مفخرة لكل مسلم ومسلمة
الموقف الأول: أم سليم الأنصارية والزواج:
لقد أولى الإسلام الزواج اهتما خاصا لما فيه من أثر عظيم في تكوين اللبنة الأولى للمجتمع، فإذا صلحت تلك اللبنة صلح المجتمع فمن أجل ذلك حث الإسلام على أن يختار كل طرف الآخر على أساس من الدين فقال صلى الله عليه وسلم مخاطبا الأزواج: "فاظفر بذات الدين تربت يداك" .
وفي المقابل حث أولياء أمور النساء على قبول من تقدم إليهم بالزواج منهن إذا كان من أهل الاستقامة فقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض .
فإذا كان الأمر كذلك فتعالوا ننظر إلى أم سليم الأنصارية رضي الله عنها كيف كان زواجها في الجاهلية والإسلام.
عاشت في بداية حياتها كغيرها من الفتيات في الجاهلية قبل مجيء الإسلام فتزوجت مالك بن النضر، فلما جاء الله بالإسلام، وظهرت شمسه في الأفق واستجابت وفود من الأنصار أسلمت مع السابقين إلى الإسلام وعرضت الإسلام على زوجها مالك بن النضر، فغضب عليها، وكان قد عشش الشيطان في رأسه، فلم يقبل هدى الله، ولم يستطع أن يقاوم الدعوة لأن المدينة صارت دار إسلام فخرج إلى الشام فهلك هناك والذي يظهر لي أن زوجها لم يخرج إلى الشام تاركا وراءه زوجته وابنه الوحيد إلا بعد أن يئس أن يثني أم سليم عن الإسلام فصار هذا أول موقف يسجل لأم سليم رضى الله عنها وأرضاها لأننا نعلم حجم تأثير الزوج في زوجته وأولاده، فاختيار أم سليم الأنصارية الإسلام على زوجها في ذلك الوقت المبكر ينبيء عن عزيمة أكيدة، وإيمان راسخ في وقت كان الاعتماد في تدبير البيت والمعاش وغير ذلك من أمور الحياة على الرجل، ولم تكن المرأة قبيل مجيء الإسلام تساوي شيئا، فكونها أخذت هذا القرار من الانفصال بسبب الإسلام عن زوجها الذي في نظرها يعتبر كل شيء في ذلك الوقت فيه دلالة على ما تمتاز به هذه المرأة المسلمة من الثبات على المبدأ مهما كلفها من متاعب.
زواجها في الإسلام :
أما زواجها في الإسلام فذاك هو العجب بعينه ولم يتكرر في التاريخ مثله فعن أنس رضي الله عنه قال: " خطب أبو طلحة أم سليم قبل أن يسلم فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذاك مهري، لا أسأل غيره، فأسلم وتزوجها أبو طلحة .
وفي رواية عند الحاكم أن أبا طلحة خطب أم سليم يعني قبل أن يسلم فقالت: يا أبا طلحة الست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض نجرها حبشي بني فلان، إن أنت أسلمت لا أريد من الصداق غيره، قال: حتى أنظر في أمري فذهب فجاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة.
فانظر كيف أن أم سليم أرخصت نفسها في سبيل دينها ومبدئها وكيف أنها استعملت الحكمة للوصول إلى هدفها، فهي من جهة بينت له ضلال ما هو عليه من عبادة الأشجار والأوثان وذلك ما تستقبحه الطبائع السليمة ومن جهة ثانية مدحته بما فيه من الخصال الطيبة وأثنت عليه بقولها (مثلك لا يرد) أي أن فيك من صفات الرجولة والحسب والجاه ما يدعو للزواج منك لولا هذه الخصلة من الكفر، ثم لم تقف عند هذا الحد بل رغبته في الزواج منها بأن أسقطت مهرها مقابل إسلامه، فكانت بذلك أول امرأة جعلت مهرها إسلام زوجها فصارت سببا في دخول أبي طلحة في الإسلام فحازت بذلك على الفضيلة التي وعد بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم بقوله: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ".
