الكويت سنة 1904

أول مقالة عربية تُنشر عن الكويت

د. سيد علي إسماعيل

ــــــــــــــــــ

من منّا لا يعرف المؤرخ الكويتي الكبير الشيخ عبد العزيز الرشيد (1887-1938م)، الذي لُقب بمؤرخ الكويت الأول؟! فهذا اللقب اكتسبه بناءً على كتاباته التاريخية عن الكويت، ولا سيما كتابه الشهير (تاريخ الكويت) الذي صدر في جزئين عام 1926م، والذي يُعتبر في نظر الجميع أول تاريخ يُنشر بالعربية عن الكويت. وقد اعترف الشيخ عبد العزيز بذلك في مقدمة الكتاب قائلاً (ص22): " إني لا أدعي العصمة فيما كتبت ولا الكمال فيما جمعت، ولكن حسبي أني أول من رمى حجراً في ذلك الأساس وأول من سلك هذا الطريق المخيف، وحسبي أني سهلت به على من يأتي بعدي كثيراً من الصعوبات التي تنتاب المؤرخ في بحثه وتنقيبه". ويؤكد هذا المعنى عبد الله خالد الحاتم في كتابه (من هنا بدأت الكويت) (ص326) عندما وصف كتاب عبد العزيز الرشيد بأنه مصدر تاريخي قيم، لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، لعدم وجود ما ينافسه، فهو أول تاريخ صدر للكويت، ولولاه لذهب كل تاريخ الكويت!

ومنذ صدور كتاب (تاريخ الكويت) عام 1926م، أصبح المرجع الأول لكل مؤرخ أراد أن يكتب عن الكويت وتاريخها، وأصبح الشيخ عبد العزيز الرشيد الرائد والمؤرخ الأول للكويت. وهذه الحقيقة التاريخية ربما تهتز قليلاً بعد قراءة هذه المقالة، وكذلك مسألة الريادة ربما يُعاد النظر فيها!

مجلة المشرق

في عام 1898م أصدر الأب لويس شيخو العدد الأول من مجلته (المشرق)، وهي مجلة كاثوليكية كانت تصدر مرتين في الشهر، تحتوي على موضوعات وبحوث علمية وأدبية ولغوية وفنية، تحت إدارة آباء كلية القديس يوسف، وكانت تُطبع في بيروت بالمطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين. ومنذ صدورها أحدثت ضجة هائلة في الأوساط الأدبية، وانتشرت انتشاراً كبيراً في العالم العربي، بسبب قوة موضوعاتها العلمية المطروحة، وأسماء كُتّابها من العلماء المتخصصين والمستشرقين، أمثال: الأب أنستاس ماري الكِرْمِلِي، والأب أنطون صالحاني، والأب لامنس، والأب كولنجت، والأستاذ هرتمن، والدكتور ماريني، والدكتور موسيل وغيرهم، وأصبحت مجلة المشرق تنافس كُبرى المجلات العلمية والأدبية مثل: الهلال والمقتطف والضياء ... إلخ.

أنستاس ماري الكِرْمِلِي

كانت مفاجأة ليّ، عندما تصفحت مجلة المشرق في سنتها السابعة عام 1904م، لأجد مقالة - في شكل بحث رصين - بعنوان (الكويت)، نُشرت على جزئين لضخامتها!! وكُتب أسفل العنوان اسم كاتبها هكذا (لحضرة الكاتب الفاضل الأب أنستاس الكرملي). وقبل أن نتطرق لفحوى المقالة، نلقي ضوءاً يسيراً على كاتبها، لنقف على مكانته العلمية.

