شِعرية التمر في ديوان " كرسيٌّ شاغر " لـــ نادي حافظ

بقلم / عبدالله صبري 

لعل القارئ الكريم يتساءل في اندهاش عن العلاقة بين قراءة نقدية في ديوان شعر وبين التمر ( البلح ) هذه الفاكهة الصيفية الشهيرة . لكن عند قراءتي للمجموعة الشعرية " كرسيٌّ شاغر " للشاعر نادي حافظ استوقفتني شِعرية غريبة تجمع الشيء وضده في ذات الوقت ، فآثرت أن أبتعد عن القولبة النقدية التقليدية وأن أبحث لهذه الشِعرية المربكة عن مسمى فلم أجد إلا " شعرية التمر " اسمًا مناسبا . 
لا أقصد بــ " الشعرية " هنا إبراز مكونات النص الشعري أو تحديد قوانين لتقييم الإبداع ولكني أقصد بها حالة الخلق الجمالي الجديدة المنبثقة عن تداخل الأشياء والدلالات في فضاء مغاير من العلاقات . 
لنعود إلي التمر مرة أخري ، يشتهر وصف التمر بأنه طعام الفقراء وفاكهة أو حلوى الأغنياء فهو فاكهة لذيذة ومفيدة صحيًا لأنه يحتوي علي قيمة غذائية عالية وأيضًا غير مكلِّف فتجده عند الفقراء و الأغنياء علي حدٍ سواء . وتزيد نسبة السكريات بالتمرة على 70 ـ 78% من مكونات الثمرة وتتميز هذه السكريات بسرعة امتصاصها وانتقالها للدم مباشرة وهضمها وحرقها. وعدد قليل من حبات التمر يوميًا يكفي كل احتياجات الإنسان من المغنيسيوم والمنجنيز والنحاس والكبريت ونصف احتياجاته من الكالسيوم والبوتاسيوم ، ..... وما علاقة كل هذا بديوان " كرسيٌّ شاغر " لنادي حافظ ؟ !
إن الشعرية في قصائد ديوان " كرسيٌّ شاغر " لا تتكئ علي التراكيب اللغوية أو المجازية المعقدة ولا غرابة التصوير وترف تحميل المفردات بدلالات وإشارات شكلية تغازل مشاعر القاريء بطزاجتها وحداثتها . وإنما شعرية تتخلص فيها اللغة من أغلال التطريز المجاني والزينة المصطنعة ، لتدخل في فضاء له علاقات جديدة يعيدها إلي سيرتها الأولي حيث البياض السحيق وما قبل الدلالات .
فنادي حافظ هنا لا يحاول تفسير الواقع أو حتي إعادة صياغته وتشكيله كعادة شعراء قصيدة النثر ولكنه يحيلك إلي فضاء واسع وعوالم كلية يحتفي فيها بالعادي البسيط الذي يرتبط بغيره ليخلق رؤي وإحالات جمالية ناتجة من علاقات غير عادية بين الأشياء العادية . إنها شِعرية سهلة التذوق وصعبة في فك شفراتها ، غير متكلفة كبساطة التمر لكنها غنية بالجماليات والدهشة ،شِعرية عندما تشاهدها للوهلة الأولي تظنها سهلة المنال ، لكنك تحتاج إلي استكشاف غموض النخيل الشاهق وتمعن النظر في سموه ورسوخه وكبريائه حتي تتعرف عليها . شِعرية تصيح في البراح : دعونا نخترع الجمال " ولو بشق تمرة " . 
تضمن الديوان خمسة نصوص رئيسية وقسم الشاعر كل نص إلي مجموعة من المقاطع وكما يقف النخيل شاهداً علي العصور يحكي قصص الحياة اعتمدت نصوص ديوان " كرسيٌّ شاغر " علي بنية سردية تعتني بالتنقلات بين اللحظات الزمنية وتغوص في الخطوط الفاصلة بين كل لحظة وأخري ، أول نصوص الديوان هو نص ( وجدتُني قربَ صوتِك ) حيث يقول الشاعر :

