ديوان " دندنة " والبعد القومي اللغوي
حنان عبد القادر تقترب من جاهين وفؤاد حداد
د. مصطفى عطية جمعة :
لقد سعدت بتلك التجربة التي قدمتها الشاعرة حنان عبد القادر ، وأنا أتابع تجربتها بشكل دائم مما يتيح لي الوقوف على تطورها ، وأرى أن وظيفة الناقد هو ليس خطابا نخبويا لكنه خطاب يقدم ملحوظته حول المبدع مغلفة بالإيجابيات حتى يقربه للمتلقي دون نفور من النقد ، النقد المنحاز الذي يضع فاصلا بينه وبين المتلقي .
عنوان دال :
الديوان الذي بين أيدينا انطلق فيه من العنوان يعطيني حالة صوتية لكنها تتخذ دالة سيميائية تتجاوز ذلك الى المحاورة الذاتية وكأنها تترنم مع ذاتها فتطرح الحزن والحلم والغربة والمعاناة وعلاقتها بالمكان ، وهذا يسجل للشاعرة اختيارها للعنوان " دندنة " ، وللأسف لم نجد قصيدة تحمل هذا العنوان بقدر ما وجدنا قصيدة راهب العود والدندنة اصبحت الدندنة هنا هي إلحاح من الذات الشعرية لاتخاذ هذا العنوان لأن القصائد مجرد مناجاة ذاتية ومحاورة مع الذات ، تقول في القصيدة :
عواد مدندناتي
جراح مطبباتي
بيمر صوته في النسيم
يتشبع الوجدان شجن .
فأصبح هنا كلمة مدندناتي مرتبطة بدالة الموسيقا ، عواد مدندناتي / جراح مطبباتي ، فاتسع الأفق هنا ليصبح هذا ليس مجرد عواد وإنما جراح يمارس الطب ، بيمر صوته في النسيم يتشبع الوجدان شجن ، فنرى هنا أنه موسيقي بالفعل لكنه ينشر الشفاء من أدوية النفوس لأن صوته يمر في كل مكان .
وفي نص آخر تقول : دندن على عودك آهات ، واعزف لنا طعم الأنين ، أصبح هنا مسألة الدندنة تطورت دلالتها لتكتسب دلالة الشجن والفضفضة والبوح بالوجع ، المحصلة تعبر عن شجن شديد وحزن وفراق وحنين للوطن وإحساس بالغربة .
الحلم والغربة :
والحلم في هذا الديوان يلتصق به مفهوم الغربة فهي محور من المحاور الملتصقة بالحلم ، فالشاعرة لديها اغتراب وجودي تنظر له بمقياس رومانسي وتريد أن ترى الأمور دائما في حالة من المثالية الجميلة ، فبدأت تدندن معها ودخلت في حوار مع ذاتها الشاعرة ومع المتلقي ونرى مسألة الغربة واضحة في قصيدة " ليل الغربة " ، تقول حنان عبد القادر :
ياليل الغربة توهني أنا المحتاج لأحضانك
لا تسأل إيه مأوهني ولا وطنك وعنوانك
لقيت عنواني متخبي في طياتك وأحزانك
وتركيبة حروف إسمي وشاح من وَشْيِ ألوانك
تقترب من الشكل العمودي ، لكنها تعطينا مفتاحا آخر من مفاتيح قراءة الشاعرة ،فعندما تحلم بشيء وتحلم بالأمل إنما يعني ذلك أنها تعاني من الغربة النفسية تفتقد الحبيب والوطن بمعناه الرومانسي الجميل ، تفتقد نوعا من التوحد في لذة الإبداع ، وهناك أشياء كثيرة تفتقدها فأدى ذلك لوجود جناحين أستطيع بهما التحليق في هذا الديوان : الغربة ، والحلم ، وفي كلا الحالتين هو الحلم الإيجابي الذي لا يدخل في خصومة مع الواقع فترى الواقع بمنظور جميل شاعري .
هذا عكس الكتابات التي كانت موجودة في أواخر الثمانينات إلى منتصف التسعينات وما بعدها ، فترة كان الاغتراب نوع من العداء مع الواقع فالعداء هذا ظهر على مستويين مستوى شعر عامية كان يعتني بالرمزية وبالصورة والتناص مما أفقده جمهوره البسيط ، فأمعن شعراء العامية في الصورة والتراكيب والرموز والألوان فأدى ذلك لارتفاع القصيدة عن المتلقي وهذا يعد تأثرا بقصيدة التفعيلة التي كانت موجودة في فترة الثمانينات ، العداء الثاني أن الشاعر كان في حالة مع النخبوية مع المتلقي لأنه كان يعالج قضايا بعيدة عن الهم البسيط للشارع وإذا كانت ردة الفعل بعد ذلك من أواسط التسعينات لما يسمى شعر التفاصيل الصغيرة الذي كان انقلابا في التركيب الشعري وفي الرؤية .
مدلولات الطير والنداء :
الشاعرة أيضا نرى عندها قاموس الصورة يحتوي على جزئيتين : الطيرالمتمثل في العصفور ، والنداء ، فنراها تقول :
عصفور جسور نقر على الشبابيك
قلبه الصغير بجناحين طاير
بيقول : ياصبح إمتى أشتريك
لجل اما يهدى فؤادي اللي حاير
ياضي صوب ناحيتي سهمك
ياهلترى ح تسيبني خلف الستاير ؟
دلالة العصفور لما نراه مع دلالة الحلم والحرية لأن جزءا من حلمها أن تكون طيرا محلقا فتعطيني دلالة الحرية ، وطبعا هنا دلالة العصفور في الصورة بشكل عام صورة تقليدية أو مطروقة قبلا بشكل كبير ولكن هناك إلحاح من الذات الشاعرة في استخدام العصفور بشكل مستمر لأنه يعبر عن حلم ، عن أمل ورغبة في الانطلاق .
تقول في نص آخر :
قلبك بريء
زي العصافير اللي طايرة
فأصبحت المسألة هنا مسألة أن البراءة تساوت مع العصفور والطير فأصبحت من الحلم يكتسي أيضا بلون البراءة بجانب لون ودلالة الحرية .
مبدأ العدالة الاجتماعية :
تقول الشاعرة في قصيدة " تنهيدة القلب الحزين " :
ياقلبك المقسوم يمام
طاير يحوم فوق حيطان الشقيانين
طاير من العصفورالذي يحوم هنا فوق حيطان الشقيانين ، فأصبح الدلالة هنا أن العصفور هذا بدأ ينظر بمنظور العدالة الاجتماعية ويحاول أن يقترب من عالم البسطاء والمنطلقين في الحياة ، وهذا كله نوع من القراءة للحلم ولسبب الغربة الذي هو الإحساس بافتقاد الكثير من أوجه العدالة في المجتمع وفي كثير من مظاهر الأسى ، وفي تحليلنا للصورة على امتداد الديوان ، نراها تقول : واسمع غناوينا اللي طايرة بتناديك اصبح هنا أيضا الدلالة دلالة الطير والأغنية التي هي الشعر وهي دلالة صوتية وأيضا دلالة إبداعية لأنها تنظر بروح الشاعرة إلى المجتمع .
تقول حنان عبد القادر :
طفلة إنتي ؟
لأ ، يمامة فوق غمامة
طايرة بتخبي وجيعتي عن عيون الشامتنين .
وتقول أيضا :
رفرف وحوم في سمانا وأرضنا
صحي العزيمة والأمل فينا
صحصح ضمايرنا اللي تاهت في الزحام
نجد هنا إلحاحا من الذات الشاعرة على استخدام هذه الصورة ، صورة الطير والعصفور لأنها تمثل الجناح الأول في حمل رؤية الديوان ، جناح الحلم والرغبة في التحرر والانطلاق ولكن المسألة ليست مجرد صورة بقدر ماهي علامة من علامات النص الذي تحاول الشاعرة ان تؤكد على توجهها وأنها مجرد شاعرة تطير في المجتمع كالفراشة ، مثل العصفورة ، وهي تطير تحاول أن ترى الشقيانين وتحلم بالحرية والمثالية وتتماهى مع الوطن والغربة بكل الطرق .
وتقول أيضا :
حرك جناحك ينحني قلبي
طير نسورك يفتحوا سكة سلام
رفرف بقى
حمحم في قلب الحزن ما يبقى
وتقول في نص آخر :
وانا جوه حلمك بتولد عصفور
يكره هبوب الريح على ضلك
تقليدية الصورة :
مجرد صور تقليدية البناء ، وهذا يعود إلى اننا نرى التطور الفني للشاعرة في قصائد مكتوبة من سنة 1986 م ، إلى 1999م ، طبعا لابد من استبعاد قصائد المناسبات المباشرة من الديوان التي تقوم على الخطاب المباشر، هذا الخطاب المباشر نجده في ثنايا الديوان في قصائد أخرى لكنه كان موظفا ضمن سياق الصورة والرمز، أما في القصائد الأخيرة فهو واضح .
لكني لا أستطيع التعامل مع هذا الديوان إلا في ضوء تجربة الشاعرة ، فهي في الفترة التالية لتلك القصائد كتبت نصوصا أكثر نضجا وتطورا فنيا ولكن هذه مشكلة الشعراء يحبون وضع كل أبنائهم في الديوان ولا يمتلكون المقصلة أو السكين الذي يستطيعون أن يقطعوا بها القصائد التي لا تتفق مع روح الديوان ، وبالتالي تجد كبار الشعراء يلجأون لأصدقائهم كي يجتثوا من الديوان ما يختلف مع التجربة ولا يتفق مع سياقها الدلالي والمعنوي والجمالي .
نركز على صورة استوقفتني جدا ، عندما نقول شاعرة كتبت ديوانا فهذا يسوقنا لما يسمى بالأدب النسوي وهو االأدب الذي يتطرق لقضايا المرأة وكيف ترى المرأة المبدعة العالم من حولها، وبالتالي اتعامل بشكل لا إرادي مع الديوان متخيلا أني سأقرأ عالم من زاوية شاعرة ومن عين شاعرة وليس شاعرا ، نجد الديوان هنا فيه شيء أن هناك قصائد مكتوبة بلسان المذكر للمؤنث ، وقصائد بلسان المؤنث للمذكر وقصائد بين بين ، فمثلا التي تتحدث بلسان المذكر مثل قصيدة ليل الغربة ، وهنا نحن أمام نقطة مهمة جدا ، فلا ينبغي أن نفرض اتجاها معينا على الشاعرة فهي حرة في تجربتها الشعرية تكتب بأي ضمير تشاء ولكن هي مسألة التوحد نفسه مع التجربة ، وأطرح هنا سؤالا : لماذا كتبت هنا بلسان المذكر ؟ ، طبعا الأسئلة هنا أسئلة دلالية ، لما ننظر لجو النص نراه جوا عموديا فيه تقليدية بشكل كبير وخطاب مباشر حيث تقول :
ياليل الغربة توهني أنا المحتاج لأحضانك
لا تسأل إيه مأوهني ولا وطنك وعنوانك
لقيت عنواني متخبي في طياتك وأحزانك
وتركيبة حروف إسمي وشاح من وَشْيِ ألوانك
الخطاب هنا مباشر والمعنى واضح ليس فيه جديد حتى الصورة به تكاد تنزوي لصالح الصوت العالي في النص .
قصائد البين بين :
وفي قصيدة راهب العود ، رغم أنها من القصائد الجميلة نجد انها مكتوبة بضمائر نسميها البين بين ، تقول :
عواد مدندناتي
جراح مطبباتي
بيمر صوته في النسيم
يتشبع الوجدان شجن
ويمس بوحه للوتر بيت المشاعر
ينفتح باب الألم والفرح
وتدغدغ القلب العواطف مجملة
ياهلترى
إحنا في حالة حزن والا ...
مشتاقين للأسئلة .
هنا تتحدث عن كينونة أخرى ليست كينونة الشاعرة ولا كينونة الشاعر بقدر حديثها عن ضمير الغائب فنجد هنا قصيدة البين بين ، وقد وظفته الشاعرة فنيا في قصيدة راقية جدا .
النوع الثالث في الخطاب الخطاب من المؤنث للمذكر في قصيدة مخاصمينك التي تقول فيها :
أنا وقلبي مخاصمينك
ياأجمل حلم في عيوني
ولما تغيب أناجي الشوق
وأقول لعنيك وحشتوني
مخاصمينك
عشان الدنيا ما بتحلى في غير قربك
وأيام عمرنا تشرب حنان قلبك
ولما الحلم ينسانا وخطوتنا تتوه منك
ياخدنا الخوف
ونتلفلف بتوب الهم والوحدة
فالذات الشاعرة هنا المؤنثة تخاطب الحبيب المذكر ، كما في قصيدة صباح الفل التي تقول فيها :
صباح النور على عيونك صباح الفل
يا أجمل من رأت عيني ياسيد الكل
أنا ف حبك أبات محتار
وأصبح والأمل طارح في شجرة فل
أتوقف أيضا على الجزء الثاني في الصورة ، فقد استخدمت الشاعرة صورا جميلة وأحسنت توظيفها لكنها لجأت لمطية سهلة يلجأ لها الشعراء وهي النداء فتقول : ياحضن أدفى من الحنان / يانفحة العطر الجنان / يا أحلى من لمس النسيم خد العذارى ، النداء هنا يقوم على تكوين صورة لكن إذا تأملناه نجد فيه تكرارا بسيطا أو العزف بوتر مختلف على المعنى فالإلحاح على النداء يؤدي للعزف على نفس المعنى لكن بأوتار مختلفة ، وأنا أرى أن حنان عندما نقرأها الآن شعريا نجد التجربة تختلف كثيرا لأن فيها كثير من النضج .
مراعاة البعد القومي اللغوي :
وأختم كلامي بنقطة مهمة جدا تحمد عند الشاعرة ، وأدعو شعراء العامية أن يراعوها مستقبلا ، وهي الكتابة ، فعندما كتبت القصيدة العامية كتبتها بطريقة فصيحة ، فنحن نرى دواوين شعرية مكتوبة بطريقة أقرب ما تكون للمنطوق وهذا يؤدي لنوع من التعثر في الفهم وتلقي النص خاصة إذا خرجت تلك النصوص إلى خارج مصر ، فهناك إلحاح شديد على النطق العامي والكتابة بالعامية المنطوقة التي تلبس المعنى على المتلقي ، والشاعرة حنان عبد القادر استطاعت أن تتخلص من ذلك في ديوانها " دندنة " حيث كتبت العامية بطريقة أقرب للكتابة بالفصحى ، فهي تمتاز بذلك ، وقديما نجد مثل الشاعر فؤاد حداد ، والشاعر صلاح جاهين كانا يكتبان بهذا المستوى اللغوي ، حيث يراعي ذلك البعد القومي اللغوي ، لذا تجد أشعارهما لها جمهورها الغفير الذي يحفظها عن ظهر قلب في كثير من الأقطار العربية لأنها مكتوبة بطريقة يقرأها ويفهمها أي عربي .
ساحة النقاش