كاتب المقالة هو بطرس جبرائيل يوسف عواد المشهور بين العلماء والأدباء باسم (أنستاس ماري الكرملي)، وُلد في بغداد عام 1846م، من أسرة لبنانية الأصل. تلقى تعليمه الأولي بمدرسة الآباء الكرمليين ثم بمدرسة الآباء اليسوعيين ببيروت، وترهب في بلجيكا، وتعلم اللاهوت في فرنسا، ومن ثم أصبح كاهناً عام 1893م وأُطلق عليه اسم (الأب أنستاس ماري). عاد إلى بغداد مديراً لمدرسة الكرمليين، وعلّم فيها العربية والفرنسية، ونشر مقالات ودراسات كثيرة في مجلات مصر والشام والعراق. تعلم لغات عديدة مثل: اللاتينية واليونانية والآرامية والعبرية والحبشية والفارسية والتركية، من أجل دراسة علاقاتها باللغة العربية. وفي عام 1911م أصدر مجلة (لغة العرب) وتولى تحرير مجلة (دار السلام)، وأصبح عضواً في مجلس المعارف العراقي، وفي مجمع المشرقيات الألماني، وفي المجمع العلمي العربي، وفي المجمع اللغوي في مصر. مات الأب أنستاس عام 1947م، وله الكثير من الكتب المطبوعة والمخطوطة، مثل: نشوء اللغة العربية، وأغلاط اللغويين الأقدمين، والفوز المراد في تاريخ بغداد، وخلاصة تاريخ العراق، وأديان العرب، وتاريخ الكرد، وجمهرة اللغات، والعرب قبل الإسلام، والمعجم المساعد، وشعراء بغداد وكُتّابها.

تمهيد مقالة الكويت

نشر الأب أنستاس الكرملي مقالته عن الكويت بمجلة المشرق – في جزئين – ابتداء من العدد العاشر للسنة السابعة في 15/5/1904. وقد قسم مقالته - أو بحثه – إلى اثنى عشر عنواناً بدأً بالتمهيد قائلاً فيه: " لقد تعوّد الأديب في هذه السنوات، عند تصفحه جريدة أو مجلة كبيرة أو صغيرة، أن يعثر غير مرة في مطاوي مطالعاته الكثيرة على اسم (الكويت) الشهيرة. وإذا ما أراد أن يقف على شيء، راهن بهذا الشأن، ويتقصى في أخبار هذه الحاضرة وما ينضم إليها من البلدان، لا يكاد يحصل على ما يحقق به مُنيته، أو يزيد به غُنيته. والسبب هو لأن الكاتب إن كان من الأغراب، فلجهله لغة تلك الأنحاء من العرب والأعراب، لا يستطيع أن يُفيدنا عنها فائدة. وإن كان من الوطنيين، فإنه في أغلب الأحايين، لا يروي ما يروى به الغليل. ولذا جاءت أخبار أولئك موهومة، وأنباء هؤلاء مبتورة أو مصلومة. أما كاتب هذه السطور التوابع، فإنه وإن لم يطأ تلك المرابع، إلا أنه شافه بعض من سكنها في دورها وأخبيتها، فألقى عليهم الأسئلة التي يُستحب الوقوف على أجوبتها. وكاتب أيضاً أحد تلك الأرجاء من الأدباء الأفاضل، فتلقى عنه الفوائد الفرائد الكوامل. وما عدا ذلك فقد استنرت بمشكاة هُدى صاحب الفضل والفضيلة والزهادة الشيخ الإمام محمود شكري أفندي آلوسي زاده، من جعل العلم قُنيته وزاده، رفع الله قدره وزاده".

يعترف كاتب المقالة في هذا التمهيد بأن قدمه لم تطأ أرض الكويت، ورغم ذلك أراد الكتابة عنها، فلم يجد كتابات سابقة منشورة يستنير بها، وكل ما وجده بعض الإشارات التي تذكر اسم الكويت، دون أن تروي ظمأ القارئ، لذلك لم يجد مناصاً من مراسلة أهل الكويت من الأدباء والعلماء دون أن يذكر أسماءهم! وبناءً على ذلك نستطيع القول بأن علماء الكويت وأدباءها أسهموا بمعارفهم ومعلوماتهم في نشر أول مقالة تُكتب عن الكويت! ولنا أن نتصور لو ذكر الكاتب بعضاً من هذه الأسماء، لفتح المجال أمام الباحثين لمعرفة علماء الكويت وأدبائها الأوائل! والغريب أن هذا الموقف قام به مؤرخ الكويت الأول الشيخ عبد العزيز الرشيد عندما ألف كتابه (تاريخ الكويت) الذي اعتمد في تأليفه على روايات شفاهية لم يذكر أسماء من سمع منهم! بعكس سيف مرزوق الشملان الذي أصدر كتابه (من تاريخ الكويت) عام 1959م معتمداً فيه أيضاً على الروايات الشفاهية – بجانب الكتب والوثائق المطبوعة – ذاكراً أسماء من سمع منهم أمثال: سالم بن علي أبو قماز، وملا صالح بن محمد الملا، ودهام بن مثقال الظفيري، ومحمد بن حمادة العجمي.

