جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بقلم/سعد الله ونوس
كلفني المعهد الدولي للمسرح، التابع لليونسكو بكتابة «رسالة يوم المسرح العالمي لعام 1996م» وقد كتبت هذه الرسالة التالية، التي ترجمت الى لغات العديد
من بلدان العالم، وقرئت على مسارحها:
لو جرت العادة على ان يكون للاحتفال بيوم المسرح العالمي، عنوان وثيق الصلة بالحاجات التي يلبيها المسرح، ولو على المستوى الرمزي، لاخترت لاحتفالنا اليوم هذا العنوان «الجوع الى الحوار» حوار متعدد، مركب، وشامل. حوار بين الافراد، وحوار بين الجماعات. ومن البديهي ان هذا الحوار يقتضي تعميم الديمقراطية، واحترام التعددية، وكبح النزعة العدوانية عند الافراد والامم على السواء وعندما احس هذا الجوع، وادرك الحاحه وضرورته فاني اتخيل دائما، ان هذا الحوار يبدأ من المسرح، ثم يتموج متسعا ومتناميا، حتى يشمل العالم على اختلاف شعوبه، سيظل ذلك المكان النموذجي، الذي يتأمل فيه الانسان شرطه التاريخي والوجودي معا، وميزة المسرح التي تجعله مكانا لا يضاهى، هي ان المتفرج يكسر فيه محارته، كي يتأمل الشرط الانساني في سياق جماعي يوقظ انتماءه الى الجماعة، ويعلمه غنى الحوار وتعدد مستوياته فهناك حوار يتم داخل العرض المسرحي، وهناك حوار مضمر بين العرض والمتفرج. وهناك حوار ثالث بين المتفرجين انفسهم.. وفي مستوى ابعد، هناك حوار بين الاحتفال المسرحي «عرضا وجمهورا» وبين المدينة التي يتم فيها هذا الاحتفال. وفي كل مستوى من مستويات الحوار هذه، ننعتق من كآبة وحدتنا، ونزداد احساساً ووعيا بجماعيتنا. ومن هنا، فان المسرح ليس تجليا من تجليات المجتمع المدني فحسب بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره. ولكن عن اي مسرح اتكلم! هل احلم، ام هل استثير الحنين الى الفترات التي كان المسرح فيها بالفعل حدثا يفجر في المدينة الحوار والمتعة! لا يجوز ان نخادع انفسنا، فالمسرح يتقهقر وكيفما تطلعت، فاني ارى كيف تضيق المدن بمسارحها، وتجبرها على التقوقع في هوامش مهملة ومعتمة، بينما تتوالد وتتكاثر في فضاءات هذه المدن الاضواء، والشاشات الملونة، والتفاهات المعلبة. لا اعرف فترة عانى فيها المسرح مثل هذا العوز المادي والمعنوي. فالمخصصات التي كانت تغذيه تضمر سنة بعد سنة، والرعاية التي كان يحاط بها، تحولت الى اهمال شبيه بالازدراء، غالبا ما يتستر وراءخطاب تشجيعي ومنافق. وما دمنا لا نريد ان نخادع انفسنا، فعلينا الاعتراف، بأن المسرح في عالمنا الراهن بعيد عن ان يكون ذلك الاحتفال المدني، الذي يهبنا فسحة للتأمل، والحوار، ووعي انتمائنا الانساني العميق. وأزمة المسرح، رغم خصوصيتها، هي جزء من ازمة تشمل الثقافة بعامة. ولا اظن اننا نحتاج الى البرهنة على أزمة الثقافة وما تعانيه هي الاخري من حصار وتهميش شبه منهجيين. وانها لمفارقة غريبة ان يتم ذلك كله، في الوقت الذي توفرت فيه ثروات حولت العالم الى قرية واحدة، وجعلت العولمة واقعا يتبلور، ويتأكد يوما بعد يوم. ومع هذه التحولات، وتراكم تلك الثروات، كان يأمل المرء، ان تتحقق تلك اليوتوبيا، التي طالما حلم بها الانسان. يوتوبيا ان نحيا في عالم واحد متضافر. تتقاسم شعوبه خيرات الارض دون غبن، وتزدهر فيه انسانية الانسان دون حيف او عدوان. ولكن.. يا للخيبة فان العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين، تكاد تكون النقيض الجذري لتلك اليوتوبيا، التي بشر بها الفلاسفة، وغذت رؤى الانسان عبر القرون. فهي تزيد الغبن في الثروات وتعمق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة والجائعة. كما انها تدمر دون رحمة، كل اشكال التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها الى افراد تضنيهم الوحدة والكآبة. ولأنه لا يوجد اي تصور عن المستقبل، ولان البشر وربما لاول مرة في العالم، لم يعودوا يجرؤون على الحلم فان الشرط الانساني في نهايات هذا القرن يبدو قاتما ومحبطا. وقد نفهم بشكل افضل مغزى تهميش الثقافة، حيث ندرك انه في الوقت الذي غدت فيه شروط الثورة معقدة وصعبة، فان الثقافة هي التي تشكل اليوم الجبهة الرئيسية لمواجهة هذه العولمة الانانية، والخالية من اي بعد انساني فالثقافة هي التي يمكن ان تبلور المواقف النقدية، التي تعري ما يحدث وتكشف آلياته. وهي التي يمكن ان تعين الانسان على استعادة انسانيته، وان تقترح له الافكار والمثل، التي تجعله اكثر حرية ووعيا وجمالا.
وفي هذا الاطار، فان للمسرح دورا جوهريا في انجاز هذه المهام النقدية والابداعية، التي تتصدى لها الثقافة. فالمسرح هو الذي سيدربنا، عبر المشاركة والامثولة، على رأب الصدوع والتمزقات التي اصابت جسد الجماعة.
وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعا. وانا اومن ان بدءالحوار الجاد والشامل، هو خطوة البداية لمواجهة الوضع المحبط الذي يحاصر عالمنا في نهاية هذا القرن.
اننا محكومون بالامل. وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ منذ اربعة اعوام وانا اقاوم السرطان. وكانت الكتابة، وللمسرح بالذات، اهم وسائل مقاومتي خلال السنوات الاربع، كتبت وبصورة محمومة اعمالا مسرحية عديدة. ولكن ذات يوم، سئلت وبما يشبه اللوم: ولم هذا الاصرار على كتابة المسرحيات، في الوقت الذي ينحسر المسرح، ويكاد يختفي من حياتنا! باغتني السؤال، وباغتني اكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني، بل واغضبني. طبعا من الصعب ان اشرح للسائل عمق الصداقة المديدة، التي تربطني بالمسرح، وانا اوضح له، ان التخلي عن الكتابة للمسرح، وانا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي. وكان علي لو اردت الاجابة ان اضيف، «اني مصر على الكتابة للمسرح، لأني اريد ان ادافع عنه، واقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حيا». واخشى انني اكرر نفسي، لو استدركت هنا وقلت: «ان المسرح في الواقع هو اكثر مكان للفن، انه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحا وفقرا، لو اضاعها وافتقر اليها. ومهما بدا الحصار شديدا، والواقع محبطا، فاني متيقن ان تضافر الارادات الطيبة، وعلى مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته.
اننا محكومون بالامل. وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ.