منذ ما يقرب من العام بدأت عملية تحول تاريخية في بلدان الشرق الأوسط. واليوم، لا تزال هناك حالة من عدم اليقين، حيث مرت المنطقة بانتكاسات واضطرابات أشد مما كان متوقعاً. وما أقصده هنا على وجه الخصوص هو الخسائر المؤسفة في الأرواح في بلدان مثل ليبيا وسوريا واليمن.
ونحن الآن على أعتاب فترة هي الأصعب والأخطر والأكثر تأثراً بعدم اليقين، فنجد أنفسنا في منتصف مرحلة انتقال دقيقة بين “رفض الماضي” و”رسم ملامح المستقبل”. فترة يتعين فيها الاختيار بين بدائل صعبة، وأن تفسح فيها نشوة ما بعد الثورة بعض المجال لشواغل الواقع العملي، ولا سيما في ظل تزامن المرحلة الانتقالية مع حدوث اضطرابات كبيرة في الاقتصاد العالمي.
لكنني لا أزال أشعر بالأمل. فالوجهة النهائية واضحة: الربيع العربي لا يزال متجها نحو إطلاق إمكانات الشعب العربي.
ومن المهم أن يُدار هذا التحول الصعب بطريقة منظمة. وهنا أود الإشادة على وجه الخصوص بشعب تونس الذي يجتاز عملية تحول سلسة يشارك فيها الجميع. ومثلما كانت تونس هي التي أوقدت شعلة الربيع العربي، يمكنها الآن أن تضيء المسار القادم أمام البلدان الأخرى في المنطقة.
التحديات الاقتصادية
كلنا تعلم دروسا مهمة من الربيع العربي. فرغم أن الأرقام الاقتصادية الأساسية ـ للنمو على سبيل المثال ـ كانت تبدو جيدة في الغالب، فإن عددا كبيرا من المواطنين لم يكن يلمس أي تحسن.
وأتحدث عن الصندوق فأقول إننا نبهنا بالتأكيد إلى القنبلة الموقوتة التي تمثلها البطالة المرتفعة بين شباب المنطقة، ولكننا لم نتوقع كل العواقب التي ترتبت على عدم المساواة في توزيع الفرص. وبصراحة، نحن لم ننتبه بالقدر الكافي إلى الكيفية التي توزع بها ثمار النمو الاقتصادي.
أما الآن فقد بات أوضح بكثير أن المجتمعات كلما أصبحت أكثر مساواة، زاد فيها الاستقرار الاقتصادي وتعزز النمو المستمر.
ويجب أن يحدد كل بلد في المنطقة مساره الخاص نحو التغيير، إلا أن الأهداف الاقتصادية الكبرى التي يقوم عليها الربيع العربي لا تزال واضحة ـ تحقيق معدل نمو أعلى يوفر مزيدا من فرص العمل ويعود بالنفع على كل شرائح المجتمع بالتساوي.
ولتحقيق هذه الغاية، يجب التركيز على نقطة هامة وهى أن الاستقرار المالي والاقتصادي الكلي يظل بالتأكيد ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في بناء أي مجتمع جديد. بدون هذه الركيزة الأساسية، فان أى جهود لتحقيق تطلعات الشعوب لا يمكن لها أن تتحقق.
العمل في تناغم
كانت زيادة الدعم والأجور وغيرها من بنود الإنفاق هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومات حتى الآن في مواجهة الضغوط الاجتماعية، سعيا لتخفيف المشقة التي يستشعرها المواطن العادي. وهذه الإجراءات كانت مطلوبة لتحقيق التجانس الاجتماعي فى الأمد القصير، لكنها لا تأتي بغير تكلفة. فقد اتسع عجز المالية العامة مما أثار المخاوف بشأن إمكانية الاستمرار. ذلك أن اتساع العجز أدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة، مما يزيد من صعوبة حصول القطاع الخاص على الائتمان اللازم لبدء مشروعات جديدة أو التوسع في المشروعات القائمة وبدء تعيين الموظفين.
وعلى ذلك، ينبغي أن تبدأ الحكومات في جميع أنحاء المنطقة في التحرك نحو سياسات مالية أفضل وأكثر استدامة. وبصفة خاصة، فإن نظم الحماية الاجتماعية التي تستهدف الفئات المستحقة بشكل أفضل يمكن أن تساهم في توفير أموال للإنفاق على مجالات مثل البنية التحتية والتعليم والصحة بينما ترسى فى ذات الوقت قواعد النمو الشامل للجميع. هذا سيعد انفصالاً عما كان يحدث في الماضي عندما كان يتم استخدام الدعم الشامل لإرضاء المواطنين مع السماح لذوى الحظوة بالانتفاع من ممارسات غير عادلة.
ومن هنا فإن الاستقرار الاقتصادي الكلي والنمو الشامل للجميع يمكن ـ بل ويجب ـ أن يسيرا معا. والأكثر من ذلك أن الحكومة والقطاع الخاص يجب أن يعملا في تناغم. فيجب أن يكون للقطاع الخاص، بما في ذلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة، دور قيادي في دعم الاستثمار والإنتاجية والتنافسية ـ وتوفير فرص العمل.
البيئة المواتية
لكن تحقيق ذلك يتطلب من الحكومة توفير بيئة مواتية. فينبغي أن تنشئ مؤسسات حديثة وشفافة لتشجيع المساءلة والحوكمة السليمة وضمان قواعد عمل تقوم على الشفافية. كما يجب على الحكومة إرساء قواعد الاقتصاد الحديث التنافسي عن طريق تفكيك المصالح وشبكات الامتيازات التى تحول دون وصول المنطقة إلى إمكاناتها الاقتصادية الحقيقة. فلا يوجد ببساطة سبيل آخر لإيجاد 50-70 مليون وظيفة مطلوبة للملتحقين بقوة العمل ولتقليص البطالة خلال العقد القادم.
وبالطبع، فإن المنطقة هي القادرة على تحديد مصيرها، لكن على المجتمع الدولي مسؤولية تقديم المساعدة أيضا. فعليه أن يصغي إلى الأصوات المليئة بالأمل وأن يقدم لها الدعم المطلوب ـ بما في ذلك التمويل والمساعدة الفنية وسبل النفاذ إلى الأسواق.
وصندوق النقد الدولي على استعداد للمساعدة أيضاً. ونحن نعمل بالتعاون الوثيق مع بلداننا الأعضاء في المنطقة، ومستعدون للسير معها حتى نهاية هذا المسار. ونحن نقدم بالفعل أفضل مشورة ممكنة بشأن السياسات، وسوف نقدم الدعم المالي لمن يطلبه من بلدان المنطقة.
وعن طريق المساعدة الفنية، ندعم جهود البلدان في سعيها لبناء مؤسسات أفضل من أجل عالم أفضل. ومن أمثلة ذلك أننا نساعد مصر في تعزيز عدالة نظامها الضريبي، ونساعد ليبيا في وضع نظام حديث للمدفوعات الحكومية، ونساعد تونس في تحسين قطاعها المالي، ونساعد الأردن في إصلاح دعم الوقود.
ووسط الآفاق الاقتصادية الغائمة والثقة المتراجعة، يتألق الربيع العربي كسراج يشع الأمل، رمزاً للإنجازات التي يمكن أن نحققها. ويجب أن تعمل المنطقة، إلى جانب شركائها الدوليين، على ضمان ألا يخبو هذا الضياء المنير أبداً.