Cornelis van Dyck

كرنيليوس فانديك

أميريكي عشق الشام

 

أ.د سيد علي إسماعيل

جامعة قطر –  قسم اللغة العربية

ـــــــــــــــــــ

يُعتبر القرن التاسع عشر، أساس النهضة العلمية بالنسبة للوطن العربي. ففيه ظهرت الطباعة، وازدهرت حركة التأليف، وظهرت الصحف والمجلات، وانتشر التعليم وبُنيت له المدارس المتنوعة، وبرز من العلماء أسماء كثيرة، مثل رفاعة الطهطاوي، عبد الله أبو السعود وفارس الشدياق والمويلحي وغيرهم، ناهيك عن الأُسر الأدبية والثقافية، مثل الأسرة التيمورية والبستانية واليازجية والمعلوفية .. إلخ. وهذه النهضة، وإن قامت على أكتاف أبنائها من العرب، إلا أن هناك من أسهم فيها من غير العرب، أمثال الأميريكي كرنيليوس فانديك (Cornelis van Dyck)، الذي لُقب بأستاذ سورية الكبير، وفيلسوف الشرق! فمن هو فانديك هذا؟

النشأة الأميريكية

وُلد كرنيليوس فانديك في إحدى قرى نيويورك بأميريكا في 13/8/1818، وهو الابن السابع والأخير، لأبوين يرجع أصلهما إلى إحدى العائلات الهولندية، التي هاجرت إلى أميريكا منذ أكثر من ثلاثة قرون. وقد تميز كرنيليوس من بين أخوانه وأقرانه بالذكاء الحاد والعمل الجاد، فأتقن منذ صغره عدة لغات كاليونانية واللاتينية، بالإضافة إلى لغتيه الأصليتين الإنجليزية والهولندية. وكان والده طبيباً ولديه في نيويورك صيدلية، فكان كرنيليوس يعاونه في أعمالها، ويبتكر في أدواتها، لدرجة أنه جمع أغلب النباتات التي تنمو في ضواحي ولايته، وقام بتجفيفها وحفظها وترتيبها ترتيباً علمياً حسب فصائلها وعائلاتها النباتية، فانبهر بهذا العمل الدقيق والده، وتنبأ له بمستقبل زاهر في مهنة الطب والصيدلة.

ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن! .. فقد تعرض والده لمؤامرة ذهبت بكل ماله وأملاكه، وأشهرت إفلاسه!! فقد ضمن والد كرنيليوس أحد أصدقائه في مبلغ كبير من المال، ولكن هذا الصديق غدر بصديقه، وتهرب من السداد فاضطر المدين إلى مطالبة الضامن بالمال، فلم يجد الأب مفراً من بيع أملاكه وصيدليته ودفع كل مدخراته مقابل هذا الدَّين، صوناً لشرفه ووفاءً لدَّين صديق خان كل معاني الصداقة. وبسبب هذا الموقف لم يستطع الوالد أن يُكمل تعليم أبنائه في مدارسهم، فأخرجهم الواحد تلو الآخر، حتى يشق كل واحد منهم طريقه بأظافره إذا أراد أن يعيش، وأن يُكمل دراسته.

لم يستسلم كرنيليوس أمام هذا الخطب الرهيب، ولم يتوقف يوماً واحداً عن العلم والتعلم، فكان يستعير الكتب المتنوعة من أصدقائه ومعارفه وجيرانه، وكان يحضر حلقات العلم والدرس ليتعلم بالسماع. وكان من جيرانه طبيب طالما راقب كرنيليوس وأعجب بإصراره على العلم، فدعاه ذات مرة إلى بيته وعرض عليه الاستفادة من مكتبته الطبية، فأخذ كرنيليوس يتردد على هذا الطبيب ينهل من مكتبته العلم والعلوم على اختلاف صنوفهما، وبالأخص كتب علم الحيوان والكيمياء. ومن خلال عصاميته العلمية، وقبل أن يتم عقده الثاني، وصل كرنيليوس من العلم مكانة جيدة، أهلته إلى أن يلقي الخطب العلمية في الكيمياء على بعض المهتمين بهذا العلم، فلقب بالخطيب الكيميائي. وبمرور الوقت تدخل والده في حياته العلمية، فعلمه الطب على أصوله، بعد أن تأكد من امتلاكه لناصية علم الصيدلة نظرياً وعملياً.

وبدأ اسم كرنيليوس ينتشر بين أهل بلدته كطبيب بدون شهادة، فخشى بعض ذوي الفضل والإحسان على هذا النابغة من اليأس والإحباط بسبب هذا الأمر، فجمعوا له المال اللازم، وأدخلوه مدرسة سبرنكفيلد ثم مدرسة جفرسن في فيلادلفيا التي نال منها شهادة الطب مع لقب دكتور. فعمل كرنيليوس جاهداً لرد الجميل لكل من عاونه على إتمام دراسته، فسخر جهده ووقته لتطبيب المرضى من أهل قريته والقرى المجاورة، وأصبح اسمه لامعاً وفي مقدمة أمهر الأطباء. فتم اختياره من قبل مجمع المرسلين الأميريكان، ليكون مرسلاً وطبيباً لبلاد الشام، وكان عمره في ذلك الوقت لم يتجاوز السنة الأولى بعد عقده الثاني!!

في بيروت عشق العربية

سافر كرنيليوس من بوسطن بأميريكا على ظهر سفينة شحن مع مجموعة من المرسلين الأميريكان، ووصل إلى بيروت يوم 2/4/1840، ومكث أربعين يوماً في الحجر الصحي، حفظ خلالها بعض الكلمات والجمل العربية، وبعد خروجه، قضى في بيروت أياماً قليلة، ثم انتقل عن طريق حلب إلى القدس ومارس الطب هناك، حيث عالج العديد من أفراد عائلات المرسلين، وتعلم مباديء اللغة العربية على يد ميخائيل عرمان، وظل بالقدس تسعة أشهر، ثم عاد مرة أخرى إلى بيروت حيث تعلم اللغة العربية على يد علمائها أمثال إلياس فواز البيروتي، وأبي بشارة طنوس الحداد الكفرشيمي، والعلامة بطرس البستاني - الذي أقام معه في غرفة واحدة سنوات طويلة - وأخيراً أتقن علوم العربية وآدابها على يد ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير. فأصبح كرنيليوس من علماء العربية وآدابها، حافظاً للأشعار والمفردات والمعاني والأمثال الفصيحة، ففاق كل أقرانه من الأجانب ممن تعلموا العربية من قبله. هذا بالإضافة إلى تعلمه اللغتين العبرية والسريانية، وكان يرتدي الملابس الشرقية دائماً، ويتمسك بالعادات والتقاليد العربية الشرقية، كما أنه كان يُدخن النارجيلة الشامية.

وفي عام 1842 تزوج كرنيليوس بالآنسة جوليا ابنة قنصل إنجلترا في بيروت المستر بطرس آبت. وبعد فترة قصيرة انتقل إلى قرية عُبيّة فأنشأ - بمساعدة صديقه بطرس البستاني - مدرستها الشهيرة عام 1843، وأصرّ على أن يكون التعليم فيها باللغة العربية. ومن أجل هذه الغاية قام بتأليف مجموعة كبيرة من الكتب المدرسية باللغة العربية، وقام بنشرها وتدريسها لطلاب مدرسته. ومن هذه الكتب: الجغرافية والجبر والهندسة واللوغريتمات والمثلثات والطبيعيات. وظل يعمل في التدريس والتأليف لهذه المدرسة طوال أربع سنوات، وعندما اطمأن على ثبات سياسة التدريس باللغة العربية فيها، عهد بمدرسته الأولى إلى صديقه سمعان كهلون، لينتقل هو إلى مجال آخر خدم فيه النصاري العرب في العالم أجمع خدمة جليلة باقية إلى يومنا هذا.

إتمام ترجمة الإنجيل إلى العربية

في هذه الفترة قرّرت الإرسالية الأميريكيّة ببيروت رسميّاً ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغة العربيّة، وعهدت بذلك إلى عالي سميث، الذي سرعان ما توفي قبل إتمام الترجمة، فتمّ تكليف فانديك بهذا المشروع. لاقى كرنيليوس الأمرين في هذه الترجمة، حيث كان يبحث عن أصول الألفاظ في لغاتها الأصلية، ومن ثم تطبيقها وترجمتها إلى الألفاظ المقابلة لها في العربية، وكان يستعين في عمله بعلماء اللغة من النصارى والمسلمين العرب والأجانب. وظل فانديك في هذا العناء حتى أتم الترجمة عام 1864، فبعثه مجمع المرسلين إلى أميريكا ليباشر طبعها، فظل في أميريكا عامين حتى أتم المهمة. ومنذ ظهور ترجمة الإنجيل بالعربية عام 1866، أصبحت نسخه – التي طُبعت حينئذ في خمسين ألف – النسخ المعتمدة في الكنائس الإنجيلية العربية.