أما محمود شكري الألوسي (1857-1924م) الذي خصه أنستاس الكرملي بالذكر، فهو من أدباء وعلماء بغداد في هذا الوقت، وله كُتب كثيرة منها: بلوغ الأرب في أحوال العرب، وأخبار بغداد وما جاورها من القرى والبلاد، والمسك الأذفر في تراجم علماء القرن الثالث عشر، ومساجد بغداد، وتاريخ نجد، وأمثال العوام في دار السلام، ورياض الناظرين في مراسلات المعاصرين، وتجريد السنان في الذب عن أبي حنيفة النعمان، وغاية الأماني في الرد على النبهاني.

الأصل اللغوي لكلمة الكويت

كان من الطبيعي أن يبدأ أنستاس الكرملي مقالته بتعريف لفظة (الكويت)، باعتباره أحد أعلام علم اللغة، وأحد المبرزين في اللغات السامية. ومن الملاحظ أن تعريفه العام لكلمة الكويت جاء على غرار التعريف المعروف والموجود في كتابي عبد العزيز الرشيد، وسيف مرزوق الشملان، مع الأخذ في الاعتبار بأن أنستاس يسبقهما في هذا التعريف تاريخياً. وهذا التعريف لا يخرج عن كون كلمة الكويت تصغير كوت وجمعها أكوات، وتُطلق على البيت المربع المبني كالحصن والقلعة بقرب الماء. وهذا المعنى – كما ذكرنا – معروف في جميع الكتابات التي تعرضت لهذه اللفظة.

ولكن الجديد الذي جاء به أنستاس الكرملي - ولم يُذكر في كتابات الآخرين حتى الآن – عن هذه اللفظة، أن كلمة (كوت) جاء ذكرها في آيتين بسفر الملوك في الترجمة اليسوعية والترجمة الدمنيكية للإنجيل، الأولى تقول: "وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوت وعوّا وحماة وسفروائيم ..." ونص الأخرى يقول: "فعمل أهل بابل سُكوت بُنوت وأهل كوت عملوا نرجال وأهل حماة عملوا شيما". أما الترجمة البروتستانية البيروتية فأوردت كلمة (كوت) بصورة (كوث)، أي بتثليث التاء. ثم نجده يعقد مقاربة بين لفظة كوث وبين لفظة (كوثي) التي وردت في معجم البلدان لياقوت الحموي على أنها مدينة بأرض بابل، وقد فتحها سعد سنة عشر هجرية. ولتبحر كاتب المقال في علوم اللغة، نجده يدقق النظر في لفظة (كوثي) ويعتبرها تصحيفاً لكلمة (كوشى) تبعاً للغة الآرامية، أو كلمة (كوش) تبعاً للغة العبرية أو العربية، أي بإبدال الشين ثاءً كما هو مشهور في اللغات السامية. وهذا التصحيف للكلمة استنتج منه الكاتب نتيجة مفادها أن (كوش) هذا هو حام وأبو نمرود الجبار، وقد نُقلت (كوش) إلى صورة ثالثة وهي (حُبْش) أي (الحبشة)، ويبرهن على هذا بأقوال تراثية وردت في كتب التاريخ، ويختتم أنستاس الكرملي تفسيرة لكلمة (الكويت) بأنها تصحيف لكلمة (الكوفة).

وقد أفرد أنستاس الكرملي صفحات عدة في تفسير لفظة الكويت، تفتح المجال واسعاً أمام الباحثين المهتمين بعلوم اللغة العربية، وتدفع المهتمين بتاريخ الكويت للبحث والاستقصاء حول نتائج تصحيف الكلمة، بناءً على أقوال الكرملي.

