريد تفصيل بنطلون وقميص لزوم العيد، والترزى الشرقاوى الطيب يسأله: يعنى عايز بدلة؟
أقول بغضب: لأ.. بنطلون وقميص، وأظل أشرح وأشرح، لأكتشف فى النهاية أن هذا الزى "الأفرنجى" يقال له "بدلة" فى القرية..
فى أقل من ساعة كان قد تم تفصيل "البدلة" ومعاها بيجاما، فقد كنت- وما أزال- لا أميل إلى لبس الجلباب، مصراوى بقى!
البيجاما- كما عرفت بعد ذلك- لزوم ليلة العيد.. أى يوم الوقفة، والبدلة المكونة من بنطلون وقميص لأيام العيد .. ومن الممكن ان يكون هناك طقمان للتغيير.
شموع وأصابع صغيرة
بعد ذلك انطلقنا فى ليل معتم، لا ينبره إلا شموع صغيرة، رفيعة، قصيرة، بداخل علب من الصفيح، ذهبنا نقطع القرية ذهاباً وعودة نغنى مهلللين.
يا برتقان "برتقال" أحمر وكبير
بكرة الوقفة وبعده العيد
يا برتقان أحمر وصغير
بكرة الوقفة وبعده نغَّير (أى نرتدى الملابس الجديدة).
بركة الشيخ
ونظل هكذا حتى يخرج شيخ وقور من "داره" ليبدأ فى التسبيح وهويسير فى أزقة القرية، منبهاً الأهالى بقرب حلول صلاة الفجر، ويدعونا للصلاة فنسير من خلفه بما تبقى من شموع لننير له الطرقات، وكلنا أمل فى أن نحصل على "ثواب" من الخالق سبحانه لأننا نشارك فى فعل الخير، وربما حصلنا على بركة من هذا الشيخ الوقور، ونحن نعتقد فى أن كل من يرتدى زى الشيوخ يكون من الاولياء الصالحين.
يا ليلة العيد يا نور العين يا غالى
يا شاغل مهجتي وبالى
تعال اعطف على حالي
وهنى القلب ليلة العيد
حبيبي مركبه تجرى
وروحى بالنسيم تسرى
قولوا له يا جميل بدرى
حرام النوم في ليلة العيد
وسط الدفا
بعد صلاة الفجر حاضراً، نذهب إلى بيوتنا، لننام على "الفرن" – وهو مطفأ طبعاً – فى أحضان الملابس الجديدة، ومع استنشاق رحيق الحذاء الجديد!، وفى الصباح يأخذنى أولاد خالتى للمشاركة فى عمل جديد ومهم، وممتع، ومفيد- هكذا يصورون لى- حيث نذهب وراء جزار القرية وهو يسحب جاموستين – من بتوع جاموستى يا عمدة – ونطوف وراءهما فى حالة مشابهة للتجريس أيام المماليك.. ونهنف بأعلى صوتنا:
من ده يا بكرة.. بقرشين
عند المعلم (...) بقرشين
ساحة النقاش