ذاكرة النصر (2ـ 2)
الله أكبر .. الله أكبر ..
سمعتها واضحة، قوية، مزلزلة من داخل بيتنا ، ومن خارجه ..كأن الآذان قد توحدت .. فالشوق واحد.. والأمل واحد.. والهدف واحد.. والطريق واحد .. الى سيناء.. أرض الفيروز، وقبلة المشتاق.
الله أكبر .. الله أكبر ..
نداء يتكرر
الله أكبر .. الله أكبر ..
زغرودة انطلقت من أمى وهى تنظر إلى أبى تستأذنه السماح فى فعل لم يتكرر فى حياة أسرتى ، حتى فى نجاح الأبناء ، أو فى أى حادث سعيد ، فقد كانت أمى تترك مظاهر الإحتفال لمجاملات الجيران ومشاركاتهم .
الله أكبر ..الله أكبر ..
تعلو .. وتعلو .. ويتعلق قلبى بالنداء ، ولكنى أريد أن أفهم ..
انخرط أبى فى بكاء مكتوم .. ثم قام فصلى .
شاهدته ..
ولم أسمعه..
ربما كان ذلك هو أول شعور بالإرتباك يصيبنى .. فأنا مازلت لا أفهم ما يحدث .
وفى السياق اتذكر ان ابى لم يبك فى حياته ـ على الأقل أمامنا ـ سوى ثلاث مرات على وجه التحديد.. كانت هذه هى الأولى فى حياته وحياتى، أما الثانية فقد رأيته عليها وهو يحمل شقيقا لى يكبرنى بعد أن فارق الحياة بين يديه وأمام عينى، أما الثالثة فهى لحظة ان فارق ابى نفسه الحياة، على الرغم من أنه بدا لنا متبسما، كان يستشعر اللحظة بكامل قسوتها .. فقد نظر الى أشقائى وبكى فى رفق، وذهبت اليه بعد وفاته بدقائق ورأيت على وجهه ألم الفراق .. رحمك الله ي أبى.. أما المرة الرابعة التى لم أره عليها، فكانت بحسب روايته ـ وقد كان نادر الحكى ـ يوم هزيمة 1967 النكراء..
الآن ماذا يبكيك يا أبى .. وهى المرة الأولى التى أجدك فيها على هذا النحو من الضعف .. هل يوجد ما يسمى بضعف الشعور بالقوة؟
عبرنا .. انتصرنا .. رفعنا العلم والراية على أرض سيناء المغتصبة، التى كانت مدنسة.. انطلقت الزغاريد..واحد من جيراننا أعد شربات الورد اللذيذ فى اضخم اناء شاهدته قبل اليوم، وزوده بلوح من الثلج ناصع البياض والنقاء.. وتم توزيعه فى آنية من الألومنيوم الرقيق على الافطار.. مصر اصبحت جميلة.. وناسها تذوقوا طعم السعادة.. بعد سبات حزين.. الناس سعداء..ونسينا ابن عمى على الجبهة.. فقط قلنا لزوجته " مبروك " دون أن نسأل عن سلامته.. سلامة مصر أهم وأبقى..وهى فوق الجميع.
اتذكر الآن ان أغلب سكان البناية التى نسكنها تجمعوا فى شقة واحدة، وتناولنا الافطار ملتصقين، ملتحمين.. الناس تضحك ولا تكتفى بابتسامة.. الضحكة اجمل.. شهر رمضان اجمل..تذوقنا كلمة " العبور " التى ربما نكون قد نسيناها الآن.. كنا غير مدركين وقتها ان " العبور " شمل معنوياتنا وأخلاقنا وسلوكياتنا.. لدرجة وحدتنا.. الكل فى واحد حقا. سهرنا نحن الاطفال فى الليالى التالية حتى صلاة الفجر، نلعب ونمرح، ونستمع الى البيانات العسكرية من المقهى القريب على ناصية شارعنا.
قمنا بتصنيع مسدسات، وبندقيات من الخشب والبلاستيك، لنقلد ابطالنا وهم يحصدون المغتصب.. ويسلسلونهم كأسرى حرب.. كنا نحفظ كل اغنية وطنية عبر اذاعتها لأول مرة..
بسم الله.. الله اكبر باسم الله..اذن وكبر بسم الله بسم الله..وادان ع المدنة بسم الله بسم الله..اذن وكبر بسم الله بسم الله
وانا على الربابة بغنى..واغنى غنوة الحرية
عاش ..عاش اللى قال الكلمة بحكمة فى الوقت المناسب
عاش العرب اللى فى ليلة اصبحوا ملايين تحارب
عاش اللى قال يامصر مافيش محال
راحة فين ياعروسة يام توب اخضر
راح اجيب الورد واجيب سكر
راحة فين يا عروسة بالسكر
راح اجيب شربات شهد مكرر
ساحة النقاش