أبو البركات الشيخ أحمد الدردير
د.سيد علي إسماعيل
ـــــــــــــــ
نشر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله – على نفقته الخاصة، كتاباً ضخماً – في أربعة أجزاء - بدار المعارف المصرية عام 1986، جاء في مقدمته الآتي: " إن صاحب العظمة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، وسدد على طريق الخير خطاه، قد شمل بعنايته ورعايته كتاب: (الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك بحاشية الصاوي)، فأمر بطبعه لما رأى من اهتمام سماحة الشيخ أحمد بن عبد العزيز آل مبارك – رئيس القضاة بأبو ظبي – بهذا السفر الجليل، الذي يُعد عمدة في مذهب إمام دار الهجرة رضوان الله عليه. وبهذا فإن صاحب العظمة يضيف إلى مكرماته أوفر إضافة، ويبني صرحاً سيبقى خالداً على مر الزمان، ولا سيما أن الحاجة ماسة جداً لهذا الكتاب العظيم، لما اشتمل عليه من علم وفقه وتشريع، كما أن عليه العمل في الفتوى والأحكام القضائية في معظم بلاد الإسلام، ويحق أن يقال بأنه كتاب المذهب".
مؤلف هذا الكتاب العظيم هو الشيخ أحمد الدردير!! أشهر المشايخ المجهولين في تاريخ شيوخ الأزهر، ومشايخ الصوفية، وأصحاب الأضرحة والزوايا والمساجد، وصاحب محراب الدردير في الأزهر الشريف!! فهذا الشيخ اسمه معروف عند كل عالم مسلم درس في الأزهر، وعند أغلب المسلمين في الهند وبلاد جنوب شرق آسيا، وعند أغلب المسلمين المتعلمين في أفريقيا، وعند كل من قرأ كتاباً في العلوم الإسلامية! ورغم هذه الشهرة الواسعة لاسم الشيخ أحمد الدردير؛ إلا أنها شهرة محدودة باسم الشيخ فقط، لا تتجاوزها إلى تاريخه أو ترجمة حياته؛ علماً بأن الشيخ الدردير له مؤلفات كثيرة، وله زاوية أصبحت ضريحاً، والضريح تحول إلى جامع عامر، مازال قائماً حتى اليوم، يُقام فيه مولد للشيخ كل عام!!
شهرة الاسم
في الربع الأول من القرن التاسع عشر جاء شاب من بلدة الباب بمدينة حلب للدراسة في الأزهر الشريف، عُرف – فيما بعد - باسم (الشيخ أحمد البابي الحلبي)، هذا الشاب قدّم أكبر خدمة للأزهر وللمسلمين في كافة أنحاء العالم، عندما أنشأ عام 1859م مطبعة خاصة لطباعة الكتب الإسلامية والتراثية المقررة في الدراسة الأزهرية، أطلق عليها اسم (المطبعة الميمنية). وهذه المطبعة طبعت آلاف الكتب حتى وفاة صاحب المطبعة عام 1898م. وفي نهاية كل كتاب كان صاحب المطبعة ينشر توثيقاً للكتاب، يشتمل على: اسم المؤلف، واسم الكتاب، واسم المطبعة، وعنوانها، واسم صاحبها. وما يهمنا في هذا التوثيق بيانات المطبعة، وكانت تُنشر هكذا: " المطبعة الميمنية بمصر المحروسة المحمية بجوار سيدي أحمد الدردير قريباً من الجامع الأزهر المنير إدارة المفتقر لعفو ربه القدير أحمد البابي الحلبي ذي العجز والتقصير".
ولنا أن نتصور ملايين النسخ المنشورة في هذه المطبعة، والتي تحمل اسم (سيدي أحمد الدردير) لنتخيل شهرة الاسم وانتشاره بين أغلب المسلمين الدارسين للعلوم الإسلامية في العالم، ناهيك عن أن كل الكتب التي نشرتها المطبعة الميمنية في القرن التاسع عشر، مازالت تُطبع حتى الآن – عن طريق التصوير الضوئي – في صورتها الأصلية من خلال مطبعة (مصطفى البابي الحلبي) - وريث أحمد البابي الحلبي – الذي حافظ على المطبعة الأصلية وآلاتها ونسخها الأصلية، وهذا يعني أن اسم (سيدي أحمد الدردير) مازال يُطبع حتى الآن، مما يعني استمرار شهرة الاسم وانتشاره!!
إسهام الجبرتي
إذا كان الشيخ أحمد البابي الحلبي، أسهم في شهرة اسم الشيخ أحمد الدردير وانتشاره؛ فإن الشيخ الدردير نفسه لم يساعدنا على معرفة أخباره أو حياته؛ عندما واتته الفرصة لذلك؛ عندما كتب فقرة صغيرة عنه وعن والده – في مقدمة كتابه (الشرح الصغير)، الذي طبعه الشيخ زايد – قال فيها : " كان الوالد رحمه الله تعالى رجلاً صالحاً عالماً متقناً للقرآن، فقد بصره في آخر عمره ، فاشتغل بتعليم الأطفال كتاب الله تعالى، فحفظ القرآن على يده خلق كثير، وكان يعلم الفقراء حسبة لله تعالى لا يأخذ منهم صرافة ولا غيرها، بل ربما واساهم من عنده، وكان كثير السكوت لا يتكلم إلا نادراً، وورده – في غالب أوقاته – صلاة سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله تعالى عنه، وكان يبشرني في صغري بأن أكون عالماً. مات رحمه الله شهيداً بالطاعون سنة ثمان وثلاثين بعد الألف ومائة، وعمري نحو عشر سنين، وشوهدت له كرامات". وهذه الفقرة المقتضبة نستنتج منها أن الشيخ الدردير ولد سنة 1127 هجرية (1715 – 1716م)، وحفظ القرآن أو بعضه في كُتّاب والده – هكذا يُفهم من الفقرة - وأن والده كان من الصوفيين ممن لهم كرامات، ومنها بشارته لابنه بأنه سيكون عالماً دينياً.
ولحسن الطالع أن ما قصّر فيه الشيخ الدردير، أكمله المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي – في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار – عندما ترجم للشيخ أحمد الدردير بعد وفاته يوم السادس من ربيع الأول سنة 1201 هجرية (26/12/1786)، وجاء بأخبار متنوعة عنه، ومنها: أنه من بني عدي في صعيد مصر، وأن اسم الدردير هو اسم جده الأكبر، وقد تسمى به الجد تبركاً باسم (الدردير) كبير إحدى القبائل العربية التي زارت بني عدي قديماً. وعندما حفظ الشيخ أحمد القرآن على يد أبيه، انتقل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، فدرس الفقه على يد الشيخ علي الصعيدي، وتلقن الذكر والطريقة الخلوتية على يد الشيخ شمس الدين الحفني. وعندما توفي الشيخ علي الصعيدي، أصبح أحمد الدردير شيخاً للمالكية، ومفتياً وناظراً على وقف الصعايدة، وشيخاً لرواق الصعايدة بالأزهر الشريف.
كما ذكر الجبرتي مجموعة كبيرة من مؤلفات الشيخ أحمد الدردير، ومنها: " شرح مختصر خليل أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني، واقتصر فيه على الراجح من الأقوال. ومتن في فقه المذهب سماه أقرب المسالك لمذهب مالك. ورسالة في متشابهات القرآن. ونظم الخريدة السنية في التوحيد وشرحها. وتحفة الأخوان في آداب أهل العرفان في التصوف. وله شرح على ورد الشيخ كريم الدين الخلوتي. وشرح مقدمة نظم التوحيد للسيد محمد كمال الدين البكري. ورسالة في المعاني والبيان. ورسالة أفرد فيها طريقة حفص. ورسالة في المولد الشريف. ورسالة في شرح قول الوفائية: يا مولاي يا واحد يا مولاي يا حكيم. وشرح على مسائل كل صلاة بطلت على الإمام والأصل للشيخ البيلي. وشرح على رسالة في التوحيد من كلام دمرداش. ورسالة في الاستعارات الثلاث. وشرح على آداب البحث. ورسالة في شرح صلاة السيد أحمد البدوي. وشرح على الشمائل لم يُكمل. ورسالة في صلوات اسمها المورد البارق في الصلاة على أفضل الخلائق. والتوجه الأسنى بنظم الأسماء الحسنى. ومجموع ذكر فيه أسانيد الشيوخ. ورسالة جعلها شرحاً على رسالة قاضي مصر عبد الله أفندي المعروف بططر زاده في قوله تعالى: يوم يأتي بعض آيات ربك الآية، وله غير ذلك".
أما تلاميذ الشيخ أحمد الدردير - ممن درسوا على يديه في الأزهر الشريف، وأصبحوا من العلماء المشهورين - فمنهم : الشيخ محمد بن عبادة بن بري العدوي ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي، والشيخ موسى البشبيشي الشافعي الأزهري، والشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي، والشيخ أحمد بن أحمد السماليجي الشافعي الأحمدي، والشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي، والشيخ عبد العليم بن محمد بن محمد بن عثمان المالكي الأزهري، والشيخ مصطفى العقباوي المالكي، والشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد الحريري الحنفي مفتي مذهب السادات الحنفية، والشيخ سليمان الفيومي المالكي، والشيخ محمد بن أحمد عرفة الدسوقي المالكي، والشيخ محمد المهدي الحفني، والشيخ محمد الشنواني.
نصير المظلومين
أورد الجبرتي أخباراً تدل على أن الشيخ أحمد الدردير كان نصيراً للمظلوم ضد كل ظالم، حتى ولو كان الظالم من الأمراء المماليك. ففي عام 1191 هجرية (1777م) أوقف أحد الصالحين وقفاً على طائفة المغاربة المجاورين للأزهر الشريف؛ ولكن واضع اليد على هذا الوقف امتنع عن تسليمه، ولجأ إلى الأمير يوسف بك، فكتب له الأمير سند ملكية غير شرعي، فاحتكمت طائفة المغاربة إلى القضاء، الذي حكم بأحقية الطائفة في الوقف، ولكن الأمير يوسف بك امتنع عن التنفيذ، فهرعت طائفة المغاربة إلى الشيخ أحمد الدردير، الذي ساندهم وكتب رسمياً إلى الأمير موبخاً ومهدداً. ووصل الأمر إلى أن الأمراء تكاتفوا مع الأمير يوسف بك ضد الشيخ والطائفة، فقاد الشيخ الدردير ثورة تصحيحية ضد ظلم الأمراء، انتصر الشيخ في نهايتها، ونجح في عودة الوقف إلى طائفة المغاربة.
وفي عام 1200 هجرية (1786م) قام حسين بك وجنوده بالهجوم على دار أحمد سالم الجزار متولي رياسة دراويش الشيخ البيومي، ونهبه حتى مصاغ النساء والفراش؛ فثار أهالي المنطقة وذهبوا إلى الجامع الأزهر، ومعهم الطبول والنبابيت، وقابلوا الشيخ أحمد الدردير، وسمع منهم ما حدث؛ فقال لهم : " أنا معكم. وفي الغد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم". وبسبب هذا التهديد – وقوة شخصية الشيخ الدردير وتأثيره على الناس – جاءه سليم أغا مستحفظان مع وفد من رجال الدولة، وقالوا للشيخ: " اكتب لنا قائمة بالمنهوبات ونأتي بها من محل ما تكون "، وهكذا انتهت المسألة. وفي العام نفسه ذهب الشيخ الدردير لحضور مولد السيد البدوي في طنطا، فوجد أن جابي الضرائب قرر ضريبة جديدة على كل جمل يُباع في المولد، فقام الشيخ بتوبيخه أمام الناس، فهجم أعوان الجابي على مريدي الشيخ الدردير، وحدث هرج ومرج، فحضر رجال الدولة وقدموا الترضية الواجبة للشيخ الدردير، خشية تأثيره على العامة وقت المولد.
ومن أهم المواقف المشهورة للشيخ الدردير، موقفه العظيم لابن سلطان المغرب سنة 1198 هجرية (1784م)، حيث كان مولاي محمد سلطان المغرب يرسل سنوياً مبالغ مالية هبة منه لطلاب الأزهر وعلمائه، وكان للشيخ الدردير الحظ الأوفر من هذه الهبة. وفي سنة 1198 هجرية قام ابن سلطان المغرب بأداء فريضة الحج، فتأخر في الطريق ومكث في مصر عدة أشهر، ونفذ ماله. وفي الوقت نفسه جاءت إلى الأزهر هبة والده السلطان، فأراد الابن الاستفادة منها حتى يضمن عودته إلى المغرب سالماً، فمنعه البعض، وعندما سمع بالأمر الشيخ الدردير قال: " والله هذا لا يجوز وكيف أننا نتفكه في مال الرجل ونحن أجانب وولده يتلظى من العدم هو أولى مني وأحق أعطوه قسمي". وعندما عاد الابن، روى لأبيه السلطان ما كان من الشيخ الدردير، فأمر السلطان بمنح الشيخ عشرة أمثال نصيبه من الهبة. فقام الشيخ بأداء فريضة الحج، وبنى زاوية له بما تبقى من عطية سلطان المغرب.
زاوية .. ضريح .. جامع
تحدثت - فيما سبق – عن شهرة اسم (سيدي أحمد الدردير) المنشور في نهاية جميع مطبوعات المطبعة الميمنية لأحمد البابي الحلبي. وحقيقة أصل هذه المقالة؛ أنني قررت الكتابة عن (مطبعة الحلبي)؛ بوصفها أقدم مطبعة خاصة لطباعة الكتب التراثية، فذهبت إلى المطبعة – بناء على عنوانها المنشور في جميع منشوراتها – وبدأت أسأل عن (سيدي أحمد الدردير) خلف جامع الأزهر؛ كي أصل إلى مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي. وكل شخص أسأله عن (سيدي أحمد الدردير)، أجده يجيب عليّ بسؤال: (هل تريد مكتبة الحلبي)! فأقول: نعم! وكأن السؤال عن (سيدي أحمد الدردير) خلف جامع الأزهر؛ يعني السؤال عن مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي!!
وصلت إلى مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي في إحدى الحارات الضيقة خلف جامع الأزهر، في شارع التبليطة - بجوار سوق التبليطة - فوجدتها مكتبة صغيرة متواضعة، مازالت تبيع الكتب التراثية في صورتها القديمة، وللأسف لم أجد مسؤلاً عنها من ورثة الحلبي؛ كي أستقي منه بعض المعلومات، فتركت المكان، وعدت بخفي حنين!! وفي أثناء العودة تذكرت اسم (سيدي أحمد الدردير)، فسألت عنه، وعرفت أنه يقع بعد مكتبة ومطبعة الحلبي بعدة حارات، ولهذا السبب عرفت لماذا كانت شهرة اسم (سيدي أحمد الدردير)، تفوق معرفة الشيخ ومكانه ومكانته!! فكل إنسان سأل أو يريد أن يسأل – كما حدث معي – عن مكتبة الحلبي ومطبعته، ويبدأ بالسؤال عن (سيدي أحمد الدردير)، فإنه سيصل إلى المكتبة والمطبعة قبل أن يعرف مكان (سيدي أحمد الدردير)!!
من خلال سؤال المارة عن (سيدي أحمد الدردير)، وصلت إلى الشارع المقصود، فوجدته شارعاً ضيقاً في بدايته – وعلى يمين أول جدار - يافطة معدنية زرقاء مكتوب عليها بالعربي وبحروف إنجليزية للنطق العربي نفسه، الآتي: (شارع الدرديري CHAREH EL DARDIRI)!! مما يعني أن اسم الشيخ أصبح اسماً للشارع – كما سنعرف فيما بعد – وعلى بُعد عدة أمتار تظهر مأذنة كبيرة شامخة، لا تتناسب في طولها وضخامتها وزخرفتها مع صغر حجم البناء التي تعلوه، مما يدل على أنها بُنيت حديثاً!! وأسفل المأذنة – وفي منتصف جدار البناء – شباك من خشب الأرابسك تعلوه لوحة رخامية عتيقة مكتوب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم. أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. مقام سيدي أبو البركات أحمد الدرديري رضى الله عنه. ولد سنة 1127 هجرية. توفى سنة 1201 هجرية).