فجأةً
ضبطتُ رُوحيَ
تفكِّرُ فيكِ
وفجأةً
وجدتُني قربَ صوتِك
دونَ مبررٍ واضح
ودونَ سابِق قبلةٍ
أو :
" باحبك "
وفجأةً
أصبحتُ رجلاً قديماً
ورومانسياً
أصرفُ الليلَ
- هكذا –
في تخمينِ ما سيحدثُ
بيننا
في الصباح !
يلتقطُ الشاعر هنا لحظات محددة مختلفة من الذاكرة ، فالفضاء السردي هنا هو البنية الكلية التي تتضمن اللقطات التي يقتنصها وعي الشاعر والوصف والغناء والمشاعر وباقي عناصر الفضاء الجمالي للنص الشعري . 
ربما كان كرسي نادي حافظ الشاغر هو قلب الشاعر الذي ينتظر المرأة / الحلم/ القصيدة ، تلك اللحظة المدهشة التي تعيد الأشياء إلي بكارتها وجمالها ،و تعيد تشكيل مفردات الحياة ومشاهدها لينتشر الضياء والألق والتوهج ، يقول الشاعر في قصيدة " لعلنا نتبادل الحياة " : 
يااااااااااااااه
كم هذا الكرسي
ملتاعٌ وصبور
مر أسبوعٌ كاملٌ
ولم يأخذك بين ذراعيه
أو... 
يدور بك دورتين
على العبادِ الشغوفين
بالضياء
ياااااااااااااه
كم هذا الكرسي
ـ كرسيك ـ
مسكين في غيابك
يتيم..
وعاجز
عن الحركة
ربط الشاعر الوقت برؤيته ومخيلته ومحبوبته فكان تعبيره عنه أقرب إلي إعادة تعريف وتشكيل الزمن حسبما تراه الذات الشاعرة ، فتراه يعبر عن الوقت قائلاً : ( بعد وداعك بشارعين – منذ غيمة ناصعةٍ ) .
فلحظة وداع الحبيبة والغيمة الناصعة أصبحت كل منهما حدثاً مركزيًا رئيسيًا يحدد الأوقات والتفاصيل واللحظات وتدور في فلكله كل المناسبات الفرعية . 
تتجلي في نصوص الديوان أنسنة الأشياء وتجردها من كينونتها المعتادة والمألوفة فتري الشاعر يقول ( الستارة الزرقاء الراكدة ) ، ( ومشي التاريخُ فصلينِ ) ، ( الكلام الذي بيننا يتناسل ) ، ( ليس يحس بمثل هذه المعاني سوي الكريّ الشاغر ) ، ( توترت أصابعي ) .
إن تجربة نادي حافظ الشعرية " كرسيٌّ شاغر" تجربة تتخذ موقفًا متسامحًا مع التراث الشعري العربي و تبتعد عن الإبهام والانغلاق الغير مبرر ، وتحتفي بشاعرية الرؤي المغايرة للأشياء والكائنات والعالم واقتناص اللحظة الشعرية من المشاهد والتفاصيل العادية ، والبحث في مناطق غير مطروقة لخلق فضاءات جديدة للبوح الشاعري و الدهشة .

shetuskw

أغاريد الجيل الجديد

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 122 مشاهدة
نشرت فى 14 مارس 2013 بواسطة shetuskw

ساحة النقاش

أغاريد الجيل الجديد

shetuskw
أغاريد الجيل الجديد الأدبية الإلكترونية هدفنا هو خلق حراك ثقافي بناء قائم على إعلاء قيمة الأدب والفن وتحريك المياه الراكدة في المجال الثقافي . ونسعى إلى اكتشاف المواهب الشابة ورعايتها وتقديمها إلى الساحة الأدبية والمساهمة في نشر الوعي الثقافي ، لإيماننا أن تقدم أي أمة من الأمم يبدأ بالارتقاء بوجدان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

63,842