عاشق الشام

حدث أثناء إقامة فانديك بأميريكا عامين – لطباعة الإنجيل بالعربية – أنه اشتغل بالتدريس في إحدى المدارس الأميريكية، وكان أسلوبه التدريسي سلساً. فعرض عليه القائمون على المدرسة البقاء فيها مقابل مبلغ مادي كبير، لم يُعط لأستاذ قبله! ولكنه اعتذر قائلاً: " لقد تركت قلبي في سورية، فلا لذة لي إلا بالعودة إليها". وفي هذه الفترة أيضاً، مرض فانديك مرضاً شديداً أوشك أن يُودي بحياته، ولكنه شُفي منه وعاد إلى الشام، وعندما سأله إسكندر العازار عن مرضه الأخير في أميريكا، قال له: " لقد خشيت جداً أن أموت بعيداً عن سورية المحبوبة".

الجامعة الأميريكية ببيروت

تُعتبر الجامعة الأميريكية ببيروت صرحاً علمياً كبيراً منذ نشأتها عام 1866. والطريف أن فكرة هذه الجامعة خرجت من بيت فانديك ببيروت عام 1863، عندما اجتمع صاحب البيت بأعضاء الإرسالية الأميريكية وبحضور قنصل أميريكا في بيروت، وخرج المجتمعون بفكرة إنشاء "الكلية السورية البروتستانتينية" في بيروت - وهو الاسم الأول للجامعة الأميريكية، قبل أن تُسمى بالجامعة الأميريكية عام 1920 - وفي عام 1866 أصبحت الفكرة حقيقة عندما افتتحت الجامعة – في أول عهدها – وكان مقرها منزل بطرس البستاني تحت إدارة دانيال بلس، وبدأت عامها الدراسي الأول بستة عشر تلميذاً، درّس لهم ناصيف اليازجي وأسعد الشدودي وفريزر الإسكتلندي وشارليه بازيه الفرنسي.

مؤسس كلية الطب بالجامعة الأميريكية

في عام 1868 تأسست بالجامعة كلية الطب، فانضم إلى أساتذتها فانديك، وطلبت الإدارة منه تحديد راتبه السنوي بنفسه - لمكانته العلمية المرموقة - فوافق على طلبهم، وسألهم عن راتب أصغر أستاذ في الجامعة، قالوا له 1500، فكتب في عقده أن راتبه هو 750، أي نصف راتب أصغر أستاذ يعمل في الجامعة! وعندما سألوه لماذا فعلت ذلك، أجابهم "إنما أفعل ذلك حُباً في خير هذه البلاد ونفعها ونفع أهلها". ثم بدأ كرنيليوس بمشاركة صديقه الدكتور يوحنا ورتبات تأسيس كلية الطب، فوضعا لها نظامها الإداري والدراسي، وقاما بالتدريس فيها، وعندما فشلت المدرسة في استقدام أستاذ لمادة الكيمياء، قام كرنيليوس بتدريسها ست سنوات، بالإضافة إلى تدريسه الباثولوجيا أي علم الأمراض، واشترى من ماله الخاص أدوات لمعمل الكيمياء، كما قام بتأليف كتاب مباديء الكيمياء كمقرر دراسي للطلاب، وطبعه على نفقته الخاصة، وأصبح هذا الكتاب - فيما بعد - من المراجع الأساسية. وفي هذه الفترة تعرضت الجامعة لأزمة مالية، عجزت بسببها عن استقدام أستاذ في علم الفلك ودفع راتبه، فقام كرنيليوس بهذا العمل طواعية وبدون أجر، فدرّس علم الفلك وألّف له كتاباً مدرسياً وطبعه على نفقته الخاصة أيضاً.

مرصد فانديك الفلكي

فكر القائمون على الجامعة الأميريكية ببيروت - في سنوات نشأتها الأولى - في بناء مرصد فلكي خاص بها، فاستشاروا فانديك في الأمر - باعتباره أحد أعلام الفلك - فحدد لهم رابية مرتفعة في الحرم الجامعي مكاناً مناسباً لبنائه. ولكن المشروع توقف بسبب عجز الجامعة عن شراء الأدوات اللازمة بهذا المرصد، فقام فانديك بشرائها من ماله الخاص، خصوصاً منظار المرصد الرئيسي وساعته الفلكية، بالإضافة إلى تأثيثه وفرشه، ومن هنا أُشتهر هذا المرصد باسم مرصد فانديك لسنوات طويلة، رغم أن اسمه الرسمي كان المرصد السوري. وظل فانديك يدير هذا المرصد ويحرر نشرته الأسبوعية، منذ نشأته وحتى عام 1893. وكان المرصد مخصصاً برصد وتسجيل الطقس والزمن وحركة الكواكب وهزات الزلازل وإرشاد السفن، وتبادل المعلومات مع المراصد العالمية في أوروبا وأميريكا.

