ذاكرة النصر (1ـ2)
كان ابى يخطو نحو الستين من عمره المديد.. كان شيخا وقورا ناضجا.
وكنت احبو نحو العاشرة من عمرى.. كنت مدركا.. منتبها لما يدور حولى.
كان ابى صائما كعادته التى بدأها مبكرا وهو فى التاسعة من عمره، حتى وفاته صائما، متوضئا، متأهبا لصلاة لم يحن وقتها بعد.
وكنت صائما " نص يوم " ينتهى عند آذان العصر، كما أقنعتنى بذلك والدتى مراعاة لجسدى النحيل.
كنت قد أمضيت ليلى فى منزل ابن عمى العريس، الذى كان مجندا فى القوات المسلحة، وسمحوا له باجازة زواج قصيرة انتهت يوم الخامس من اكتوبر.. امضيت ليلة التاسع من شهر رمضان المعظم مع عروس فى أسبوع زواجها الأول، لطمأنتها فى ظرف غياب زوجها الذى تم استدعاؤه – أستوعب الآن أن ذلك تم فى سرية – ولم يكن هناك أى شىء يشير أن تلك الليلة – ليلة التاسع من شهر رمضان – ستكون ليلة فارقة فى تاريخ مصر..فى طريق استعادة عزتها وكرامتها، التى اغتيلت فى معركة استدرجنا اليها، شابها كثير من الغموض وكثير من التراخى.
ليلة التاسع من أكتوبر كانت بمثابة، ليلة سيتبين بعدها الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى تاريخ مصر والمنطقة بأثرها.
و ستكون هى آخر ليلة حزينة فى تاريخ مصر السياسى بل و الاجتماعى .
أتصور أنها حملت بعض صفات ليلة القدر التى ترقبناها طويلاً ..وأنها بشرت بالليلة المباركة..هى بحق ليلة ـ صدق الله العظيم ـ أن وصفها رب العزة بأنها .. خير من ألف شهر.. تتنزل فيها الملائكة والروح من كل أمر... ستشهد نصرة مصر والعرب .. بعد مطلع الفجر.
على المستوى الشخصى ، كنت حزيناً لسفر ابن عمى – العريس- تاركاً عروسه بعد أقل من خمسة أيام من الزفاف ، وذهابه إلى مكان غير معلوم.. ولم نكن ندرى وقتها أننا سوف نحسده على مهمته المقدسة التى ترك بسببها فراش الزوجية ليسترد كامل تراب وطنه.
فقط كل ما أتذكره أننا ودعناه وهو يستقل قطاره .. إلى أين ؟.. الله أعلم !!
ذهبت مع عروس ابن عمى عند الظهيرة إلى منزلنا .. حيث والدى ووالدتى و أشقائى ..
كل شىء يسير على ما يرام ..
العمل على قدم وساق لتحضير وجبة الإفطار .. إفطار رمضان الكريم .. افطار العاشر من رمضان المقدس.. الكل – كل من فى البيت – يعمل .. الكل له دور .. الصحيح أن الكل يؤدى دوره بشكل روتينى ، ولكن نفحات الشهر الكريم تجعل لكل عمل معنى ، ولكل معنى ذكرى ، ولكل ذكرى متعة .. ولكل متعة ذكرى وطعم ومعنى.
حتى وإن كانت القلوب تفتقد البهجة .. ولكن أليست أيام وليالى رمضان فى حد ذاتها تشكل متعة للقلب ،وبشارة للنفس .. وسكينة للروح ؟
أعود من حيث بدأت..
إلى أبى..
الذى كان يقرأ القرآن .. وهى أكثر صورة شاهدت عليها أبى فى أعوامه الثمانين.. إما تلاوة القرآن الكريم أو الصلاة..
فجأة ..علا الضجيج.. اختلطت الأصوات..
وعلى الرغم من ان صبياً فى مثل عمرى يمكن أن يفزعه مثل هذا الأمر ، إلا أننى لم أشعر بالخوف ، ربما شعرت بالرهبة ، ولكن شيئاً ما جعل التفاؤل والبشرى يتسللان إلى مشاعرى .. شئ ما كأنى كنت أنتظره رغم حداثة سنى، فلم يكن هناك بيت فى مصر .. ولا شابا ولا طفل لم يكن يتحدث وقتها عن معركة الشرف المنتظرة، المؤجلة بدهاء القائد المصرى، شئ ما تم بثه عبر جهاز "الراديو" الخشبى الضخم الذى يتصدر قائمة (الأهم) فى حياة أسرة مصرية بسيطة ..
ساحة النقاش