الرسام العالم المؤمن

الحاج ألفونس إيتيان دينيه

أ.د سيد علي إسماعيل

ـــــــــــ

        من المعروف تاريخياً .. أن فرنسا استعمرت الجزائر طوال 132 سنة (1830 – 1962م)! وأثناء فترة الاستعمار هذه؛ وُلد ومات الفنان الفرنسي (ألفونس إيتيان دينيه)، حيث وُلد في باريس يوم 28/3/1861، من أب يعمل في المحاماة، ومن أم تُدعى (لويز ماري بوشيه) ابنه أحد المحامين المشهورين أيضاً. كان ألفونس نابغة في العلم والفن؛ فبعد حصوله على الثانوية التحق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، وتدرّب في مرسم (قالون)، وأكاديمية (جوليان)، وتتلمذ على يد فنانين عالميين أمثال: جالان، وطوني فلوري روبير، وبوجرو.

وبعد تخرجه رسم أولى لوحاته (الأم كلوتيد)، وهي عبارة عن لوحة لفلاحة مسنة من الريف الفرنسي ترتدي قبعة بيضاء، وقد عُرضت هذه اللوحة في صالون باريس عام 1882م؛ فحصلت على استحسان المتخصصين. وفي العام التالي رسم لوحته (صخرة صاموا)؛ التي حصلت على لوحة الشرف لعام 1883م، ورحلة قصيرة إلى الجزائر قام بها ألفونس. وفي العام التالي 1884م حصل على وسام صالون قصر الصناعة، ومنحة على شكل رحلة استكشافية إلى الجزائر استغرقت وقتاً طويلاً، مما أتاح له التعمق في مناظر الجنوب الجزائري ودراسته فنياً، فرسم لوحته (سطوح الأغواط) المعروضة حالياً في متحف الجزائر للفنون الجميلة.

وفي عام 1889م نال الوسام الفضي في المعرض العالمي بباريس، فعاد إلى الجزائر وتعرّف على شاب جزائري مُسلم يُدعى (سليمان إبراهيم با عامر) - من مواليد مدينة بوسعادة عام 1870م، وكان يُتقن الفرنسية، ويُعتبر من أدباء بوسعادة وشعرائها - فارتبط ألفونس بصداقته أربعين عاماً!! هذه العقود الأربعة غيّرت ألفونس تغييراً كبيراً، بسبب ما وجده في سليمان من وفاء وإخلاص منقطع النظير! وأصبح سليمان مشاركاً لألفونس في جميع جوانب حياته؛ فعّلمه اللغة العربية واللهجة الجزائرية، وكان مُرشده في حلّه وترحاله في مدن الجزائر وصحرائها. وبناءً على ذلك قام ألفونس بدراسة العادات والتقاليد الجزائرية، ومارسها ممارسة المواطن الجزائري، واستقر نهائياً في أحد أحياء مدينة بوسعادة، وابتنى بيتاً عربياً متواضعاً بها عام 1905م، بناه من التراب وأعواد القصب والعرعار.

عاش ألفونس في مدينة بوسعادة سنوات طويلة، وتشرب من أهلها خصال العرب والمسلمين، وراقب أحوالهم ومارس عاداتهم وتقاليدهم، وبدأ في التأمل والتفكير العميق في قيمة الإسلام بالنسبة إلى معتنقيه؛ بسبب ما لمسه من أخلاق المسلمين الكريمة، فدرس الإسلام بعمق بمساعدة رفيق عمره سليمان، وأخيراً قرر اعتناق هذا الدين الحنيف، فأشهر إسلامه سنة 1913م، حيث نطق الشهادتين أمام مفتي الجزائر، وقال مقولته الشهيرة: " لم يكن اعتناقي الإسلام وليد الصدفة، بل عن دراية تامة، ودراسة تاريخية عميقة طويلة الأمد لجميع الديانات". وبناء على هذا الإشهار أطلق على نفسه اسم (ناصر الدين دينيه)! ليكون مصداقاً لقول أحد أولياء بوسعادة الصالحين، عندما قال: " إن الله يبارك كل من يعيش في بوسعادة أكثر من أربعين يوماً ".

وإذا كان ألفونس أو ناصر الدين اشتهر باعتباره فناناً عالمياً في رسم اللوحات، إلا أنه برع أيضاً في نشر البحوث والكتب الدينية - دفاعاً عن الإسلام ورسوله - التي نشرها بالاشتراك مع رفيق عمره سليمان با عامر. فقد كتبا كتابهما (الشرق في نظر الغرب) رداً على من هاجم الإسلام عن جهل من المستشرقين الغربيين. كذلك كان كتابهما (الحج إلى بيت الله الحرام)، الذي ترجمه مؤخراً د.عبد النبي ذاكر. وفي تصدير الكتاب نقرأ قول المؤلفين: "كتابنا هذا ليس عمل الأدباء ولا العلماء، وإنما هو عمل مسلمَيْن لم يعملا على تقييد أيَّة ملحوظة أو أخذ رسم أو صورة فوتوغرافية إبّان إقامتهما في الأرض المقدسة، لكنهما كانا منخطفيْن أمام جلال مناسك الحج، وأمام روعة مناظر أرض الحجاز، التي بقيت ذكريات مناسكها ومناظرها محفورة في عينيهما وقلبيْهما. تُرى هل يستطيع هذا الكُتيِّب، تبديد الخِلافات المحدِقة بمستقبل السلام في الشرق، وكذا الإسهام ـ بشكل متواضع ـ بإقامة وئام صادق بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وئام يتوجب على الحضارة تحقيقه؛ أَوَلَيسوا إخوة ورثوا ثلاثتُهم ـ بالدرجة نفسها ـ توحيد إبراهيم الخليل؟ ألا نرى كيف يجْهر المسلمون بتبجيل موسى والمسيح؟ ". وأخيراً نجد كتابهما (محمد رسول الله)، الذي نُشر مترجماً عام 1956م، وقدّم له شيخ الأزهر بمقدمة قال فيها عن الحاج ناصر الدين: عاش فناناً بطبعه، وكان مرهف الحسّ، رقيق الشعور، جياش العاطفة، وكان صاحب طبيعة متدينة. كان كثير التفكير، جمّ التأمل، يسرح بخياله في ملكوت السماء والأرض، يريد أن يخترق حجبه.

وفي عام 1929م قرر ناصر الدين دينيه (ألفونس سابقاً) الحج إلى بيت الله الحرام، رُغم تحذير البعض له من مشقة السفر والإرهاق، وهو في سن الثامنة والستين، ولكنه صمّم على إكمال دينه بتأديته لهذه الفريضة، وقد رافقه في هذه الرحلة رفيق العمر إبراهيم با عامر وزوجته. وكتب - ناصر الدين - أثناء وجوده في جدّة، واصفاً مشاعره الفياضة تجاه تأدية فريضة الحج : " هذه الرحلة تركت في نفسي انطباعات لم أشعر بما هو أسمى منها في كل حياتي. فلا أحد في العالم يمكنه أن يعطي فكرة عما شاهدته من جوانب هذه العقيدة الوحدانية من حيث المساواة والأُخوة بين حوالي مائتين وخمسين ألفاً من الناس من مختلف الأجناس كانوا مزدحمين الواحد بجانب الآخر في الصحراء".

عاد الحاج ناصر الدين من رحلته المقدسة إلى باريس، وبعد أشهر قليلة أُصيب بمرض قاتل، فقابل ربه مسلماً مؤمناً حاجاً يوم 24/12/1929م، وأقيمت صلاة الجنازة على جثمانه في مسجد باريس، وبناءً على وصيته نُقل الجثمان إلى مدينة بوسعادة ليُدفن بها يوم 12/1/1930، بجوار رفيق عمره سليمان با عامر في مقبرة حي الدشرة القبلية. وبعد وفاته نُشرت وصيته المؤرخة في 5/12/1913م، وفيها يُعلن رسمياً اعتناقه للإسلام، ويُوصي بأن جنازته تتم طبقاً للتعاليم الإسلامية، وأن يُدفن جثمانه في المقبرة الإسلامية بمدينة بوسعادة. وجاء توقيعه على هذه الوصية هكذا (الرسام ناصر الدين دينيه العالم المؤمن)! أما منزله في مدينة بوسعادة، فقد تحول إلى متحف يحمل اسمه حتى الآن.

الإسلام في لوحاته

مات الفنان الحاج ناصر الدين دينيه – أو ألفونس إيتيان دينيه – تاركاً ثروة فنية تمثلت في مائة وأربعين لوحة استشراقية؛ تمثل أغلبها جميع جوانب الحياة في مدينة بوسعادة وبيئتها، لا سيما الدينية منها. فلوحات الحاج ناصر خلدت هذه المدينة بأهلها ومائها وصحرائها وطقوسها الدينية. وكانت هذه اللوحات بداية فنية للحركة التشكيلية في الجزائر، حيث فتحت الطريق للفنانين للتعبير الفني وفق منهج الحاج ناصر الدين في صدق تعبيره الفني، وسحر تجسيده لحياة الإنسان في الصحراء، وقدرته الكبيرة في التعامل مع اللون والضوء والظلال. وليس أدلّ على ذلك من لوحاته التي ساند بها القضية الجزائرية، مثل لوحات: العمياء، وعهود الفقر، والأهالي المحتقرون .. التي تصور ظلم الاستعمار الفرنسي، وتصرخ فيها الخطوط والألوان في وجه الممارسات الاستعمارية. ومن رأى لوحات الحاج ناصر الدين الإسلامية؛ يكتشف شغفه الكبير في تجسيد مظاهر الإسلام مخلداً إياها في لوحات فنية رائعة، مثل: التبرك، والتعبد، والصلاة، والركوع، والدعاء، والآذان .. إلخ هذه المظاهر. ولوحاته الإسلامية هذه صادرة عن شعور وجداني عميق، وتجربة إسلامية روحية، خصوصاً لوحاته التي رسمها بعد إسلامه.

وإذا ضربنا أمثلة على لوحات الحاج ناصر الإسلامية، سنجد لوحة (الصلاة على السطح) – ألوان زيتية على القماش – عُرضت في صالون الفنانين الجزائريين والمستشرقين بباريس عام 1911، وانتقلت إلى الجمعية القومية للفنون الجميلة، وحالياً محفوظة بصالون الشرف بقصر الرئاسة بالجزائر. وفيها يظهر المُصلي ببشرته السمراء في خشوع ودعاء صامت، مرتدياً الزي الشعبي، وتظهر براعة الفنان في تجسيد ملامح الوجه واليدين وتوزيع الضوء وتجانسه مع الألوان.

وفي لوحته (صلاة الفجر) – ألوان زيتية على القماش – المحفوظة في الجميعة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، المرسومة عام 1913م - بعد إشهار إسلامه – نجد الترابط الأُسري في ظل الإسلام، حيث يقف في الصلاة الجد والأب والحفيد في صف واحد، رافعين الأيدي مكبرين. وتظهر مهارة الفنان في رسم الوجوه الخاشعة متباينة الملامح بين أجيال المصلين، مع تجسيده لحركة الأيدي مع شموخ الأجساد، ناهيك عن نقل الأزياء بريشته البارعة، التي تمثل تأريخاً للأزياء الشعبية الجزائرية في تلك الفترة. أما تناسب اللون مع الضوء فهي ثيمة الفنان الأساسية، حيث تناسبهما عكس للمشاهد إحساساً بوقت الفجر، الذي يمزج الليل بالنهار، مع بقايا نجوم يكاد ضؤوها يخبو. كذلك الأمر في لوحته (الركعة) 1914م – المحفوظة بالجمعية الوطنية للفنون الجميلة بباريس – تظهر حركة المصلين في تفاوت الإنحنائة تبعاً لسن المصلي. وهذه الدقة من النادر وجودها في لوحات المستشرقين من غير المسلمين.

ومن الواضح أن الفنان – بعد اعتناقه للإسلام – شغف حباً بمكة المكرمة، قبل أن يؤدي فريضة الحج قبيل وفاته، وهذا الشغف سجله بريشته في لوحتين عام 1914م – محفوظتان في الجمعية القومية للفنون الجميلة بباريس - الأولى بعنوان (الصلاة حول الكعبة المشرفة في مكة المكرمة)، والأخرى بعنوان (منظر عام لمكة المكرمة)، وفيهما تسجيل جغرافي لتضاريس مكة في تلك الفترة، وما يحيطها من مبانٍ وجبال، مع مصداقية في تجانس الألوان مع الضوء.

كذلك قام الفنان برسم لوحتين للمؤذن، الأولى عام 1917م بعنوان (المؤذن ينادي المؤمنين للصلاة) – عُرضت في صالون الرسامين الجزائريين والمستشرقين – والأخرى بعنوان (المؤذن ينادي المؤمنين لصلاة العشاء) عام 1919م – وعُرضت في صالون الفنانين الفرنسيين – وفي الأولى اهتم الفنان بنقل المنازل الصحراوية لمدينة بوسعادة وقت الظهيرة، مستغلاً الضوء والألوان في نقل إحساس هذا التوقيت عند المشاهد، وأيضاً استغل الأمر نفسه في اللوحة الأخرى، عندما استغل انعكاس ضوء القمر على ملابس المؤذن ووجه، وكذلك على بيوت السكان. بالإضافة إلى مهارة الفنان في نقل تفاصيل الأمور، مثل المسبحة في يد المؤذن، وانفراج الفم والشفتين لنقل الشعور بارتفاع الصوت أثناء الآذان، مع التزامه بنقل تفاصيل أزياء أهالي المدينة في تلك الفترة.

وأخيراً نجده في لوحته الموسومة بـ (نهاية الدعاء .. آمين)، يجسد أدق تفاصيل الوجه الإنساني في مدينة بوسعادة، بما تحمله هذه التفاصيل من ملامح الصحراء وقسوتها على الإنسان، متمثلة في شحوب الوجه، وتجاعيد الجبهة، وبريق العينين، وارتجاف اليدين .. ورُغم ذلك فهو إنسان شاكر ربه مسبحاً بحمده. وقد نقل لنا الفنان هذه الأمور بريشته الدقيقة، المتمرسة على انسجام اللون والضوء. وهذه اللوحة على وجه الخصوص، ربما كانت آخر لوحاته، وقد صدق في رسمها كما صدق في إسلامه وإيمانه، حيث وقع عليها باسم (الحاج ناصر الدين).

 

المصدر: مقالة نشرت في – مجلة تراث الإماراتية – عدد 108 – أغسطس 2008 – ص(102-107).
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

755,487