ن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به، ونتوكلُ عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعد:
لقد بعث الله نبيَّه محمداً بالهدى ودينِ الحقَّ، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، فشمل دينه أحكاماً ووصايا، وأوامرَ وتوجيهات في نظام متكامل مربوط برباطِ الفضيلة، بجميع أنواعها وشتى كمالاتها ووسائلها.
وإنَّ من أعظم مقاصد هذا الدين إقامةُ مجتمع طاهر، الخلقُ سياجه، والعفةُ طابعةُ، والحشمةُ شعارهُ، والوقار دثارُه، مجتمعٌ لا تهاجُ فيه الشهواتُ، ولا تثارُ فيه عواملُ الفتنةِ، تضيق فيه فرصُ الغواية، وتقطع فيه أسبابُ التَّهييج والإثارةِ. ولقد خُصَّت المؤمناتُ بتوجيهاتٍ في هذا ظاهرةٍ، ووصايا جليلة.
فعفَّةُ المؤمنة نابعةٌ من دينها، ظاهرةٌ في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرضُ الانضباطَ في اللباس سُترةً واحتشاماً، ورفضاً للسيرة المتهتكة والعبث الماجن.
فشُرع الحجاب؛ ليحفظ هذه العفَّة ويحافظ عليها. شُرعَ؛ ليصونها من أن تخدشها أبصار الذين في قلوبهم مرضٌ.
وأحكام الحجاب في كتاب الله، وفي سنة رسوله صريحةٌ في دعوتها، واضحةٌ في دلالتها، ليست مقصورة على عصر، ولا مخصوصة بفئة دون فئة.
تقول أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما: { لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية } [أخرجه أبو داود].
والجلباب: كلُّ سائر من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من ملاءة وعباءة، وكلُّ ما تلتحف به المرأة فوق درعِها وخمارها.
وإدناء الجلباب يعني: سدلَه وإرخاءَه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهها. وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما: هو تغطية الوجه من فوقِ رأسِها، فلا يبدو إلا عينٌ واحدةٌ.
وما خوطب به أمهاتُ المؤمنين أزواج النبيِّ مطالبٌ به جميع نساء المؤمنين.
فنهى عن الخضوع بالقول، والتَّبرج تبرج الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف من القول، ولزوم القرار في البيوت.
نساء المؤمنين في ذلك كنساء النبي ، بل هو في حقِّ نساء المؤمنين آكد وأولى كما لا يخفى.
وما قوله سبحانه: لَستُنَّ كأحَدٍ مِنَ النِساءِ [الأحزاب:32] إلا تأكيداً لهذا، إذ المقصود بيان: أنَّهن محلُّ الأسوةِ والامتثالِ الأول، ومَن بعدهن متأسيات بهن.
وفي هذا يقول أبوبكر الجصاصُ: ( وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي وأزواجه، فالمعنى فيه عامٌ وفي غيره ).
وفي مقام آخر - أيها المؤمنون والمؤمنات - يقول الله عز وجل: وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوآبَائِهِنَّ أَو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31].
ولقد ذكر في الآية زينتان:
إحداهما: لا يمكن إخفاؤها وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَر مِنهَا [النور:31]. ولم يقل إلا ما أظهرن منها. فعلم بهذا: أنَّ المراد بالزينة الأولى زينة الثياب.
أما الزينة الثانية: فزينةٌ باطنة يباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَو آبَائِهِنَّ أَو آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] إلخ الآية.
وأنت خبيرٌ أيها المؤمن، وخبيرةٌ أَّيتُها المؤمنة بأن ممن رخص في إبداء الزينة أمامهم: الأطفال، وغير أولي الإربة من الرجال. والوجه مجمع الحسن ومحطُّ الفتنة، فهل يُرخَّص كشفه للبالغين وأولي الإربة من الرجال. الأمر في هذا جليِّ ظاهرٌ.
وفي نفس الآية الكريمة: وَلا يَضرِبنَ بِأرجُلهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِين مِن زِينَتهِن [النور:13].
وهوما يُتحلَّى به في الأرجل من خلخالٍ وغيره، فإذا كان صوتُ الخلخال بريداً إلى فتنة، فكيف بالوجه الذي يحكي الجمال، والشباب، والنضارة، وصوتُ الخلخال يصدرُ من فتاة وعجوز ومن الجميلة والدميمة.
أما الوجه فلا يحتمل إلا صورةً واحدةً.
يقول صاحب الدر المختار فقه أبي حنيفة رحمه الله: ( وتمنع المرأة الشابة من كشف الوجه بين الرجال؛ لخوف الفتنة كمسِّه، وإن أمن الفتنة ). ويقول عليه الشارح ابن عابدين رحمه الله: ( المعنى أنَّها تمنع من الكشف؛ لخوف أن يرى الرجالُ وجهها فتقع الفتنة؛ لأنه مع الكشف قد يقع النَّظر إليها بشهوة، وأمَّا قوله: ( كمسه ) أي: كما يمنع من مسِّ وجهها وكفيها، وإن أمن الشهوة؛ لأَّنه سبيلٌ إلى الشهوة والفتنة فكذلك يغطى الوجه؛ لأَّنه طريقٌ إلى الفتنة ).
وقبله قال أبوبكر بن الجصاص: ( والمرأة الشابة مأمورة بستر وجهها، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج؛ لئلا يطمع فيها أهلُ الريبِ ).
وفي السنة أُّيها المؤمنون والمؤمنات أُبِيح للخاطب النَّظر من أجل الخطبة، فغيرُ الخاطب ممنوعٌ من النظر. والمقصود الأعظم من النظر هو الوجه؛ ففيه يتمثل جمال الصورة.
وحينما قال عليه الصلاة والسلام: { من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة } قالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء. قال: { يرخين شبراً } قالت: إذاً تنكشف أقدامهن. قال: { فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه } [رواه البخاري ومسلم].
فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنةً، فلا يعدو أن يكون تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. والحكمةُ والنظرُ تأبيان ستر ما هو أقلُّ فتنةً، والترخيص في كشف ما هو أعظم فتنةً.
ومهما قيل في الحجاب، في كيفيته وصفته، فما كان يوماً ما عثرة تمنع من واجب، أو تحول دون الوصول إلى حقِّ، بل لقد كان ولا يزال سبيلاً قويماً يمكِّنُ المرأة من أداء وظيفتها بعفةٍ وحشمة، وطهر، ونزاهة على خير وجه وأتمِّ حالٍ.
وتاريخ الأمة شاهد صدق لنساء فُضليات جمعن في الإسلام أدباً، وحشمة، وستراً، ووقاراً، وعملاً مبروراً، دون أن يتعثرن بفضول حجابهن، أو سابغ ثيابهن.
وإنَّ في شواهد عصرنا من فتياتنا المؤمنات، متحجبات بحجاب الإسلام، متمسكات بهدي السُّنَّة والكتاب قائمات بمسؤولياتهن، خيرٌ ثم خير من قريناتٍ لهنَّ، شاردات كاسيات عاريات، مائلات مميلاتٍ، لا يدخلن الجنَّة، ولا يجدن ريحها، متبرِّجات بزينتهن تبرُّج الجاهلية الأولى.
وليعلم دعاةُ السفور، ومَن وراءهم أنَّ التقدمُّ والتخلُّف له عواملُه وأسبابه، وإقحام السِّتر، والاحشام، والخلق، والالتزام عاملاً من عوامل التخلَّف، خدعةٌ مكشوفةٌ، لا تنطلي إلا على غافلٍ ساذجٍ، في فكرة دخلٌ، أو في قلبه مرضٌ.
إن وظيفة المرأة الكبرى، ومهمتها العُظمى في بيتها وأسرتها وأولادها، وكلُّ ما تتحلَّى به من علم ووعي يجبُ أن يكونَ موجهاً لهذه المهمة، وتأهيلاً لهذه الوظيفة.
الرجلُ هو الكادح في الأسواق، والمسؤول عن الإنفاق، والمرأة هي المربي الحاني، والظلُّ الوارف للحياة كلّما اشتدَّ لفحُها، وقسا هجيرهُا.
وإنَّ انسلاخَ أحد الجنسين عن فطرته من أجل أن يلحق بجنس ليس منه تمردٌ على سنة الله، واعوجاجٌ عن الطريق المستقيم. ولن يفيد العالم من ذلك إلا الخلل والاضطراب، ثم الفسادُ والدمارُ. وما لعن المتشبهون من الرجال بالنسِّاء ولا المتشبهات من النسِّاء بالرجال، إلا من أجل هذا.
وسوف تحيقُ اللعنةُ، ويتحقق الإبعاد عن مواقع الرحمة في كلِّ من خالف أمر الله، وتمرَّد على فطرة الله.
أيها المؤمنون:
كما أُمرت المؤمنة بلزوم الحجاب عند خروجها ومقابلة غير المحارم فقد أمرت أن تقرَّ في بيتها، فبيتُها خيرٌ لها، ووظيفتها من أشرف الوظائف في الوجود، وما يُحسنها ولا يتأهل لها إلا من استكمل أزكى الأخلاق، وأنقى الأفكار.
إنَّ من الخطأ في الرأي والفساد في التصوُّر، الزَّعم بأنَّ المرأة في بيتها قعيدةٌ لا عمل لها، فما هذا إلا جهلٌ مركبٌ، وسوء فهم غليظ، سوءُ فهم بمعنى الأسرة، وجهل بطبيعة المجتمع الإنساني، والتركيب البشريِّ.
والأشد والأنكى الظنُّ بأن هذه الوظيفة قاصرةٌ على الطهي والخدمة، إنها تربية الأجيال والقيامُ عليها؛ حتى تنبت نباتاً حسناً، ذكوراً وإناثاً، إنَّها في الإسلام تعدل شهود الجُمَعِ والجماعات في حقِّ الرجال، وتعدل حج التطوع والجهاد.
جاءت أسماء بنت السكن الأنصارية الأشهلية - رضي الله عنها - الملقبة بخطيبة النِّساء. جاءت إلى رسول الله فقالت: ( يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إنَّ الله بعثك للرجال والنَّساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنّا معشر النسِّاء محصوراتٌ، ومقصورات مخدورات، قواعد بيوتكم، وحاملاتُ أولادكم، وإنَّكم معشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمع والجماعات، وفُضلتم علينا بشهود الجنائز، وعيادة المرضى، فُضِّلتم علينا بالحج بعد الحج، وأعظم من ذلك الجهادُ في سبيل الله. وإنَّ الرجل منكم إذا خرج لحجِّ أو عمرةٍ أو جهاد؛ جلسنا في بيوتكم نحفظ أموالكم، ونربي أولادكم، ونغزلُ ثيابكم، فهل نشارككم فيما أعطاكم الله من الخير والأجر؟ ) فالتفت النبي بجملته - يعني جسده - وقال: { هل تعلمون امرأة أحسن سؤالاً عن أمور دينها من هذه المرأة؟ }: { يا أسماء، افهمي عني، أخبري من وراءك من النَّساء أنَّ حسن تبعُّل المرأة لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لرغباته يعدلُ ذلك كلَّه } فأدبرت المرأة تهلل وتكبرُ وتردد: يعدلُ ذلك كلَّه، يعدل ذلك كلَّه قالوا: يا رسول الله، ما ضنَّنا أنَّ امرأة تسأل سؤالها، فقال النبي } [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان].