مسرحياتي كما أراها الآن : علاء الجابر .. رائد النقد الذاتي

للكاتب المسرحي دور مُحدد، ينتهي بانتهاء التأليف وخروج العمل – إلى الجمهور - في شكل نص مطبوع، أو عرض مسرحي معروض على خشبة المسرح. وللناقد المسرحي دور أيضاً، ينتهي بانتهاء نقده، وخروجه في شكل كتاب أو مقال أو بحث منشور. وحتى الآن لم نسمع بأن كاتباً مسرحياً قام بدور الناقد؛ فنقد كتاباته المسرحية، وهذا اللون من النقد يُسمى النقد الذاتي. وعلاء الجابر الكاتب والناقد المسرحي – المُقيم في الكويت – هو أول من طبق النقد الذاتي على أغلب إبداعاته المسرحية، وأخرج تجربته النقدية هذه في كتاب بعنوان (مسرحياتي كما أراها الآن).

وهذه التجربة سأتناولها في هذه الصفحات؛ بهدف الوصول إلى مصداقية الناقد عندما يتناول بالنقد أعماله الإبداعية (نصاً وعرضاً)، وجدوى نقد الأعمال الإبداعية، التي عُرضت – أو كُتبت – في زمن يختلف عن زمن تناولها النقدي. كذلك التعرف على قيمة النقد الذاتي بالنسبة للمُبدع، وهل نقده لأعماله سيؤثر سلباً على إبداعه السابق، وإيجاباً على إبداعه اللاحق؟ كما سأحاول الإجابة عن عدة أسئلة، منها: هل يحق للمبدع ارتداء ثوب الناقد، وما جدوى ذلك؟ وهل نقد المُبدع لإبداعه يُمثل نهاية النقد، وعدم قبول أي نقد آخر؟! .... إلخ هذه الأسئلة. وكتاب (مسرحياتي كما آراها الآن)، يشتمل على (نصوص/نقد) ست مسرحيات لعلاء الجابر، هي: سالي، علاء الدين 92، نعنوعة، بونوكيو، أليس في بلاد العجائب، كونان في أرض البوكيمون.

أهداف البحث :

أهداف هذا البحث متعددة، ومتداخلة في آن واحد! وربما لا أستطيع تحقيقها – بصورة كاملة - في هذه الوريقات البسيطة؛ لأنها أهداف تتعلق بنوع جديد في مجال النقد الأدبي، ألا وهو النقد الذاتي في مجال المسرح! ولأن هذا النوع النقدي جديد فمن العسير الإلمام بجميع جوانبه في دراسة واحدة، لا سيما وأن تجارب النقد الذاتي في مجال الأدب، تكاد تكون معدومة! من أجل ذلك سأكتفي بصياغة أهداف البحث في صورة أسئلة متوالية – ظهر بعضها في التمهيد، وسيظهر البعض الآخر من حين إلى آخر بين سطور الدراسة - وسأجتهد - قدر استطاعتي – في الإجابة عن بعضها في سياق البحث، وعن البعض الآخر في نهاية البحث.

النقد الذاتي :

يقول علاء الجابر في مقدمة كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن): "لم أسمع – على حدّ علمي – وأرجو أن لا يعتبر البعض ذلك غروراً مني ويزودني بما يصحح المعلومة لدي – بقيام شخص عاقل بذبح إبداعاته على مقصلة النقد، وهذا ما قمت به حين تصديت لمهمة نقد أعمالي المسرحية". وقبل مناقشة هذا القول، يجب علينا تدقيق النظر في عبارته (ذبح الإبداع على مقصلة النقد)؛ لأن هذه العبارة تعكس لنا مفهوم الجابر للنقد المسرحي، حيث إنه مقصلة لإعدام الإبداع نصاً وعرضاً. والذي يقرأ نقد الجابر بصفة عامة في كتاباته - بوصفه ناقداً مسرحياً قبل أن يكون مُبدعاً – يستدل على هذا المفهوم، لأنه ناقد ملتزم بقواعد النقد في شدتها ورصانتها وقسوتها! ومن النادر أن تجد في نقده مجاملة أو محاباة حتى لأقرب أصدقائه من المبدعين والكُتّاب والفنانين؛ ولكن هل مارس الناقد علاء الجابر هذه الشدة والرصانة والقسوة في نقده لأعماله الإبداعية المسرحية (نصاً وعرضاً)؟! هذا ما سنحاول كشفه في سياق البحث.

أما كون الجابر هو أول عاقل قام بذبح إبداعاته على مقصلة النقد – حسب قوله السابق – ويطلب منا تصحيح هذه المعلومة، فإنني أوافقه وأخالفه الرأي في آن واحد! أوافقه لأنه أول مبدع مسرحي يقوم بنقد إبداعاته المسرحية بصورة كاملة شاملة، دون أي ضغط أو طلب من الغير ليقوم بذلك، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها! وفي الوقت نفسه أخالفه؛ لأن هناك بعض الإرهاصات - لهذا النقد الذاتي - قام بها بعض النُقاد والمبدعين السابقين؛ ولكنهم قاموا بذلك بناءً على طلب آخرين، ولم تأتِ مبادرتهم هذه من تلقاء أنفسهم، ولم تُنشر في كتاب كامل متخصص؛ كما فعل الجابر في تجربته الفريدة هذه.

حدث هذا في فبراير 1954، عندما طرحت مجلة (الآداب) اللبنانية على بعض المبدعين والنقاد سؤالاً يقول: (ما رأيكم في مؤلفاتكم؟ إنه سؤال لا يخلو من إحراج؛ ولكننا نرجو ألا يحول ذلك دون الإجابة عنه). الطريف أن معظم من أجابوا أجمعوا على أن مؤلفاتهم ملك للقراء والنقاد وهم فقط الذين يحكمون عليها، ومنهم: الدكتور طه حسين، وسلامة موسى، ونازك الملائكة، وذو النون أيوب، والدكتور عمر فروخ، ومارون عبود؛ ولكنني سأتوقف عند (ميخائيل نعيمة)؛ لأنه تحدث عن مسرحيته (الآباء والبنون)، قائلاً: "أصدرتها كتاباً عام 1917، ونفذت طبعتها الأولى من زمان. فما فكرت في إعادة طبعها من غير أن أجري فيها الكثير من التحوير والتعديل، وخشيت إن أنا تناولتها اليوم بقلمي وفكري وذوقي أن تخرج من يدي". وهذا يعني أن ميخائيل نعيمة لم يرغب في إعادة طبعها مرة أخرى خشية تعديل مثالبها أو هناتها، وأيضاً رفض تناولها بالنقد خشية أن تخرج من بين يديه!! وهذا يعكس لنا شجاعة علاء الجابر، الذي اقتحم وحده مجالاً لم يجرؤ عليه كبار النقاد والمبدعين.

الجابر بين سلبياته وإيجابياته

مما سبق يتضح لنا أن علاء الجابر اقتحم مجال النقد الذاتي - بوصفه رائداً فيه – والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع الجابر أن يكون ناقداً لأعماله الإبداعية المسرحية .. أي أن يكون ناقداً لنفسه؛ ويصبح الناقد والمبدع في آن واحد؟! وكيف سيكون المحامي المدافع عن أعماله، وفي الوقت نفسه يكون القاضي الذي يحكم على هذه الأعمال؟! يقول الجابر – في مقدمة الكتاب – عن هذه الإشكالية: " هذا ما قمت به حين تصديت لمهمة نقد أعمالي المسرحية، على ما في ذلك من صعوبة في انتزاع ذاتي النقدية من جسدي ومحاسبة نفسي وكأنني أحاسب شخصاً غيري، فأضع العمل المسرحي في ميزان النقد وأكيل سيئاته وحسناته – إن كانت له حسنات – مركزاً على نقد النص والعرض".

وهذا القول يعني أن الجابر سيوجه اهتمامه نحو إظهار (السيئات/السلبيات) أكثر من اهتمامه بـ(الحسنات/الإيجابيات)؛ لأنه يعتقد عدم وجود حسنات في أعماله!! وفي السطور التالية، سنحاول أن نكتشف كيف طبق الجابر قوله هذا بصورة عملية؟! أي سنتوقف عند (سيئات/سلبيات) أعماله الإبداعية المسرحية – كما طرحها – وكذلك سنحاول الوقوف على (حسنات/إيجابيات) هذه الأعمال، التي تكاد لا تذكر بناءً على حكم صاحبها.

سلبيات الجابر

تُعد (سيئات/سلبيات) علاء الجابر – وفقاً لأقواله السابقة - المحور الرئيس، الذي سيبني عليه نقده الذاتي! أليست هذه السلبيات هي التي ستضع أعماله الإبداعية تحت شفرة المقصلة؟! وهذا يعني إنها سلبيات لا تُغتفر، وبسببها – وربما لكثرتها – قرر الجابر نقد أعماله؛ كنوع من التطهير؛ وكأنه يقوم بتخليص نفسه من وزرها! لذلك سنتتبع هذه السلبيات – كما ذكرها الجابر – ونحللها وفق المنطق النقدي، لنرى مصداقيته فيها، وسنحاول أن ندلي برأينا فيها من حيث قيمتها الفنية، وأثرها على العمل الإبداعي المسرحي، من أجل الوصول إلى قناعة بأن هذه السلبيات تستحق النقد الذاتي من صاحبها إلى مبدعها، وهو علاء الجابر الناقد والمبدع في آن واحد.

في مسرحية (سالي) يأتي حوار بين صاحب المدرسة والناظرة، مفاده أن الناظرة لا تفرق بين الطالبات؛ بينما صاحب المدرسة يفرق بينهن، وفقاً لثراء والدهن، ويختتم حواره مع الناظرة بقوله (ص6): "أنا عندي كل شيء بحسابه ... أنا ما تهمني البنت من تكون أنا يهمني شنو راح أستفيد من أبوها". وهذا القول يُعده علاء الجابر – مُعدّ النص – من سلبياته، قائلاً (ص41): "وأعتقد بأن المُعدّ لم يوفق بإضافة الجملتين الأخيرتين على لسان (سالم) فقد يكون (سالم) جشعاً بحق، ولكن ما الداعي لإصراره على إبراز جشعه أمام الناظرة، وكان يكفي أن يرد عليها بأن هذه أوامري (كصاحب المدرسة) ولابد من تنفيذها، دون أن يعلن عما يضمر".

هذه السلبية – من وجهة نظري – طفيفة جداً، ولا تُعدّ سلبية بالمعنى المفهوم، ولا تستحق من المُعدّ جلد نفسه بسببها؛ لأن رأيه هذا مردود عليه، وبمنطق مقبول! يتمثل في أن صاحب المدرسة أبرز جشعه أمام الناظرة؛ ليكون قانوناً لها، حتى لا تناقش هذا الأمر معه مرة أخرى؛ خصوصاً وأن هذا الأمر – ربما - سيتكرر كثيراً في المستقبل، طالما أن صاحب المدرسة جشع، وأن هذه المدرسة تستقبل غالباً أولاد الأثرياء! لذلك كشف صاحب المدرسة عما يضمره للناظرة؛ ليُحسم قضية أساسية في سياسة مدرسته حالياً ومستقبلاً.

أما السلبية الثانية – في مسرحية سالي أيضاً – فذكرها الجابر تحت عنوان (تناقض غير مبرر)؛ حيث لاحظ أن والد سالي الثري يستخدم الطائرة في تنقلاته، ورغم ذلك يتواصل مع ابنته عن طريق الرسائل، ولا يتواصل معها عن طريق الهاتف!! قائلاً (ص42): " وهنا يقع المُعدّ في خطأ، فمدام والد (سالي) يستخدم الطائرة في تنقله فمن الطبيعي أن يصاحب الأمر وجود هاتف. وبالتالي ما الذي دعاه لاستخدام الطائرة وسيلة للانتقال وعدم استخدام الهاتف وسيلة للاتصال؟! الأمر غير مقنع إلا إذا كانت المدرسة ترفض تواصل أولياء الأمور مع بناتهن هاتفياً وهذا ما لم يظهره النص".

هذه السلبية – من وجهة نظري – لا تُمثل إشكالية كبيرة في سياق العمل الدرامي، ولا تحتاج إلى تبرير في النص؛ لأن الطفل المشاهد لن يهتم بوسيلة الاتصال، المهم عنده الاتصال نفسه هل حدث بين الأب وابنته أم لم يحدث؟! وفي ظني إن هذه السلبية – وغيرها كما سنرى – محاولة من الجابر إقناع نفسه بأن في أعماله سلبيات، كان يجب عليه أن يتجنبها؛ لذلك قرر جلد ذاته أمامنا، تطهيراً له من عواقبها!

والدليل على ذلك بقية سلبياته في مسرحية (سالي) كما ذكرها، ومنها سخريته من دخول خادمة المدرسة وبيدها جردل ومكنسة، قائلاً (ص46): "ما هذا المكان الراقي الذي مازال يتعامل بالمكنسة اليدوية رغم أن العصر عصر الطائرات، بل أن مكانس التنظيف (الهوفر) قد تم اختراعها بوقت سابق على اختراع الطائرات ذاتها!"، وقد نسى الجابر أنه صوّر صاحب المدرسة بالتاجر الجشع، وهذا يعني أن البُخل من طبيعته الجشعة من أجل التوفير! وهذا يُفسر استخدام الجردل والمكنسة اليدوية في التنظيف، بدلاً من المكنسة الكهربائية غالية الثمن!!

كذلك تعليقه على دخول الخادمة ونظرتها إلى طعام سالي بحسرة، قائلاً (ص46): "هنا مفارقة أخرى، فقد عرفنا صاحب المدرسة طماعاً لكننا لم نعرفه بخيلاً إلى هذه الدرجة، فهل يُعقل أن يمنع الطعام عن خادمة المدرسة الوحيدة ويجعلها تتحسر بهذه الصورة .. أية مدرسة راقية تعامل خدامها بهذا الشكل! لو انتبه المعد لتلك الهفوة .... لكفى نفسه وكفانا شر ذلك التناقض وتلك السخرية؟!! فمثل هذه الأخطاء التي تبدو صغيرة قد تؤدي إلى تشويه أو تمزيق النسيج الدرامي للعمل المسرحي ككل؟!". وهذا الكلام فيه تضخيم لهذه السلبية، التي تُعد من وجهة نظري إيجابية جداً في سياق مضمون العمل! فصاحب المدرسة – كما وصفه الجابر – بخيل وجشع وتاجر، وهذا يعني أن الطعام الذي يقدمه إلى الخادمة، لابد أن يكون رديئاً رخيصاً لا يُشبعها؛ ولكن الجابر نسى أن الخادمة عندما نظرت إلى الطعام بحسرة، فإنها نظرت إلى طعام (سالي) ابنة الثري، أي أنها نظرت إلى طعام من نوع خاص لم تتذوقه من قبل، وبالتالي فإن نظرتها المتحسرة - مُبررة وموظفة بصورة جيدة - لهذا الطعام غير المألوف أو المعروف بالنسبة لها.

آخر سلبية للجابر في مسرحية سالي، جاءت في موقف اندماج الطالبات باللعب والرقص والغناء احتفالاً بسالي؛ ثم نفاجأ بدخول الناظرة المكان وهي متضايقة، مشيرة إلى الطالبات بالتوقف عن استكمال الاحتفال والطلب من كل واحدة منهن العودة إلى غرفتها، ثم تجلس وحيدة تخاطب نفسها: والله ما تستاهل هالبنت الطيبة يصير لها كل هذا!!، وهنا يُعلق الجابر قائلاً (ص49): " لا أدري لماذا أقحم المُعدّ هذه الإشارة على لسان الناظرة، رغم أن الأحداث القادمة ستعلن عنها. وهو (المُعدّ) بفعلته هذه كسر عنصر المفاجأة الذي سنتعرف عليه بعد قليل".

وهذا القول من قبل الجابر، الذي يُعدّه نقداً ذاتياً من أجل جلد الذات، أعدّه أنا تشويقاً للأمر الذي سيتم كشفه فيما بعد. فالناظرة هنا تعلم شيئاً لم تُفصح عنه، وهذا الأمر سنتعرف عليه فيما بعد، وهو أن والد سالي الثري قد مات. والجابر هنا يعتقد بأن الناظرة أفشت هذا الأمر، أو كسرت عنصر المفاجأة، وأنا أعتقد بأنها زادت من تشويق الجمهور المتعاطف مع سالي السعيدة ابنة الثري، وبقول الناظرة (والله ما تستاهل هالبنت الطيبة يصير لها كل هذا)، جعلت الجمهور يتساءل: ما الذي يمكن أن يحدث لهذه الطالبة السعيدة ابنة الثري الكبير؟! أي أن ما عدّه الجابر سلبية، من الممكن النظر إليه بوصفه شيئاً إيجابياً. وهكذا لم يقنعنا الجابر بجميع سلبياته، التي رصدها في مسرحيته (سالي)، وهذه السلبيات أو الهنات لا تستحق منه أن يجلد ذاته، وأن يُطهر نفسه من عواقبها كما ذكر في مقدمة كتابه.

في مسرحية (علاء الدين 92)، ذكر الجابر سلبية واحدة تتعلق بالتأليف، قائلاً (ص107): "أمر مقنع أن يتحول العفريت من حالة إلى حالة معاكسة تناقضها تماماً بعد كل ما حدث له من نكسات، وكنت أتمنى أن يتوقف المؤلف عند هذه الخاتمة الرائعة، ليسدل الستار على العرض، لكن عقلية تركيب الذيل التي تسيطر غالباً على معظم المؤلفين مرت على مؤلفنا هنا – حتى لو غفرنا له هذا الخطأ كون هذا العمل هو الثاني له في سلم التأليف – المهم أن المؤلف أضاف ذيلاً يجعل الوزير والمنجم يتبعان العفريت ويطلبان منه التوقف للذهاب معهما، وحين يتساءل العفريت عما يريدان منه يجيبان سوية: نبي نروح المدرسة معاك. صحيح أن الذيل هنا قصير وسريع لكنه موجود، واعتراضنا عليه أنه لا يتناسب وسياق الشخوص، فالوزير والمنجم شخصان يؤمنان بدور السحر وأجواء الخرافة، كما أن شخصية الوزير شخصية ظالمة منافقة محتالة، وشخصية بمثل هذه الصفات يصعب عليها التغير في لحظة واحدة، والانقلاب من حالة إلى حالة معاكسة لها تماماً، فالتغيير هنا لم يكن منطقياً إطلاقاً بل جاء ساذجاً .. هشاً .. ضعيفاً".

ورغم أننا نوافق الجابر في طرحه هذا، إلا أن هناك وجهة نظر مخالفة، تُبرر هذا الذيل – المرفوض من قبل الناقد - تتمثل في أن المسرحية تُقدم للأطفال، ومن غير المقبول أن تنتهي المسرحية وتظل الشخصيات الشريرة على شرها، فإما أن تنال عقابها أو تُغير من حالها إلى الأحسن، وهذا ما فعله المؤلف في هذا الذيل. هذا بالإضافة إلى أن التغيير الذي جاء بصورة غير منطقية، وجاء ساذجاً وهشاً وضعيفاً، فهذا الوصف لا يدركه الطفل، بل يدركه الشخص الكبير أو الناقد، وطالما المسرحية مُقدمة لجمهور الأطفال، فربما يكون التغيير غير المنطقي منطقياً عند الأطفال، والصورة الساذجة والهشة والضعيفة، ربما تكون لدى الطفل مقبولة ومتينة وقوية، تبعاً لإدراك الطفل في سن الطفولة.

وإذا نظرنا إلى سلبية الجابر في مسرحية (نعنوعة)، نجده يقول عنها (ص139): "في المشهد الذي يدخل فيه الحمار (حمّير) مندفعاً إلى المكان، يشير المؤلف إلى أنه يعاني من التعب بسبب (الصبيان) مردداً (ما يرحموني أبد .. في نهاري وليلي، وروّني كل التعب .. وطاح كل حيلي .. وإن قلت أنا بشتكي .. يا ويلي يا ويلي)، وهي إشارة ضمنية لتعبه دون أن نعرف بالضبط ما هو مصدر التعب وعدم الرحمة؟ هل يقوم الصبيان بضربه أم تحميله بالأثقال بشكل متواصل؟ هنا كان من الضروري على المؤلف الإشارة إلى مصدر التعب".

هذه السلبية مردود عليها؛ لأن المسرحية – كما حدد المؤلف – مُقدمة للأطفال من سن الخامسة إلى التاسعة، ومن العسير جداً أن نجد طفلاً في هذه السن لا يعرف عمل الحمار، وكيف يستخدمه الإنسان! بل ومن الصعب إيجاد طفل لا يتعرف على صورة الحمار وعمله، فكفى وجود هذه الصورة في الأفلام والأغاني، وما أكثرها في مخيلة الأطفال.

وكعهدنا بالجابر في رصده لسلبياته، نجده يجهد نفسه في اقتفاء أثر هذه السلبيات في مسرحيته (بونوكيو)، وهي سلبيات – ربما – لا توجد إلا في مخيلة الجابر نفسه، ومنها قول بونوكيو (ما أحب المدرسة .. ولا أحب أتعلم)، فيعلق الجابر قائلاً (ص200): "هنا يقع المُعدّ في خطأ غير منطقي فكيف تأتى لبونوكيو المصنوع من الخشب، والذي يُفترض فيه أنه جاء حديثاً إلى الحياة أن يعرف ماهية المدرسة؟! ووظيفتها". وعندما يقول بونوكيو: (هذه الثياب مو حلوة! أبي ثياب لما ألبسها أصير محترم)، يعلق الجابر قائلاً (ص202): "إن جملة (أصير محترم) لا تتسق مع شخص مثل (بونوكيو) مازال طفلاً لا يعرف كثيراً من الأشياء الملموسة فما بالك بالأشياء المحسوسة مثل الاحترام". وعندما يغني بونوكيو للأم، يُعلق الجابر قائلاً (ص212): "من أين يعرف بونوكيو الأراجوز الخشبي الساذج أن حب الأم بهذه الصورة .. وبهذه القيمة والسمو مادام لم يجربه".

وهنا نسأل الجابر: أليس بونوكيو هو بطل المسرحية؟! أي إنه يحمل كل المعاني والمضامين التي يُريد الكاتب إيصالها إلى جمهور الأطفال، فما الفرق بين ظهور بونوكيو كأراجوز خشبي، أو ظهوره كطفل من دم ولحم؟! أليس المقصود هو إيصال الفكرة إلى جمهور الأطفال؟! والطفل يهوى استقبال المضامين والأفكار من العرائس والألعاب والشخصيات الكرتونية .. إلخ، فهل بونوكيو الخشبي يختلف عن هذه الوسائل المحببة إلى الأطفال؟! وهل الأسئلة التي طرحها الجابر، من الممكن أن يطرحها الطفل المتفرج؟! من الواضح أن الجابر يختلق سلبيات غير موجودة في العمل بالصورة الصارخة التي يحاول إيهامنا بها، أو أنه يُضخم من بعض الهفوات والهنات، ويجعلها سلبيات كبرى، لا حل لها إلا بجلد الذات!!

ومن هذا المنطلق تمثلت سلبيات الجابر – كما رصدها بنفسه – في مسرحيته (أليس في بلاد العجائب) في بعض الجمل والعبارات، التي يتصور أنها فوق إدراك الطفل، مثل: (الجنون فنون، والظلام يطول، وفي حزني تقاسمني همومي، والجدران لها آذان). وربما أتفق مع الجابر في اعتقاده هذا؛ ولكن من الممكن أيضاً أن أختلف معه، وأقول إن هذه العبارات ربما يفهمها الطفل، أو أن الطفل يستطيع تبين معناها في سياق العبارة الكاملة، ومن خلال حوار الشخصيات، وبهذا تكون هذه العبارات - عالية الفهم عند الطفل - أسلوباً تعليمياً لتنشيط قدرته على فهم دلالات الكلمات والعبارات! أي أن السلبية هنا تُصبح إيجابية. ولو قام الجابر – أو أي باحث آخر – بتوزيع استبيانات على جمهور الأطفال أثناء العرض، ووضع ضمن أسئلة الاستبيان مدى معرفة الطفل بهذه الجُمل أو العبارات، ربما كان سيُدهش من النتائج! وهذا الأمر تكرر أيضاً في سلبيات مسرحية (كونان في أرض البوكيمون)، عندما علق الجابر على عبارة وردت في النص هكذا (هل تصدقون يا أصحابي هذا الهراء؟!)، فقال الجابر معلقاً (ص333): " إن مفردة (الهراء) قد تكون غير مفهومة لجمهور الأطفال؟".

هذه هي أغلب سلبيات علاء الجابر، بوصفه مُؤلفاً ومُعدّاً مسرحياً، وهي سلبيات كما لاحظنا لم تكن سلبيات كبيرة، بل كانت هنات طفيفة، لا يلحظها أغلب النقاد أو القُراء أو الجمهور من الأطفال – وربما تكون أغلب هذه السلبيات إيجابيات من وجهة نظر أخرى، لم يطرحها الجابر - وكأن الجابر كناقد مسرحي، تعمد استخراجها وتضخيمها؛ حتى يقنعنا بأنه نقد ذاته أو جلدها، ووضع أعماله تحت مقصلة النقد الذاتي، وهذه النتيجة تتعارض مع قول الجابر في مقدمة كتابه: " كل ما أرجوه أن أكون قد وفقت في عملي هذا، كطرف محايد اقتص لنفسه من نفسه، وواجهها دون محاباة أو مجاملة".

إيجابيات الجابر:

ذكرنا فيما سبق إن علاء الجابر، قد حدد منهجه في النقد الذاتي، عندما قال في مقدمة كتابه: سأضع "العمل المسرحي في ميزان النقد وأكيل سيئاته وحسناته – إن كانت له حسنات – مركزاً على نقد النص والعرض"، وعلقنا على ذلك أنه سيتوقف كثيراً عند السيئات لكثرتها، وربما سيمسُّ حسناته مسّاً خفيفاً لقلتها، أو لعدم وجودها!! وعندما تعرضنا إلى السلبيات، لاحظنا عدم وجودها بالصورة المتضخمة التي أشار إليها في منهجه هذا!! فهل سنجد لأعماله هذه بعض الحسنات، التي أشار إليها بأنها قليلة، وربما لا توجد!! سنرى ..!!

في مسرحية (سالي)، كان علاء الجابر: المُعدّ، ومؤلف الأغاني، ومُصمم الأزياء، وأحد المنتجين. ومن إيجابياته في الإعداد قوله (ص38): "استعنت بحكاية النص الأصلي بالطبع ولكنني أجريت عليها بعض التعديلات كي تتناسب وطبيعة المسرح حيث تم تحويل المادة السردية إلى أخرى درامية، فحذفت بعض الشخصيات وأضفت شخصيات أخرى، كما اختصرت وألغيت بعض أجزاء الحكاية، وأبدلت في نمط سلوك بعض الشخصيات لتوائم القيم السلوكية التي ننشد الوصول إليها من خلال مسرح الطفل".

ومن أمثلة ذلك قيامه بتحويل الناظرة الشريرة في أصل القصة البريطانية إلى النقيض، إيماناً منه بالدور التربوي، حيث جعلها (ص40) "إنسانة تربوية حنونة طيبة لا تنساق وراء المصلحة المادية ولا تفرق بين الطالبات، وهذا هو النمط الذي ننشده في منطقتنا العربية". كما جعل (سالي) تنقل لجمهور الأطفال (ص45) "صورة رائعة لأسلوب التعامل الراقي بين الأصدقاء"، كما جعلها أيضاً (ص47) "لا تتوانى عن إيصال رسالة مهمة لجمهور الأطفال ضمنياً حول أهمية النظافة دون أن تطرح الأمر بخطابية أو بشكل مباشر". وأخيراً عالج المُعدّ سلوكاً مرفوضاً عند الأطفال، وهو البكاء عندما يقعون في مشكلة، وذلك من خلال (سالي) في تأكيد " أن البكاء لا يحل المشاكل ولابد للإنسان أن يحاول التغلب على مشاكله بطرق أخرى ..... ويؤكد المعد [كذلك] على قيمة الوفاء وأن من يزرع الخير يحصده أيضاً خلافاً للمثل السائد (اتق شر من أحسنت إليه)؛ بل يُطبق (المُعدّ) مثله الخاص به (انتظر خيراً ممن أحسنت إليه)" (ص52). وهذا يعني أن الجابر نجح في إعداد هذه المسرحية، بدليل هذه الإيجابيات في عنصر الإعداد فقط!

أما إيجابيات الجابر في هذه المسرحية، بوصفه مؤلفاً لأغانيها، فقد تمثلت في: أغنية (A.B.C.D)، التي "جاءت منسجمة مع الأحداث وجزءاً منها، كما شكلت رسالة لتعليم بعض المفردات الإنجليزية لجمهور الأطفال بشكل غير مباشر" (ص43). وعندما يطلب مدرس اللغة الإنجليزية من سالي ذكر أيام الأسبوع، "يلتقط (المعد/مؤلف الأغاني) الخيط ويحول جوابها إلى أغنية خليط بين العربي والإنجليزي مستفيداً من التراث الفلكلوري الكويتي" (ص51). وأخيراً نجد كلمات أغنية سالي عندما تتذكر والدها، متكورة من البرد، قد "جمع فيها المؤلف بين الشعور بالبرد وبين الشعور بفقد الوالد حيث الدفء والحنان" (ص53). وبناءً على هذه المعاني، نقرّ بأن الجابر نجح في هذه المسرحية بوصفه مؤلفاً للأغاني.

لم يبق من إيجابيات الجابر – في هذه المسرحية – إلا النظر إليه بوصفه مُصمماً لأزيائها، حيث اختار " اللون الأزرق الفاتح مطعماً بالأبيض لوناً لملابس الطالبات، وبدا واضحاً أن اختيار تلك اللونيات جاء مناسباً للأنوثة الطاغية على مدرسة داخلية للبنات فقط" (ص39)، كما وفق في اختيار ألوان ملابس (سالم) فهي "خليط بين الأسود والبني والرصاصي، وكلها ألوان ثقيلة، كئيبة، تلقي مزيداً من الغموض على شخصها، وهو غموض يتواءم مع شخصية (سالم) المنافقة المتلونة. أما الناظرة، فقد عكس لون فستانها المخملي الأرجواني المستوى الاجتماعي الذي تنحدر منه، وهو بالضرورة مستوى عالٍ يتلاءم مع وظيفة محترمة في مدرسة راقية" (ص42)، وأخيراً نجد الجابر يتحدث عن مدرس اللغة الإنجليزية قائلاً (ص43): "وبدا كشخصية متفتحة ذكية عكست أزياؤها – التي تشكلت بين الأخضر والأصفر – روحها المرحة".

وهكذا نجد الجابر يُحصي إيجابيات عمله في مسرحية (سالي) .. مُعدّاً، ومؤلفاً للأغاني، ومُصمماً لأزيائها بصورة دقيقة، تؤكد أن عمله كان ناجحاً بكل المقاييس! ولا مجال للمقارنة بين سلبيات الجابر الطفيفة، وبين إيجابياته الملموسة كماً وكيفاً! وهنا يطرح السؤال نفسه: هل النقد الذاتي لمسرحية (سالي)، كان هدفه جلد الذات عن طريق مسّ سلبيات لا تُذكر، أم لتأكيد إيجابيات الجابر الملموسة في هذه المسرحية؟!