الموقع والحدود والمناخ

يصف كاتب المقال هذه الأمور سنة 1904م، بأن الكويت تشرف على البحر ولذلك سُميت قديماً بالقُرين، أما الكويت فاسم حديث لا يتجاوز القرنين ولم يكن لها شهرة في السابق، لذلك لم يذكرها مؤرخو العرب ولا وصفوا بلادها، وهي قضاء من أقضية ولاية البصرة إحدى الولايات الشاهانية، يحدها شمالاً قضاء البصرة وجنوباً سنجق نجد وشرقاً خليج فارس وغرباً البادية الشامية، وقائمقامها الآن الشيخ مبارك الصباح. أما أرضها فوخيمة وهواؤها رطب حار في الصيف يُنحل الجسم وتنحَلَ به عُرى القُوى، حتى أن أهلها أنفسهم يتشكون منه. أما في الشتاء فالهواء بارد جاف مفيد للصحة.

الماء

تحدث الكاتب عن الماء في الكويت بصورة لم ترد في كُتب التاريخ، ولا سيما كتاب (تاريخ الكويت) لعبد العزيز الرشيد! فقد ذكر الكرملي أن الشيوخ والأكابر والتجار كانوا يستجلبون الماء العذب من جزيرة فيلكة (فيلجة)، وكان ثمن القربة (قران) وهي عُملة إيرانية قديمة. وهذه الحقيقة تختلف مع ما أقرّه عبد الله خالد الحاتم في كتابه (من هنا بدأت الكويت) عندما قال إن محمد اليعقوب هو أول من ابتكر طريقة نقل الماء وبيعه للأهالي عام 1909. وبالعودة إلى مقال الكرملي، نجد أهل الكويت – في عام 1904 - كانوا يجمعون ماء المطر في خزائن بمنازلهم تُتخذ من الخشب. وجاء الكرملي بوصف دقيق لهذا التخزين، لم يرد في أي كتاب – حسب علمي – قائلاً عن أسلوب أهل الكويت في تخزين ماء المطر: "يمدون سرادقاً رقيقاً مشتبك الخصاص على صحن البيت ويجعل أطرافه المتدلية حجارة أو نحوها لتسهيل تحدُّر الماء، ويسوي له فُم واحد لكي يقذف ماءه في الخزانة المذكورة المتخذة من الخشب الثخين المتين. وهذه الخزانة تسع طنّاً أو أكثر، وربما بقي عندهم هذا الماء طول السنة بدون أن يفسد".

سكان الكويت وأعمالهم

يُحدد كاتب المقالة عدد سكان الكويت سنة 1904 بـ 20075 نسمة، معظمهم من المسلمين السُّنة البالغ عددهم 20000، أما المسلمين من الشيعة فيبلغ عددهم 13، واليهود 60، والنصارى2. ويبلغ عدد البيوت المبنية بالحجارة أربعة آلاف بيت أغلبها مبنيّ من طبقة واحدة، بالإضافة إلى 500 صريفة [ أي العريش، وهو البيت المصنوع من سعف النخيل اليابس]. وأغلب أهل الكويت يعملون في مجالات شتى منها: الزراعة ورعاية المواشي والتجارة والصرافة والملاحة والغياصة [الغوص].

والزراعة قاصرة على بعض الأقوام المتحضرة ممن يغادرون وطنهم الكويت ويذهبون إلى نواحي الفأو، لأن الكويت لا يوجد بها زرع أو نخيل أو بساتين أو أي خضرة! أما التجارة فهي بيد جميع الأغنياء من أهالي الكويت، فعندما يحين موسم التمر يشتري التجار كميات وافرة منه وحملوها على سفن شراعية وذهبوا بها إلى الهند فيقايضونها بأموال أخرى من أنسجة وأثاث وأدوات أفرنجية، ثم يحملونها على السفن نفسها ورجعوا بها على الكويت فيبيعونها بالدراهم. أما صادرات الكويت في هذا الوقت فكان (الجصّ) المشهور، وكان يُصدر إلى المحمَّرة والبصرة بكميات كبيرة. كما يدخل في الصادرات أيضاً الجياد النجدية الكريمة الأصيلة، فإنها كانت تُرسل إلى الهند عن طريق الكويت، ويُبعث منها سنوياً من 500 إلى 800 رأس، ويُباع الواحد منها من 500 إلى 3000 رُبيّة. وكانت الكويت تصدر أيضاً نبات الطراثيث، الذي ينبت في الأرض تلقائياً ويستخدم كدواء لتقوية المعدة. أما صناعة أهل الكويت الوحيدة فكانت بناية السفن بأنواعها الثلاثة المعروفة: الأبوام والبغال والسنابك، وكانت أخشابها تُجلب من الهند. ويصف الكرملي هذه الأنواع وصفاً دقيقاً قائلاً: "البُوم وتجمع على أبوام: نوع من السفن البحرية في خليج فارس لا تكون إلا شراعية وتكاد تكون محددة المؤخر. وأما إذا كانت عريضته ومقوَّر الوسط فتسمى (بَغْلَة) باسم الحيوان الشهير المتولد من الحمار والفرس. وأما إذا كان المؤخر غير مقوَّر الوسط فيسمى (سُنْبكاً) وهو الذي كان يسمى من القديم سُنْبوقاً أو سُنْبوكاً".

مهنة الصرافة

يُعتبر أنستاس الكرملي – على حدّ علمي – أول من ذكر عدد سكان الكويت من اليهود، وحددهم بستين نسمة. وهذا التحديد لم نجده في أغلب المراجع، بل ولم نجد حديثاً عن عملهم! ومن هذا المنطلق سأقتبس ما ذكره الكرملي – في مقالته - عن مهنة يهود الكويت، لأن حديثه هذا يُعد وثيقة تاريخية، قلّ أن نجد نظيرة لها في المراجع التي أرخت للكويت.

قال الكرملي: "وأما الصرافة فلا توجد بغير أيدي اليهود. وهم يكسبون من ورائها أموالاً طائلة تكاد لا تُقدر. وهم في ذلك يجرون على الصورة الآتية: إن قيمة كل نقدٍ من النقود تتبع اتفاق الصيارفة اليهود. فقد يكون النقد الواحد اليوم في سعر وفي الغد بسعر آخر، وذلك أنهم ينظرون إلى ما يكثر منها. فإذا كان بهذه الحالة أهبطوا أسعارها إلى ما يوازي 5 سنتيمات من النقود الأفرنجية إلى 50 سنتيماً تبعاً لنوعية معدنها ولكثرتها وسعرها في ذلك اليوم. فإذا كانت مثلاً من النقود الصغيرة النحاسية أو الشَبَهيَّة أو الفضية لا يسقطون منها إلا شيئاً طفيفاً وإلا أسقطوا منها شيئاً معدوداً. وهم في أثناء ذلك يحتكرون ذلك النوع من الورق، فإذا قلَّ وأصبح الكل بأيديهم حمَّلوها علاوةً بالنسبة المذكورة. ولهم طريقة أخرى للانتفاع من الصرافة وهي: إن تجار الكويت كثيراً ما يحتاجون إلى حوائل للهند وبلاد إيران، وكما أنهم لا يقبلون الحوائل والقراطيس المالية والسفاتج يُجبرون على إرسالها نقوداً مصرورة. فإذا عرف اليهود موسم جمع النقود المرغوبة رَقَّوا أسعارها وربما دُفع الريال بدلاً من الرُبية، أي إنه يُنزل عُشر من سعر الريال وترتفع الرُبية ما يوازي عُشرها. وعلى هذا الوجه يكسب اليهود في حوالة زهيدة المبلغ ربحاً فاحشاً. وشيخ الكويت لا يُقاوم هذا السُحت ولا يُنكل باليهود أبداً. وزد على ما تقدم أن صيارفة اليهود يحتكرون في موسم اللؤلؤ جميع الرُبيات لأن أسعارها تهبط وقتئذٍ وترتفع بعد انقضائه".