الموقف الثاني: أم سليم الأنصارية مع ابنها أنس بن مالك في تربيته:
حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت الأنصار ومن كان فيها من المهاجرين مشغولين باستقبال النبي صلى الله عليه وسلم فرحين مستبشرين بمقدمه صلى الله عليه وسلم فجاء الجميع وهاجس كل واحد منهم أن يتشرف برؤيته صلى الله عليه وسلم وتنافس الجميع في أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم عنده ليتشرف بجواره، فصار ذلك نصيب أبي أيوب الأنصاري، فأقبلت الأفواج على بيته لزيارته صلى الله عليه وسلم ، فخرجت أم سليم الأنصارية من بين هذه الجموع، ومعها ابنها أنس رضي الله عنهما فقالت: يا رسول الله هذا أنس يخدمك قال أنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف ولا لم صنعت ولا ألا صنعت. وكان أنس حينئذ ابن عشر سنين فخدم النبي صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة حتى مات، فاشتهر أنس بخادم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن أم سليم رضي الله عنها إنما فعلت ذلك تخلصا من أنس لأنه رضي الله عنه كان من غير زوجها أبي طلحة الحالي، والزوج غالبا ما يضيق ذرعا بأولاد زوجته من غيره، وحاشا أن يكون ذلك من أم سليم بل إن ابنها كان في نظرها كل شيء لدليل أن أنسا رضي الله عنه كان يبيت ويأكل من بيت أمه، وكان مع النبي- صلى الله عليه وسلم في الأوقات التي يحتاج فيها إلى الخدمة.
وكانت أم سليم رضي الله عنها بفطنتها وذكائها ترمي من وراء ذلك تحقيق مقاصد شرعية عظيمة منها أن:
1- خدمة النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى فأحبت أن يسعد بهذه الخدمة ابنها و فلذة كبدها، ومن ثم لتنال هي وابنها أجرا عظيما عند الله سبحانه وتعالى.
2- أن يتربى ابنها أنسن في بيت النبوة ليتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ويهتدي بهديه صلى الله عليه وسلم ، وتلك غاية من أشرف الغايات لا يتفطن إليها إلا أولوا الألباب.
3- أن يحوز أنس رضي الله عنه بسبب قربه من النبي صلى الله عليه وسلم أكبر قدر من سنته صلى الله عليه وسلم متمثلة في أقواله وأفعاله، فكان لها ما أرادت فصار أنس رضي الله عنه من الصحابة القلائل المكثرين لرواية الحديث.
ثم أرادت أم سليم أن تقدم لابنها أفضل جائزة تقدمها والدة لولدها، وذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم سليم فلما انتهى من حاجته وهم بالرجوع قالت له أم سليم رضي الله عنها: " يا رسول الله إن لي خويصة" (تصغير خاصة) قال: " ما هي؟! قالت: خادمك رضي الله عنه (قال أنس) فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي (اللهم ارزقه مالا وولدا وبارك له (يقول أنس!) فإني لمن أكثر الأنصار مالا، وحدثتني ابنتي أمينة أنه دفن لي لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة .
وفي رواية الجعد عند مسلم قال أنس:" فدعا لي بثلاث دعوات قد رأيت منها اثنين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة .
فهذا القدر من أولاده هو الذي مات في حياته قبل ذلك التاريخ، وأما الذين كانوا على قيد الحياة في ذلك الوقت فهم كما قال أنس: " وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو مائة، . أرأيتم كيف أن أم سليم رضي الله عنها اعتنت بابنها اليتيم وأحاطته بكل عناية، وحرصت عليه كل الحرص على أن يحصل على خير الدنيا والآخرة؟ فما أعظمها من أم وأحسنها من مربية رضي الله عنها وأرضاها.
فإذا كان هذا بر أم سليم رضي الله عنها بابنها فما تظنون أن يكون بر أنس رضي الله عنه بأمه، وذلك هو ما يفوق الخيال فكان رضي الله عنه همزة وصل بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، ينقل إليها أقواله وأفعاله حتى كأنها تشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل حين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرب أم سليم بسبب ذلك، فكانت معدودة من أهله تمشي مع نسائه إلى درجة أنه كان يدخل بيتها في غيابها وينام على فراشها كما سيأتي.