وإذا انتقلنا إلى مسرحية (علاء الدين 92)، سنجد الجابر ينظر إليها بوصفها أقلّ أعماله الإبداعية قيمة لأسباب خارجة عن إرادته – سنتحدث عنها لاحقاً – ورغم ذلك نجده يتحدث عن نجاحه فيها كمؤلف، قائلاً (ص90): "يدور النص الدرامي في مستويين يلعب فيهما الزمان دوراً كبيراً في صياغة الفضاء المكاني للعرض، وينقسم بين زمنين: زمن الخطاب الحالي حيث يقع الفعل الدرامي فيه في الحاضر (الزمن الفعلي)، وزمن يقع في الماضي (الزمن التخيلي)، وتتولد الأحداث الدرامية من تواتر هذين الزمنين .. إلخ". كما أشاد بعمله في صياغة حوار هذه المسرحية، الذي أكدّ فيه على "عدم الاعتراف بقدرات السحر وضعف حيلته أمام إنجازات العقل البشري الجبار ..... إننا أمام إعجاز بشري يتضاءل فيه السحر ويصبح بلا حول ولا قوة، وهذا ما أراد العمل أن يوصله للأطفال" (ص103). كذلك أشاد الجابر – بوصفه مؤلفاً لأغاني المسرحية – بأغنية المكتبة " التي جاءت كلماتها منسجمة تماماً مع الهدف الذي أراده المؤلف في الدعوة إلى القراءة وحب الكتب" (ص102).

وبالأسلوب نفسه يُشيد الجابر بإيجابياته في مسرحية (نعنوعة)، التي قدمت " عدداً من الرسائل غير المباشرة للأطفال، منها: الاستماع، والإنصات للآخر، ومساعدة المحتاج، وعدم الاستهزاء به، ومحاولة إصلاح عيوبه دون الإشارة إليها، وعدم السخرية من عيوب الآخرين، وتقديم قيمة حب الوطن دون مباشرة أو خطابية". كما أبان الجابر عند معالجته لفكرة الصداقة من أجل إيصال "رسالة إلى الأطفال تدعو إلى اعتبار الصداقة علاقة فيها مصلحة الطرفين لا مصلحتنا نحن دون الآخر"، كما أنه " لم يطرح مفهوم الصداقة بالإجبار بل بالرغبة المشتركة ..... فالصداقة أمر اختياري لا يتأتى بالفرض أو الإجبار بل بالتوافق والاختيار". هذا بالإضافة إلى مشهده الإنساني "المكتوب بعناية وبطريقة غير مباشرة تُظهر مدى حب الآباء لأطفالهم وتضحيتهم من أجلهم". ولم ينس الجابر الإشادة بأغانيه، لا سيما أغنية (يا سلام يا سلام) – في مسرحية بونوكيو - فهي " أغنية جاءت معبرة عن الحدث بشكل دقيق" (ص138 – 209).

وبهذا المنهج في تناول الإيجابيات، يستمر الجابر في رصد إيجابياته: كمؤلف، ومُعدّ، ومؤلف للأغاني، ومُصمم للأزياء، وكمشارك في الإنتاج لأغلب مسرحياته التي جاءت في كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن)! وهذه الإيجابيات فاقت السلبيات التي اجتهد في إقناعنا بوجودها! وهذا يعني أنه لم يقصد محاسبة ذاته على سلبياته، بل الإشادة بإيجابياته في هذه المسرحيات! ولكن هذه النتيجة تتعارض كلية مع طبيعة الجابر الفنية والنقدية والإنسانية، فهو إنسان مثال التواضع والأخلاق الحميدة، وناقد حُرّ نقي القلم، لا يحب الاستعراض، أو الظهور، أو الشهرة! بل أنني تعجبت من ظهور إنتاجه المسرحي هذا، عندما خرج في كتاب، حيث إنني لم أكن أتصور أن إنتاجه المسرحي بهذا الكم الكبير، والكيف الرصين، والمضمون الهادف! إذن هناك سبب آخر دفعه إلى نقد أعماله المسرحية ذاتياً! ومن المؤكد أن هذا السبب، يستحق من الجابر وضع أعماله المسرحية تحت رحمة أو عقاب مقصلة النقد الذاتي!!

الجابر .. المُتهم البريء

السبب الحقيقي – من وجهة نظري – الذي دفع الجابر لكتابة كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن)، والذي جعله يقتحم مجال النقد الذاتي، ويضع أعماله المسرحية في أتون نار النقد الذاتي، ومحاسبتها حساباً عسيراً، هو حصوله على حُكم البراءة لنصوص مسرحياته من جميع التُهم، التي من الممكن أن توجه إليها، أو لكاتبها علاء الجابر!! وبمعنى أوضح: أن علاء الجابر أراد من وراء كتابه هذا، أن يدفع عن أعماله المسرحية أية تُهمة من الممكن أن تكون وُجهت إليها، أو من الممكن أن تُوجه إليها مستقبلاً!!

والسؤال الآن: ما هي التُهم، التي وجهها النُقاد إلى هذه الأعمال؟! وما هي التُهم التي من الممكن أن تُوجه إلى هذه الأعمال مستقبلاً؟! الإجابة تتمثل في جملة واحدة: (لا تُوجد أية تُهم)!! وبناءً على ذلك نتساءل: لماذا بادر الجابر بالدفاع عن أعماله، ضد تهمٍ لم توجه إليها، ولن توجه إليها؟! الإجابة تتمثل في الآتي: إن علاء الجابر ناقد مسرحي قبل أن يكون مبدعاً مسرحياً، ولهذا السبب أراد أن يقوم بعمله كناقد مسرحي بالنسبة لنصوصه، وعروضها على خشبة المسرح! فمن غير المعقول أن ينقد الجابر أعمال الغير، ولا ينقد أعماله هو! وعندما نظر فيما حوله لم يجد تجربة مماثلة، فأراد أن يقتحم مجالاً نقدياً جديداً بجرأة شديدة، وما أكثر جرأة الجابر، وما أكثر اقتحامه المخاطر في حياته الفنية!