وبعد انتهاء جدار البناء أو طول البناء، نجد عطفة بها جدار آخر يُمثل عرض البناء، في بدايته باب عتيق تعلوه زخارف إسلامية حجرية – منها: المحفور، والغائر، والبارز - وسط أفريز حجري، في أعلاه شباك صغير من الأرابيسك مكتوب عليه (يا الله يا محمد)، وفي أسفله لوحة رخامية حديثة مكتوب عليها بالخط الكوفي (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا مقام سيدي أحمد الدرديري رضى الله عنه). وبعد الدخول من هذا الباب نجد باباً أصغر منه بعد مترين من الباب الأول، وبعد تجاوزه نجد قبر الشيخ أو مقامه في غرفة منفصلة، ثم نجد للمقام باباً آخر يؤدي إلى مُصلى الجامع، وبالمصلى منبر خشبي حديث، ومحراب رخامي - حديث أيضاً أو مُرمم حديثاً - مُحلى بنقوش إسلامية، ناهيك عن أعمدة الجامع الرخامية الشاهقة، وجدرانه الحجرية الضخمة، ومكتبته المتواضعة.
واللافت للنظر أن مساحة مصلى الجامع، وبناءه، وجدرانه، وأعمدته، وتنسيقه؛ لا يتناسب مع باب المدخل الرئيسي للمقام أو الجامع، ولا يتناسب كل هذا مع أبواب ومداخل مصلى الجامع من الداخل، وكأن الأبواب والمداخل لأحد المنازل، لا لأحد الجوامع!! وتفسير هذا الأمر أن هذا الجامع كان في الأصل زاوية للشيخ الدردير، بناها من بقية هبة سلطان المغرب – كما مرّ بنا – وكانت تقع في عطفة الدردير بشارع الكعكيين سابقاً – والدرديري حالياً – وعندما مات الشيخ دُفن في زاويته هذه، فأصبح البناء المتواضع زاوية ومقاماً للشيخ الدردير حتى القرن التاسع عشر، فقد جاء في كتاب (الخطط التوفيقية) عند الحديث عن شارع الكعكيين، الآتي: وبه "عطفة الدردير، عُرفت بالشيخ المعتقد أبي البركات سيدي أحمد الدردير المالكي المدفون هناك داخل الزاوية التي بجوار هذه العطفة. شعائرها مقامة على الدوام، وعلى ضريح منشئها تابوت مكسو بالجوخ، يحيط به مقصورة من الخشب، ويعلوه قبة مرتفعة. ولهذه الزاوية منارة قصيرة، ومطهرة، وأخلية، وبئر. ويعمل لمنشئها بها مجلس قرآن كل يوم جمعة بعد الزوال، ومجلس ذكر ليلة السبت، ومولد كل عام مع مولد سيدنا الحسين رضي الله عنه، وبها خزانة كتب معتبرة ".
ويُفهم من هذا الوصف أن مقام الشيخ كان محدوداً بالزاوية، وما يقام فيها من شعائر ومجالس للذكر .. إلخ ما ذكر من مظاهر دينية! واللافت للنظر – في الاقتباس السابق – خلوه من وصف الجامع، ومساحته، وما به من بناء وجدران ضخمة، وأعمدة رخامية شاهقة، ومأذنة كبيرة شامخة .. إلخ، وهذا يعني أن الجامع لم يكن موجوداً حتى القرن التاسع عشر؛ لأن الوصف كان محدداً بالمقام والزاوية، مما يعني أن توسعات حدثت في المقام أو الزاوية، فأصبحت تشتمل على جامع فسيح – بعض الشيء – وهو الموجود حالياً، والاحتمال الأكبر أن هذا التوسع جاء من خلال ضم بعض المنازل المجاورة للمقام والزاوية، فأصبحت هذه المنازل جامع الدردير الموجود حالياً. ومما يعضد هذا الاحتمال، ما جاء في (الخطط التوفيقية) من وصف المنازل المجاورة للمقام، والتي كانت موقوفة على زاوية الشيخ الدردير. ومن هذه الأقوال: وجود " قبو عظيم بجوار زاوية الدردير به دار كبيرة في مقابلة الداخل منه، وهي موقوفة على عشرين من طلبة العلم المغاربة المجاورين بالجامع الأزهر. وهناك أيضاً دار كبيرة على يمنة من سلك من هذا الشارع إلى الباطلية لها بابان: أحدهما وهو الكبير من الكعكيين، والثاني من درب الأتراك، وهي موقوفة ثلاثة أرباعها على زاوية الشيخ الدردير، والربع الرابع على الخطيب الشربيني صاحب التفسير".
ساحة النقاش