صيد اللؤلؤ

يُعتبر كتاب (تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي) لسيف مرزوق الشملان، الذي صدر في جزئين عام 1975، أهم كتاب كُتب في هذا المجال. ورغم ذلك لم تكن مقالة أنستاس الكرملي – موضوع حديثنا - من بين مراجعه! علماً بأن مؤلف الكتاب اعتمد كتابات عدة لأنستاس الكرملي من خلال مجلته (لغة العرب)! ويؤكد مؤلف الكتاب – في الجزء الأول، ص187 - أن الشيخ عبد العزيز الرشيد هو أول من نشر مقالة مفصلة عن الغوص على اللؤلؤ في مجلة الهلال المصرية حوالي عام 1922. والحقيقة أن هذه المقالة نُشرت في مارس 1925، تحت عنوان (من أعماق البحار إلى صدور الحسان: كيف يستخرجون اللؤلؤ في الكويت: وصف مشاهد خبير). وبالمقارنة بين ما جاء في هذه المقالة وفي كتاب سيف الشملان، وبين ما جاء في مقالة أنستاس الكرملي – موضوع حديثنا – نجد اختلافات كثيرة تفيد الباحثين والمتشوقين لمعرفة تاريخ الغوص على اللؤلؤ.

فالأب أنستاس الكرملي أفرد في مقالته عدة صفحات تحت عنوان جانبي (صيد اللؤلؤ في الكويت). وفي هذه الصفحات يشرح شرحاً تفصيلياً دقيقاً لعملية الغوص والبحث عن اللؤلؤ منذ بدايتها إلى نهايتها، مع ذكر وشرح الأسماء والمصطلحات. ويخبرنا الكرملي بأن أحد الأغنياء يبني (بوماً/سفينة غوص) ويستأجر له أُجراء قبل أوان الصيد بأربعة أشهر، فيتخذ له مثلاً 30 أجيراً مع (ناخُذاة) أي النوخذة، ويدفع لهم عربوناً يُضاف إليه 20% كفائدة ربوية. وعندما يأتي موسم الغوص - من منتصف إبريل إلى منتصف أكتوبر - ركب النوتية السفينة مع الناخذاة والتاجر نفسه أو وكيله وساروا به إلى مكان معلوم يُحدده الناخذاة. ثم ينزل ستة منهم في البحر والبقية يكونون في السفينة. وبعد 50 أو 60 ثانية – وربما بلغ الغائص الماهر المتمرن 80 أو 90 ثانية – يُخرجون. وإذا خرج الأولون نزل الآخرون وهكذا إلى آخر الملاحين. والغائص يبتدئ مهنته هذه وهو في سن الثانية عشرة، وطعام الغواص شيء زهيد من التمر مع كسرة خبز عند الظهر، وفي العشاء يأكل أرزاً مطبوخاً وهو المسمى (بلاَو).

أما طريقة الغوص فيصفها الكرملي بقوله: "يشدون في رجل الغواص حجراً ثقيلاً ويسدون منخريه بسداد من القرن وأذنيه بشيء من الشمع فيهوى على هذه الصورة البسيطة إلى عمق 10 أمتار أو 20 أو 30 متراً. ومن بعد أن يبقى في الماء يحرك الحبل فيصعد إلى فوق. وبعد أن يستريح يعود إلى عمله هذا المحفوف بالأخطار من 8 إلى 10 مرات وربما 12 مرة".

وكلما أخرجوا محاراً ألقوه في بطن السفينة، وعند المساء قبل أن يلبسوا ثيابهم ويتناولوا عشاءهم يجتمعون كلهم ويفتحون المحار وهم عُراة خوفاً من أن يخفوا شيئاً. وبعد أن يفتحوها يستخرجون منها اللآلئ فيودعونها علبة وأما الصدف فيلقونه في (الغمر). وبعد أن تُجمع الدرر في الصندوق يُقفل بمفتاحين أحدهما بيد الناخذاة والآخر بيد التاجر. وبعد انتهاء الموسم يجتمع الجميع فيأخذ التاجر خُمس اللؤلؤ أجرة لسفينته، ثم يُقسم الباقي قسمين: الأول يأخذه التاجر أيضاً استيفاءً للعربون وفائدته الربوية، والنصف الآخر يقسم هكذا: يأخذ الناخذاة حصتين، والغواص حصة واحدة، والسيب - الذي يسحب الغواص من البحر – نصف حصة.

ويُعلق الكرملي على هذا التقسيم قائلاً: "فترى من هذا كله أن الغواصين لا يربحون شيئاً أو يربحون شيئاً لا يُذكر مع أنهم هم الذين يتعبون أكثر من سواهم. وربما خسروا وأصبحوا مديونين للتاجر". وهذا التعليق كان الكرملي محقاً فيه، فقد حدثنا عبد الله خالد الحاتم - عن أول إضراب لرجال البحر - في كتابه (من هنا بدأت الكويت) (ص124)، قائلاً: "في أواخر العشرينات، أعلن الكثير من رجال الغوص العصيان ورفضوا الدخول إلى الغوص. فقام أرباب السفن ورفعوا الأمر إلى الشيخ أحمد الجابر الصباح، الذي استدعى إليه بعض المضربين ليقف على وجهة نظرهم. وقد شرحوا له أوضاعهم، موضحين بأن السُلفة التي يأخذونها من النواخذة لا تكفي لتسديد الديون المترتبة عليهم للبقالين ولغيرهم، مع تركهم عائلاتهم فترة طويلة قد تصل إلى عدة أشهر دون طعام!! هنا، رأى الشيخ أحمد أن الحق إلى جانبهم. فاقترح عليهم حلاً وسطاً، وهو التوقف عن دفع ما عليهم من ديون لهذا العام، مع امتناع الحكومة عن النظر في أي دعوى مقامة ضد أيٍ منهم. وقد وافق هذا الحل الغواصين، فاستجابوا لأرباب السفن وانتهى الإضراب".

ويتطرق الأب أنستاس الكرملي – في مقالته - إلى أمور شتى تتعلق باللؤلؤ، مثل وجود حيوانات بحرية مفترسة تعترض الغواصين مثل أبي سيف، ومقارنته بين لؤلؤ الخليج ولؤلؤ سيلان واليابان، حيث إن الأول أكبر حجماً وأقل بياضاً ونصاعة، وأن لؤلؤ البحرين يُضرب به المثل في الحُسن، خصوصاً في استعمالاته الطبية.

رائد التاريخ الكويتي

ذكرنا من قبل إن الشيخ عبد العزيز الرشيد هو صاحب لقب (مؤرخ الكويت الأول)، وهذا اللقب يصح في حالة كون المؤرخ المقصود كويتياً، ويصح أيضاً في حالة أن يكون المؤرخ المقصود صاحب كُتب تاريخية منشورة عن الكويت، وهذان الأمران متوفران في الشيخ عبد العزيز الرشيد، وبذلك ينطبق عليه لقب (مؤرخ الكويت الأول)!

ولكن ما هو موقفنا الآن أمام اكتشاف مقالة الكويت لمؤلفها الأب أنستاس الكرملي؟! أنستطيع تجاهل كاتبها وهو علم من أعلام اللغة والأدب والتاريخ؟! أنستطيع أن نتجاهل ما جاء في المقالة من أمور شتى عن الكويت وسكانها واقتصادها .... إلخ؟! أنستطيع تجاهل تاريخ نشرها سنة 1904، قبل أن يكتب أي مؤرخ كويتي أو غير كويتي عن الكويت باللغة العربية؟! أنستطيع تجاهل هذه الحقائق؟! ناهيك عن سؤال مُلحّ لا أملك الإجابة عليه، وهو: لماذا تجاهل أغلب من أرخو للكويت هذه المقالة المهمة الرائدة المنشورة سنة 1904، والمؤلفة من قبل أحد أعلام اللغة والأدب والتاريخ، والمنشورة في كُبرى المجلات العربية وأوسعها انتشاراً في زمنها؟!

يجب أن ننظر إلى هذه الحقائق بصورة موضوعية، وألا نحجب ضوء الشمس بأيدينا، لأننا لن نستطيع ذلك .. وكما اعترفنا بأن الشيخ عبد العزيز الرشيد هو مؤرخ الكويت الأول، فيجب أن نفكر في الاعتراف بأن الأب أنستاس الكرملي هو رائد التاريخ الكويتي!! على اعتبار أنه أول من نشر مقالة عن الكويت باللغة العربية. وأرى أن يظل هذا اللقب ملتصقاً باسم الرجل، إلى أن يثبت العكس، ويتم اكتشاف كتابات منشورة باللغة العربية عن الكويت

المصدر: مقالة نشرت في – مجلة تراث الإماراتية – عدد 105 – مايو 2008 – ص(38 - 41).

التحميلات المرفقة

sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

826,105