نصل هنا إلى نقطة خطيرة! فالجابر عندما نظر إلى أعماله نظرة الناقد – كما عُرضت على خشبة المسرح - وجد بها خروقات كثيرة، وسلبيات أكثر، وعندما دقق النظر في هذه الأمور، لم يجد لها أسباباً تخصه، بل أن أغلب تبعاتها تقع على عاتق الآخرين! وعندما تفحص هذه التبعات بعين الناقد الفني، وجد أن من اليسير على أي ناقد آخر - أو مشاهد عادي لأعماله - أن يلصقها به، ويوجه إليه سهام النقد والتجريح – بوصفه كاتب النصوص، أي واضح الأساس - لذلك بادر بنقد هذه الأعمال ذاتياً، حتى يُشير بأصابع الاتهام إلى أصحابها الحقيقيين، ويدفع عن نفسه أية تُهمة من الممكن أن تُوجه إليه، أو إلى دوره في هذه الأعمال؛ ولهذا السبب أطلق الجابر على كتابه عنوان (مسرحياتي كما أراها الآن)، ولم يقل: (نصوص مسرحياتي كما أراها الآن)!!

وبناءً على ما سبق، أستطيع أن أقول: إن مسرحية (علاء الدين 92)، كانت السبب المباشر، الذي دفع الجابر لنقد أعماله ذاتياً؛ بسبب ما قام به الآخرون من تشويه للنص! يقول الجابر (ص89): " من يقرأ النص الدرامي لعلاء الدين 92، ثم يشاهد العرض المسرحي الذي قُدّم في 3/4/1992، وعُرض 48 عرضاً، سيشعر دون جهد بأن هناك فرقاً كبيراً بينهما، لا يتعلق الأمر هنا بفروقات في المضمون، ولا بالتفسير فقط، لكن الأمر تجاوزه إلى شيء آخر في غاية الأهمية، يتجلى في تحميل النص أفكاراً ورؤى تتعارض تماماً مع توجهات مؤلف النص وتشوهها".

وتجاوزات الآخرين – المُشار إليها – تمثلت في ظهور المطرب (عادل الرويشد) – في أغنيتي الافتتاح والختام – بوصفه مُطرباً يُمثل شخصيته الغنائية، وذاته الفنية، لا بوصفه عُنصراً في النسيج الدرامي! وكان ظهوره بملابس كويتية معاصرة، رغم أن الاستعراضيين من حوله يرتدون الملابس التراثية المناسبة لموضوع المسرحية، وهذا أمر مرفوض وأتفق فيه مع الجابر! كذلك قام المخرج بتصميم الرقصات بصورة أوروبية حديثة، لا علاقة لها بزمن النص!! ويُعلق الجابر بوصفه ناقداً - على ذلك – قائلاً (ص92): " نحن هنا أمام ضبابية في الرؤى والمنهج والتنفيذ ". ولم تتوقف خروقات المخرج عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى إضافة مشهد لا نصّ له، ووضع شخصيات لا وجود فعلي لها على خشبة المسرح! وهذه كلها أمور أصابت النص في مقتل، مما دفع الجابر للثورة على معاونيه في العملية المسرحية، وهي ثورة مشروعة حفاظاً على قيم مسرح الطفل وقواعده!

أما الفنان (داوود حسين)، فكان سبباً مباشراً في عدم إيصال أغلب أفكار المؤلف وأهدافه التربوية إلى جمهور الأطفال! حيث إنه تلاعب بالنص والعرض منذ أن وطأت قدماه خشبة المسرح! كذلك حديثه المباشر مع جمهور الأطفال في الصالة، مما أدى إلى كسر الإيهام المسرحي، ناهيك عن تعليقاته المستمرة – طوال العرض – وهي " تعليقات لا تتفق ولا تتسق مع أساليب التربية والقيم السلوكية الذي نريدها للأطفال" (ص94)، ونحن نشد على يد الجابر في هذا الأمر، ونحثه على عدم التهاون مع زملائه في هذا الخصوص.

وبمرارة شديدة، وتحت عنوان (أشعر بالخجل من هذا المشهد)، يروي الجابر ما قام به الآخرون، من إفساد لبعض أهدافه التربوية والفنية في هذه المسرحية، حيث قام المخرج أو الممثل – أو كلاهما – بإضافة مشهد غير موجود في النص، تمّ فيه إقحام الوضع السياسي السائد في تلك الفترة – بعد غزو العراق للكويت من حيث الاستهزاء من بعض الجنسيات العربية - فجاء على حساب المضمون، ومخالفاً للقيم السلوكية الأخلاقية، التي نحاول بثها في نفوس أطفالنا. ويعلق الجابر على هذا المشهد قائلاً (ص96): "إنني – ولغاية هذا اليوم ورغم مرور أكثر من (12) عاماً على عرض المسرحية – أجدني أشعر بالخجل والألم من هذا المشهد، وأتمنى – لو كان الأمر باستطاعتي – لمحوته من كل أشرطة الفيديو الموجود عليها، فهو يسيء للعمل ولي، حيث يعتقد من يشاهد العمل أنه من تأليفي مع أنني لم أكتب منه حرفاً واحداً".

وهذه المرارة المبررة للجابر، تُقابلها نظرة أخرى مُضادة – رغم كونها تجارية بحتة، وتُعد نوعاً من الصيد في الماء العكر - تقول: إن من حق المُنتج، أو المُخرج، أو الممثل، أو جميعهم استغلال بعض الظروف والأحداث؛ جذباً للجماهير، واستدراراً لعواطفهم، لا سيما في مسرح (القطاع الخاص) أي (المسرح التجاري)! ومسرح الطفل في الكويت – للأسف الشديد – لا يُقدم إلا من خلال هذا القطاع التجاري!!

من الواضح أن الفنان (داوود حسين) أصاب الجابر في مقتل، بسبب نجوميته الطاغية، التي منحته حق التلاعب بنص مسرحية (علاء الدين 92) – كما مرّ بنا – فأراد الجابر الاستفادة من هذه التجربة القاسية، فقرّر كتابة مسرحيته التالية (نعنوعة) بصورة غنائية كاملة، حتى يجبر الممثل على الالتزام بالنص، مهما كانت نجوميته، ولكن هيهات!! فالممثل (هاني مطر) في نعنوعة غيّر كلمة واحدة فقط - فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير - فعلق الجابر على ذلك بكلمات غاضبة ثائرة – وكأن الممثل ارتكب جريمة لا تُغتفر - قال فيها (ص138): " ومن خلال هذا الخطأ يتضح لنا ما نشير له دائماً ويغيظنا أحياناً، والذي يتمثل بتدخل الممثل في النص الدرامي، خاصة في النص الموجه للأطفال، حيث غالباً ما يرتجل بعض الممثلين كلمة أو جملة دون أن يعوا وظيفتها أو تأثيرها على العمل!!".

