بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل : 66]
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}[محمد : 15]
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون : 21]
وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
يقول تعالى: {وإن لكم} أيها الناس{في الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم {لعبرة} أي لاَية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه {نسقيكم مما في بطونه} أفردها ههنا عوداً على معنى النعم, أو الضمير عائد على الحيوان, فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان, وفي الاَية الأخرى مما في بطونها, ويجوز هذا وهذا, كما في قوله تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} وفي قوله تعالى: {وإني مرسلة إليهم بهديه فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان} أي المال.
وقوله: {من بين فرث ودم لبناً خالصاً} أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته, ما بين فرث ودم في باطن الحيوان, فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته, فيصرف منه دم إلى العروق, ولبن إلى الضرع, وبول إلى المثانة, وروث إلى المخرج, وكل منها لا يشوب الاَخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به. وقوله: {لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} أي لا يغص به أحد. تفسير بن كثير
القرطبي
الآية: 66 {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين}
قوله تعالى: "وإن لكم في الأنعام لعبرة" قد تقدم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز. "لعبرة" أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته. والعبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه "فاعتبروا" [الحشر: 2]. وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك وخلافك له في كل شيء. ومن أعظم العبر بريء يحمل مذنبا.
قوله تعالى: "نسقيكم" قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سقى يسقي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة. قيل: هما لغتان. وقال لبيد:
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شرابا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قال ابن عزيز، وقد تقدم. وقرأت فرقة "تسقيكم" بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام. وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل. والقراء على القراءتين المتقدمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حمير.
قوله تعالى: "مما في بطونه" اختلف الناس في الضمير من قوله: "مما في بطونه" على ماذا يعود. فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث. قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد. قال ابن العربي: وما أراه عول عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه. وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقال الزجاج، وقال الكسائي: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى: "إنها تذكرة، فمن شاء ذكره" [عبس: 11 - 12] وقال الشاعر: مثل الفراخ نتفت حواصله.
ومثله كثير. وقال الكسائي: "مما في بطونه" أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عول عليه أبو عبيدة. وقال الفراء: الأنعام والنعم واحد، والنعم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نعم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام. قال ابن العربي: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: "نسقيكم مما في بطونها" [المؤمنون: 21] وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاما حسنا. والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رمل يبرين وتيهاء فلسطين.
قوله تعالى: "من بين فرث ودم لبنا خالصا" نبه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصا بين الفرث والدم. والفرث: الزبل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج لم يسم فرثا. يقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. والمعنى: أن الطعام يكون فيه ما في الكرش ويكون منه الدم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدم في العروق. وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتميزه وتجريه في العروق، وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش؛ "حكمة بالغة فما تغن النذر" [القمر:5]. "خالصا" يريد من حمرة الدم وقذارة الفرث وقد جمعهما وعاء واحد. وقال ابن بحر: خالصا بياضه. قال النابغة:
بخالصة الأردان خضر المناكب أي بيض الأكمام. وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
قوله تعالى: "سائغا للشاربين" أي لذيذا هينا لا يغص به من شربه. يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق، وأساغه شاربه، وسغته أنا أسيغه وأسوغه، يتعدى، والأجود أسغته إساغة. يقال: أسغ لي غصتي أي أمهلني ولا تعجلني؛ وقال تعالى: "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" [إبراهيم: 17]. والسواغ - بكسر السين - ما أسغت به غصتك.
يقال: الماء سواغ الغصص؛ ومنه قول الكميت:
فكانت سواغا أن جئزت بغصة
وروي أن اللبن لم يَشرَق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها، ولا يقال: إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سرف ولا إكثار. وفي الصحيح عن أنس قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله: العسل والنبيذ واللبن والماء. وقد كره القراء أكل الفالوذج واللبن من الطعام، وأباحه عامة العلماء. وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار، فأتى بفالوذج فامتنع عن أكله، فقال له الحسن: كل فإن عليك في الماء البارد أكثر من هذا.
روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه. وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن). قال علماؤنا: فكيف لا يكون ذلك وهو أول ما يغتذي به الإنسان وتنمي به الجثث والأبدان، فهو قوت خلي عن المفاسد به قوام الأجسام، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة؛ فقال في الصحيح: (فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفطرة أما إنك لو اخترت الخمر غوت أمتك). ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخصب وظهور الخيرات والبركات؛ فهو مبارك كله.
ساحة النقاش