وكان لأم سليم رضي الله عنها أبناء آخرون من زوجها أبي طلحة، إنما اخترنا أنسا رضي الله عنه لشهرته بخدمته النبي صلى الله عليه وسلم ولتميزه عن أبنائها الأخرين لأنه من غير زوجها أبي طلحة؟ والأبناء إن كانوا من غير الزوج الحالي عادة ما يلقون إهمالا، فإذا كان هذا حالها مع ابنها الذي هو من غير زوجها الحالي فعنايتها بأبنائها من زوجها الحالي من باب أولى.
دليل ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنس رضي الله عه قال: كان لأم سليم- وهي أم أنس- يتيمة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليتيمة فقال:" أنت هيه (بإسكان الياء والهاء هاء السكت) " لقد كبرت لا كبر سنك فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي نبي الله أن لا يكبر سني، فالآن لا يكبر سني أبدا أو قالت: قرني فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم فقال لها: "مالك يا أم سليم؟ " فقالت: يا نبي الله دعوت على يتيمتي قال: "وما ذاك يا أم سليم" قالت: زعمت انك دعوت أنه لا يكبر سنها ولا يكبر قرنها قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " يا أم سليم أما تعلمين أن شرطي على ربي أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عيه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة" .
انظر كيف أن أم سليم رضي الله عنها اهتمت بأمر هذه البنت اليتيمة فما أن سمعت قوله صلى الله عليه وسلم فيها حتى كادت أن تفقد وعيها من هول ما أصابها جراء هذه الكلمة شفقة منها على هذه البنت اليتيمة، فتحركت في حينها باحثة عن النبي صلى الله عليه وسلم لاستكشاف الموقف مع أن هذه اليتيمة كانت في حجر أم سليم، و-لم تكن من أولادها لأنها لم تتزوج بعد زوجها الأول إلا أبا طلحة وقد توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي لا يتصور أن يكون لها يتيمة، وإنما كانت تربيها ابتغاء مرضات الله.
الموقف الثالث: أم سليم الأنصارية والتسليم بقضاء الله وقدره
وهذا الموقف هو من أعجب المواقف التي سجلت لأم سليم رضي الله عنها أظهرت فيه قوة وثباتا على تحمل المكاره والاستسلام لقضاء الله وقدره مع الرضا، وهو موقف يتطلب من المرأة المسلمة أن تتدبره لتدرك كيف أن الإسلام يعلو بالمرأة المسلمة - من الحضيض الذي كانت فيه أيام جاهليتها من شق الجيوب، وضرب الخدود، والدعاء بالويل والثبور إذا حلت بها مصيبة من فقد عزيز من ابن أو قريب- إلى أعلى مقامات الصبر والثبات والاحتساب في تحمل المصائب مهما عظمت.
وقد مر بنا أن أم سليم رضي الله عنها تزوجت بعد زوجها الأول أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فولدت له ابنا، وهذا الابن هو أبو عمير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازحه ويقول له، يا أبا عمير ما فعل النغير .
وعند ابن حبان " فحملت (منه) فولدت غلاما صبيحا، فكان أبو طلحة يحبه حبا شديدا، فعاش حتى تحرك فمرض، فحزن أبو طلحة عليه حزنا شديدا حتى تضعضع (أي خضع وذل) وأبو طلحة يغدو ويروح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح روحة فمات الصبي.
وإليك القصة كما عند البخاري قال أنس رضي الله عنه: "اشتكى ابن لأبي طلحة فمات، وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال: فبات فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما " قال سفيان: قال رجل من الأنصار فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قرأوا القران .
قال ابن حجر: وفي رواية سعيد بن منصور ومسدد وابن سعد والبيهقي في الدلائل من طريق سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة قال: كانت أم أنس تحت أبي طلحة، فذكر القصة شبيهة بسياق ثابت عن أنس رضي الله عنه وقال في آخره: فولدت غلاما، قال عباية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبع بنين كلهم ختم القرآن .
وفي رواية لمسلم من حديث أنس رضي الله عنه " مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه قال: فجاء فقربت إليه عشاء، فأكل وشرب فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع مثل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم الهم أن يمنعوهم؟
قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني .
هل قرأتم أو سمعتم في التاريخ امرأة توفى ابنها، وهو ما يزال في بيتها قبل دفنه فلا يظهر منها أي جزع أو حزن فضلا عن البكاء والعويل ثم تقوم بخدمة زوجها وتهيء نفسها له حتى يقضي وطره منها كأن لم يحدث شيء؟ وفوق ذلك كله حاولت أن تخفف عن زوجها من هول صدمة الخبر قبل سماعه بقولها: " يا أبا طلحة لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم، قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني
فجمعت في هذه الألفاظ القليلة بين حسن الاستهلال لما ترمي إليه من وجوب التسليم لقضاء الله وقدره، وبين العزاء له بأسلوب رقيق مقنع ومع ذلك لم يعجب هذا الصنيع زوجها فاشتكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بموت ابنه وما فعلته زوجته البارحة فما أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته حتى قال: "أعرستم الليلة؟ قال: نعم، قال: اللهم بارك لهما في ليلتهما . فكان ثمرة ذلك الصبر الفريد- من نوعه أن صار سببا لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالبركة فيما حصل منهما في تلك الليلة، فاستجاب الله لهما تلك الدعوة فحملت من ذلك اللقاء فجاءت بابن، وكان لهذا الابن سبع بنين كلهم قرأوا القرآن أي حفظوه كما تقدم، إضافة إلى ما وعد الله الصابرين يوم القيامة من أن يوفيهم أجرهم بغير حساب.
الموقف الرابع: أم سليم الأنصارية والفقه في دين الله
إن حرص المرء المسلم على التفقه في الدين والاجتهاد في طلب العلم ثم العمل بما تعلم لفيه دلالة على أن الله أراد به خيرا كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .
وأم سليم رضي الله عنها من نساء الأنصار وهن من أحرص الناس على طلب العلم والتفقه في دين الله قالت عائشة رضي الله عنها:" نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين " .
وأم سليم الأنصارية مع كونها من نساء الأنصار المعروفات بالحرص على طلب العلم كانت مميزة من بينهن مشهورة بذلك، وساعدها على ذلك قربها من النبي صلى الله عليه وسلم دائما فكان صلى الله عليه وسلم كثير الزيارة لها، قال أنس: " إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه، فقيل له؟ فقال: " إني أرحمها قتل أخوها معي ".
بل كانت أم سليم معدودة في أهله صلى الله عليه وسلم لكثرة تواجدها مع نسائه في سفره وإقامته قال أنس رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه ومعهن أم سليم فقال:"ويحك يا أنجشة ، رويدك سوقا بالقوارير ".
إضافة إلى ما سبق فابنها أنس بن مالك رضي الله عنه كان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل إليها كل ما سمع من أقواله صلى الله عليه وسلم أو شاهد من أفعاله، فصار بيتها بذلك بيت علم وقد ساعد كل ذلك أم سليم رضي الله عنها أن تتصدر في هذا المجال.
ومن النماذج الدالة على حرصها في طلب العلم أن أم سليم و رضي الله عنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: "إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي- صلى الله عليه وسلم : " إذا رأت الماء " فغطت أم سلمة- تعني وجهها- وقالت يا رسول الله: وتحتلم المرأة؟ قال: " نعم تربت يمينك فبم يشبهها ولدها؟ ".
وفي رواية عند مسلم قالت عائشة رضي الله عنها:" يا أم سليم فضحت النساء تربت يمينك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " بل أنت تربت يمينك نعم فلتغتسل يا أم سليم إذا رأت ذلك " .
وفي رواية عند أبي داود في سننه في الطهارة: " إنما النساء شقائق الرجال ".
ولما أرادت أم سليم رضي الله عنها أن تسأل عن هذا الأمر الذي يصعب على المرأة أن تبوح بمثله عند الرجال لا سيما عند النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعطي من المهابة ما لم يعط أحدا من الملوك مع تواضعه مهدت له بقولها: " إن الله لا يستحي من الحق.. إلخ. وبهذا الجد والمثابرة وبذلك القرب من النبي صلى الله عليه وسلم ورثت علما كثيرا عنه لا سيما فيما يتعلق بأمور النساء مما جعلها محل أنظار أهل العلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
ففي صحيح البخاري عن عكرمة أن أهل المدينة سألوا ابن عباس رضي الله عنهما عن امرأة طافت ثم حاضت قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد رضي الله عنه قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة فكان فيمن سألوا أم سليم فذكرت حديث صفية " أي قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة عقرى حلقى إنك حابستنا أما كنت طفت يوم النحر؟ قالت: بلى، قال: فلا بأس انفري " .
فسؤال ذلك الوفد أم سليم رضي الله عنها عن هذه المسألة التي وقع فيها الخلاف بين الصحابة حين رجوعهم إلى المدينة، وفيها كثير من الصحابة، فيه دلالة على أنها كانت ممن عرفن من النساء بالعلم في المدينة فرحم الله أم سليم رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.
الموقف الخامس: أم سليم الأنصارية وشدة حرصها على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم:
والبركة في اللغة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء . والمقصود به هنا " هو طلب البركة من الزيادة في الخير والأجر وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات النبي صلى الله عليه وسلم بشرطين: أن تكون هذه البركة قد ثبتت بسبب شرعي، وأن تكون الكيفية ثابتة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم " .
وقد تقدم في الموقف الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزورها كثيرا ويدخل بيتها وينام على فراشها في غيابها وكانت حريصة كل الحرص على التبرك به صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه وعرقه وشعره كيف لا تكون كذلك؟ وقد رأت بعينها معجزاته تظهر في طعامها مرات عديدة كما سيأتي.
فعن أنس رضي الله عنه: " أن أم سليم رضي الله عنها كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعا (بساط من الجلد) فيقيل عندها على ذلك النطع قال: فإذا نام النبي صلى الله عليه وسلم أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك (أي من طيب مركب) وهو نائم (قال الراوي) فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إلى أن يجعل في حنوطه من ذلك السك فجعل في حنوطه .
وفي رواية عند مسلم قال أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندها (أي من القيلولة) فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب ".
ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز التبرك بأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين وهم أحرص الناس على فعل الخير ولما لم يفعل ذلك أحد منهم دل ذلك على أن التبرك خاص به صلى الله عليه وسلم.
وكانت أم سليم تسعى لأن تشمل هذه البركة كل أفراد أسرتها لعلمها بما يرجع عليها وعلى أسرتها من النفع الكثير من أثر ذلك التبرك ولذا كانت حريصة إذا جاءها مولود أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يحنكه قال أنس رضي الله عنه:" لما ولدت أم سليم قالت لي: يا أنس، انظر هذا الغلام فلا يصيبن شيئا حتى تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه، فغدوت به فإذا هو في حائطه، وعليه خميصة حريثية (نسبة إلى رجل اسمه حارث) وهو يسم (من الوسم) الظهر الذي قدم عليه الفتح ".
فمن شدة حرصها على التبرك به صلى الله عليه وسلم تعجب النبي صلى الله عليه وسلم حتى سألها عن ذلك فقالت: يا رسول الله نرجو بركته فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقرا لها على فعلها: "أصبت ".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف حرص أم سليم على ذلك ويقدر.لها ذلك ويمكنها من التبرك به صلى الله عليه وسلم كلما أمكن، ولذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما حلق شعره يوم النحر " أشار بيده إلى الجانب الأيمن هكذا، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم ".
فهكذا ساوى النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم بالناس حين أعطاها وحدها نصف شعر الرأس، وأعطى بقية الناس النصف الآخر، وما ذاك إلا تقدير منه صلى الله عليه وسلم لأم سليم على اعتنائها الشديد بتتبع آثاره، وهو دليل على حبها الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وقربها منه صلى الله عليه وسلم.
الموقف السادس: أم سليم والجهاد في سبيل الله
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام ولن يكون لأهله عز في الدنيا ولا رفعة في الآخرة إلا به، وقد شرعه الله لنشر الإسلام وإعلاء كلمته وإقامة شرعه والقضاء على الفتنة قال تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) (سورة الأنفال – آية39). ولم يوجب الإسلام على النساء الجهاد في سبيل الله أي المقاتلة، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد فقال: " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة، وفي رواية عند البخاري قالت عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد قال: " لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور ".
وهو حكم متفق عليه لدى فقهاء الأمصار جميعا، وذلك لما يحتاج إليه الجهاد من الشدة والغلظة والمصابرة، وهو غير متوفر في النساء لضعف خلقتهن ورقة قلوبهن وقد اقتضت حكمة الله في التشريع وهو الحكيم العليم أن كلف كلا من الصنفين ما يليق بحاله جسما وعقلا وروحا.
إذن فخروج النساء مع المجاهدين في سبيل الله لمعنى آخر غير القتال وهو مساعدة الرجال فيما يحتاجون إليه من طبخ الطعام وسقاية المجاهدين ومداواة الجرحى ومناولة السهام قال إبراهيم النخعي: " كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى" وبمثله قال الزهري.
ولم تكن أم سليم تتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته إلا في النادر، وكان زوجها أبو طلحة من أقوى الرماة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين انهزم الناس يدافع عنه رضي الله عنه وأرضاه، وقد أدت أم سليم رضي الله عنها في ذلك اليوم العصيب دورا عظيما قال أنس رضي الله عنه " لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم رضي الله عنهما وإنهما لمشمرتان- أي قدم سوقهن- تنقزان (وقال غيره: تنقلان) القرب على متونهما (أي ظهورهما) ثم تفرغانه في أفواه القوم فتملآنها ثم تجيئان فتفرغان في أفواه القوم) .
الله كبر لقد ثبتت أم سليم وعائشة- رضي الله عنهما- حين انهزم معظم الرجال تقومان فيه بالإسعافات الأولية للجرحى وتساعدان من بقي من الرجال في المعركة.
قال ابن حجر- وهو من المحققين المعروفين بالاستقصاء-" ولم أرى في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن وفي هذا رد على الذين يريدون أن يقحموا المرأة في كل الميادين انطلاقا من قاعدة مساواة المرأة بالرجل بلا استثناء فإذا عثروا على مثل هذه النصوص من خروج المرأة مع المجاهدين نادوا بملء أفواههم قائلين: إن في هذا دليلا على أن المرأة تجاهد مع الرجال جنبا إلى جنب إلى غير ذلك من المقولات المغرضة التي يرددها بعض من يسمون بالمفكرين الإسلاميين الذين انهزموا نفسيا وثقافيا أمام وهج الحضارة الغربية، فلا يهدأ لهم بال حتى يجعلوا المرأة المسلمة صورة للمرأة الغربية التي وصلت إلى درجة أحط قدرا من المرأة في الجاهلية بكثير بل نزلت عن درجة البهائم ومع ذلك تجد من ينتسب إلى الإسلام من ينظر إليها نظرة إعجاب، ولقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال:" لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن .
ولما كان يوم حنين- وكانت معركتها بعد فتح مكة- وكان عدد المسلمين أكثر بكثير من عدوهم إذ كان العدو من قبيلة هوازن، وكان حال كل من الفريقين ما ذكره الله في كتابه(( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين )) سورة التوبة آية:25.
فانهزم الناس وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عدد قليل من أصحابه لا يتجاوز عددهم اثني عشر رجلا، فكانت أم سليم مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الحرج فعند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن أم سليم رضي عنها اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك... " بل إن أم سليم لم تستسغ هذا الموقف، ولم تجد عذرا لبعض من انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم من مسلمة الفتح فقالت قولتها المشهورة (يا رسول الله اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال رسول الله: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن " .
وهكذا سطرت أم سليم في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم صفحات من نور، وضربت في ذلك أروع الأمثلة للمرأة المسلمة في التضحية والإخلاص وستبقى هذه المواقف لأم سليم رضي الله عنها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الموقف السابع: أم سليم الأنصارية والوفاء بالعهد:
الوفاء بالعهد سمة من سمات الإيمان بالله تبارك وتعالى بل هو من أهم مقتضياته وإن الإخلال به يدخل المرء في شعب النفاق ويعرضه للطعن في عدالته ومن أجل ذلك حذرنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم من الإخلال بالوفاء بالعهد فقال:" أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" .
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ على النساء بالبيعة في ترك خصال من الكبائر كن يرتكبنها أو بعضهن في الجاهلية فقال جل ثناؤه: ((يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )) سورة الممتحنة:آية12 .
وإنما نهاهن الله تعالى عن تلك الأمور لما فيها من مخالفة ما التزمن به من الإسلام الذي يحرم على المرأة ا المسلمة ارتكاب أية واحدة منهن وإن اختلفت جهتها وتعددت أسبابها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ على النساء بالبيعة في مناسبات متعددة وكانت البيعة تقع أحيانا على أمور غير المذكورات في الآية لأهميتها أيضا وكثرة وقوعها من النساء.
قالت أم عطية رضي الله عنها:" أخذ علينا النبي صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة- أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سيرة امرأة معاذ وامرأتين أو ابنة أبي سيرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى .
قال ابن حجر نقلا عن القاضي عياض: " معنى الحديث لم يف ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه إلا المذكورات لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة ))
ومهما يكن الأمر فإن أم سليم رضي الله عنها جاءت في الصدارة فيمن وفى من النساء بما أخذ عليهن في تلك البيعة من عدم النياحة على الميت بل كيف يعقل أن تنوح أم سليم على ميت، وهي التي حينما مات ابنها جهزته ووضعته في جانب من البيت ثم تزينت لزوجها حتى واقعها ولم يظهر منها أي جزع فضلا عن البكاء كما تقدم في الموقف الثالث؟.
وهكذا صارت أم سليم نموذجا رائعا ومثلا حيا لكل المؤمنين والمؤمنات في هذا الموقف وغيره من المواقف السابقة.
الموقف الثامن: كرم أم سليم الأنصارية وحسن ضيافتها وظهور معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في طعامها:
إن الجود من مكارم الأخلاق وقد جاءت الشريعة بالحث عليه وهو أيضا من التكافل الاجتماعي الذي لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ويسود الوئام بين أفراده إلا به، والصدقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم برهان أي علامة دالة على إيمان صاحبه لأنه (أي الأيمان) هو الباعث الحقيقي على البذل في وجوه الخير لما يرجو صاحبه من ثواب الله له على ذلك في يوم هو أحوج ما يكون إليه ولثقته بوعد الله بأن يخلف له خيرا مما أنفقه قال تعالى: (( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ))سورة سبأ الآية 39.
كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما أنزلت هذه الاية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة رضي الله عنه- وهو زوج أم سليم الأنصارية- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال: فقال رسول الله: بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه .
وأما أم سليم الأنصارية رضي الله عنها فكانت من أسرع الناس إلى البذل في وجوه الخير بما تجود به نفسها، ومواقفها في ذلك كثيرة لا تكاد تحصى.
ولكن من أبرز تلك المواقف وأعجبها ما كان في طعامها من ظهور معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي- قال أنس رضي الله عنه، قال أبو طلحة لأم سليم رضي الله عنها: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟
قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي وردتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله قال: فذهبت به فوجدت رسول الله في المسجد، ومعه الناس فقمت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس أرسلك أبو طلحة؟ قال: فقلت نعم فقال: الطعام؟ فقلت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا قال: فانطلق، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله بالناس، وليس عندنا ما- يطعمهم فقالت: الله ورسوله أعلم ، قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففت وعصرت عليه أم سليم عكة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول الله ما شاء أن يقول ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا " .
فهذا الفضل وإن شاركها فيه زوجها أبو طلحة صاحب الفكرة وهو أبو الأسرة إلا أن لأم سليم الأنصارية الفضل أيضا في إظهار ما عندها من الطعام ولو كان يسيرا، فلو أنها قالت لزوجها حين سألها عما عندها ليس عندي شيء وتعني بذلك ما يصلح لأن يكون طعاما للنبي صلى الله عليه وسلم لكانت صادقة ولكن رغبتها الشديدة فيما عند الله وإيثارها النبي صلى الله عليه وسلم على نفسها وعيالها جعلها تخرج ما كان في بيتها من طعام وإن قل قدره وضعفت نوعيته ولذا كافأها الله بسبب إخلاصها في حبها للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن نيتها بأن بارك الله في ذلك الطعام القليل ببركة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكل منه العدد الكثير.
وقد تكررت هذه المواقف النبيلة من أم سليم دون مشاركة زوج أو ابن مع ظهور معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة، فقد روى البخاري من حديث أنس بن مالك قال الراوي: مر بنا (أي أنس) في مسجد بني رفاعة فسمعته يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنيات أم سليم دخل عليها، فسلم عليها، ثم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب فقالت أم سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله غليه وسلم هدية فقلت لها: افعلي فعمدت إلى تمر وسمن وأقط فاتخذت حيسة في برمة فأرسلت بها معي إليه فانطلقت بها إليه فقال لي: ضعها ثم أمرني فقال: ادع لي رجالا سماهم، وادع لي من لقيت قال: ففعلت الذي أمرني فرجعت فإذا البيت غاص بأهله فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على تلك الحيسة، وتكلم بها ما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه يقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه ثم تصدعوا (تفرقوا) كلهم عنها .
وفي رواية لمسلم " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله فصنعت أم سليم حيسا فجعلته في تور فقالت: " يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرأ عليك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: إن أمي تقرأ عليك السلام فذكر الحديث إلى أن قال: فدعوت من سمى ومن لقيت قال: قلت لأنس كم كانوا؟ قال: زهاء (أي قدر) ثلاثمائة وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أنس هات التور قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه قال: فأكلوا حتى شبعوا قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم فقال لي: يا أنس ارفع قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان اكثر أم حين رفعت .
وهكذا حازت أم سليم على هذا الشرف العظيم والفضل الجسيم بظهور معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم مرارا في طعامها وحلول بركة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكم كانت فرحتها حين يكون طعامها القليل الذي يسعه التور يشبع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم ثلاثمائة وفيهم- من أضناهم الجوع ولم يكن يجد ما يسد به جوعته في غالب أيامه.
فأم سليم رضي الله عنها دفعت في هذا قليلا من الطعام وأجرت عليه كثيرا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء مع رؤية الجميع لهذه المعجزة النبوية في طعامها التي ازدادوا بها إيمانا على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم فرضي الله عن أم سليم فقد كانت سباقة إلى كل خير حريصة على اغتنام الفرصة وإيصاله في الوقت المناسب.
أم سليم الأنصارية وبشارتها بالجنة:
كان عاقبة ذلك النضال وتلك التضحيات من أم سليم الأنصارية محمودة وقد تقبل الله منها تلك المواقف قبولا حسنا فسعدت به دنيا وأخرى فهي ممن يقال لها يوم القيامة إن شاء الله تعالى ((كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية)).
وغاية ما يتمنى المرء في هذه الدنيا أن يبشر بالجنة ونعيمها، وهو على قيد الحياة من قبل من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فتلك سعادة لا تدانيها أية سعادة، وقد أعطى الله أم سليم رضي الله عنها هذا الفضل العظيم بمنه وكرمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
فقد روى البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهـما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقال: بلال، ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت لمن؟ فقال: لعمر فأردت أن أدخله، فأنظر إليه فذكرت غيرتك فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله: أعليك أغار".
وإنما قلت في حال حياتها لأنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في حدود الأربعين من الهجرة .
وفي رواية لمسلم " فسمعت خشفة فقلت: من هذه؟ قالوا هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك) .
وهكذا صارت أم سليم في مستقر رحمة الله في جنة عرضها السموات والأرض بجوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
فيا لها من سعادة أبدية فهنيئا لأم سليم رضي الله عنها بهذا الفضل العظيم وهنيئا لها ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم- لها بالجنة.
تلك هي أم سليم الأنصارية وما تركته لنا من مواقف هي في الحقيقة بطولات في ميادين المنافسة بضروب من الطاعات ومشاهد من التضحيات مع ثبات على المبدأ في السراء والضراء والأخذ بالعزيمة على النفس في المنشط والمكره وهذه المواقف عدة للصابرين وزاد يتزود بها السالك في درب الخير.
امير
ساحة النقاش