والملاحظ أن تعليق الجابر – شديد اللهجة - على تصرف الممثل لا يتناسب مع عمله في تغيير كلمة واحدة فقط! وهذه الكلمة هي (حجيّة)، وهي كلمة عامية كويتية، تعني المرأة التي أدت فريضة الحج! وسبب غضب الجابر عدم اقتناعة بأن (البطة) يُمكن أن نطلق عليها (حجية)؛ لأن "عملية شخصنة الحيوانات عملية درامية لا تعني أنسنة الشخوص الحيوانية". وهذا الرأي أتفق فيه مع الجابر تماماً؛ ولكن اعتراضي على أسلوب نقده في رفضه لأنسنة البطة، الذي جاء قاسياً ثائراً ضد الممثل – بصورة مبالغة - خصوصاً وأن هذا الفعل لا يُعدّ شيئاً أمام ما قام به داوود حسين من قبل! ومن ينظر إلى موقف الجابر من هذين الممثليّن، سيظن أن الجابر أراد عقاب داوود حسين في صورة هاني مطر! وهذا العقاب جاء من حيث الكيف لا من حيث الكم! فهاني مطر نال سطراً واحداً من الجابر كان أقوى تأثيراً، من الصفحات التي نالها داوود حسين!!

وفي المجمل، نستطيع تحديد خروقات الآخرين في مسرحية (نعنوعة)، بعدم التزام الممثل (جاسم عباس) بالنص حواراً، وبالعرض أداءً! وعدم توجيه المخرج للممثلين بصورة تؤكد أهداف المشاهد التربوية كما أرادها الكاتب، وعدم إدراكه لبعض بؤر المشاهد من الناحية البصرية، مما أدى إلى تشتيت انتباه جمهور الأطفال، ناهيك عن عدم اهتمام الممثلين بدقة حركاتهم، وعدم توظيف الإضاءة مما أدى إلى عدم وضوح بعض المشاهد بالصورة التي توخاها الكاتب. وهذه الخروقات كان الجابر مُحقاً فيها جميعاً.

وفي مسرحية (بونوكيو)، أحال الجابر تشويه عمله وأهدافه الفنية والتربوية – الموجودة في النص - إلى المخرج والممثلين. فبالنسبة للمخرج عاب عليه تلاعبه بالنص، وناقش في نقده قضية مدى أحقية المخرج في تغيير نص المؤلف أو التلاعب به! ومدى تأثير هذا التلاعب على الأهداف التربوية والفنية التي أراد المؤلف إظهارها في نصه؟! والغريب أن الجابر كناقد لم يمسّ – في هذا المقام - قاعدة النص الموازي للنص المكتوب، أي رؤية المخرج للنص! خصوصاً ونحن نتعامل مع (المسرح التجاري)، أي أن هدف العرض أولاً وأخيراً هو (كسب المال)، ثم تأتي بعد ذلك قيمة الأهداف التربوية!! والأغرب أن الجابر لم يُفسر أسباب حدوث هذه الخروقات، ولم يُحدد توقيت حدوثها! بمعنى: هل حدثت في البروفات؟! وهذا يعني أنه وافق عليها قبل عرضها! أم حدثت فجأة في العرض؟! وماذا كان موقفه؟! هل صمت؟! ولماذا؟ ... إلخ

وبالعودة إلى ما نحن بصدده، نجد الجابر بدأ يتتبع أخطاء المخرج، وعدم التزامه بأفكار النص وأهدافه، قائلاً (ص205): "لكن المخرج يُلقي ذلك الافتراض في سلة مهملاته التي ستمتلأ بالأخطاء فيما بعد"، دليلاً على أن الإخراج كان السبب الأكبر في ضياع أفكار النص؛ كما أرادها الجابر. ومثال على ذلك كذبة بونوكيو الأولى، التي من نتيجتها أن يطول أنفه – كما جاء في النص – يُبدلها المخرج بشيء آخر، فيعلق الجابر على ذلك – بكلمات قاسية - قائلاً: " وبالتالي فإن العظة التي حاولت الحكاية إيصالها والمتمثلة بأن من يكذب يُعاقب تمّ سحقها من قبل مخرج لا يعي قيمة أدواته، ولا يعرف حدود المساحة بين ما يجب عليه الالتزام به وما يمكن التصرف به بحرية " (ص205). وعندما قام المخرج باستبدال أشخاص بآخرين – مخالفاً بذلك النص – علق الجابر قائلاً: "لكن المخرج يرتأى – وما أكثر رؤاه الخاطئة " (ص208)، ومنها أن جعل أم بونوكيو أصغر سناً من ابنها، دون استخدام المكياج! واستبدل شخصية الطبيب كقدوة لبونوكيو – كما جاءت في النص – بفنان ظهر كقدوة سيئة لبونوكيو وللأطفال، فعلق الجابر قائلاً (ص214): " ما ضايقني كم السخرية والميوعة والهزء والتلاعب بالألفاظ الذي أظهره الفنان .... وهل يمكن أن تكون مثل هذه الشخصية قدوة لبونوكيو ولجمهور الأطفال؟!".

وأهم خرق قام به المخرج – من وجهة نظر الجابر - استغلاله للوضع السياسي، كما حدث من قبل في مسرحية (علاء الدين 92)، وهو أزمة الأسرى بعد غزو العراق للكويت! فتحت عنوان (مزايدة وطنية)، أوضح الجابر أن في مشهد السيرك، قام الساحر بإخراج علم خاص بالأسرى الكويتيين، وعلق على ذلك قائلاً (ص207): "لا أجد أي تفسير درامي لهذا الفعل في نص يُفترض أنه إيطالي، ويُمثل حقبة تاريخية قديمة، أي أن النص ليس له علاقة بأحداثنا ومنطقتنا .... فما الداعي إلى المزايدة الوطنية وإقحام علم الأسرى على العرض!!". وهذا الأمر إن كنا نتفق مع الجابر في عدم قبوله فنياً ودرامياً، إلا أن الرأي المخالف، الذي أوضحناه في الحادثة المشابهة السابقة في مسرحية (علاء الدين

المصدر: مجلة (البحرين الثقافية) – عدد 63 – يناير 2011 – ص (143 – 170).
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

  • Currently 46/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 1267 مشاهدة

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

754,906