عاشق العربية

أبان جرجي زيدان في مذكراته، أنه تتلمذ على يد فانديك عندما كان يدرس الطب في الجامعة الأميريكية ببيروت عام 1881، وأن فانديك كان أشهر الأساتذة وأحبهم إلى قلوب الطلبة والأهالي، وذلك لبراعته في التدريس. وأنه بلغ من الشهرة والمكانة درجة، جعلت عامة المواطنين يعتقدون أنه صاحب الجامعة، فأطلقوا عليها جامعة فنديك. هكذا كانت مكانة فانديك في الجامعة، وهكذا كان رأي الناس. ولكن في عام 1882 قررت إدارة الجامعة في أميريكا جعل اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس، بدلاً من اللغة العربية في الجامعة الأميريكية ببيروت، فاعترض فانديك ودافع عن اللغة العربية باعتبارها اللغة الأنسب في التعليم دفاعاً مستميتاً دون جدوى، فقدم استقالته قائلاً: "إنني ما نزلت أرض الشام إلا لأخدم العرب بتدريس العلوم بلغتهم". وهكذا خرج فانديك من الجامعة الأميريكية التي شارك في تأسيسها دفاعاً عن اللغة العربية.

خدماته لأهل الشام

لم تتوقف خدمات فانديك لأهل الشام – بخروجه من الجامعة – بل تولى إدارة المطبعة الأميريكية ببيروت، وانتقى لها الكتب العربية المهمة والمفيدة، وكان يباشر طباعتها بنفسه. كذلك أسس وشارك في عضوية أغلب الجمعيات العلمية والأدبية، مثل الجمعية السورية وجمعية شمس البر والمجمع العلمي الشرقي، ورئاسته الشرفية لجمعية الفنون الطبية في دمشق. وكان يخطب في احتفالاتها، وينشر المقالات الأدبية والعلمية في الكثير من المجلات، ولا سيما مجلة المقتطف التي اقترح اسمها على تلميذيه يعقوب صروف وفارس نمر، مؤسسا المجلة. وأيضاً عمل فانديك طبيباً في المستشفى البروسياني، ومستشفى القديس جاورجيوس، ومستشفى ماري جرجس لطائفة الروم الأرتوذكس، التي بنى بها قاعة للمرضى من ماله الخاص عام 1888.

أما خدماته العلمية، فأكبر دليل عليها مؤلفاته وترجماته العربية المنشورة، ومنها: كتاب محيط الدائرة في العروض والقوافي 1857، أصول الكيمياء 1869، الأنساب ومساحة المثلثات 1873، أصول التشخيص الطبيعي 1874، أصول الهيئة في علم الفلك 1874، الأصول الهندسية 1875، الروضة الزهرية في الأصول الجبرية 1877، أصول الباثولوجيا الداخلية 1878، ترجمة كتاب تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر 1878، ترجمة كتاب سر النجاح 1880، السهم الطيار والفخ القرار لترقية الكروم من الثعالب الصغار 1882، في أصول المنطق 1886، إرواء الظماء في محاسن القبة الزرقاء 1888، رواية بزوغ النور على ابن حور 1896، المرآة الوضيَّة في الكرة الأرضية، النقش في الحجر، وهو ثمانية أجزاء في مباديء العلوم المدرسية.

اليوبيل الذهبي

وافق عام 1890 مرور خمسين سنة على قدوم فانديك إلى الشام، فأراد أهلها - وأهل الأمة العربية جمعاء على اختلاف مذاهبهم - الاحتفال به ردّاً لبعض جميله عليهم، خصوصاً بعد أن منحه السلطان العثماني النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة. فتشكلت لهذه المناسبة لجنة في الشام برئاسة إسبر شقير، وفي مصر برئاسة الشيخ محمد عبده، واستطاع محبو فانديك جمع مبلغ كبير من المال، أرادوا به شراء هدية تليق به، فاقترح عليهم والي بيروت إعطاء المال لفانديك، يتصرف فيه كما يشاء، شريطة ألا ينفقه على أعمال الخير كما هي عادته. وفي يوم الاحتفال بمنزل فانديك ألقى إسبر شقير خطبة، أبان فيها كيف أصبح فانديك شرقياً بفضل خدماته الجليلة لأهل الشام في التدريس وبناء المدارس وتأليف الكتب العربية وإنشاء وتأسيس صروح العلم والأدب وتطبيبه للمرضى .. إلخ. فرد فانديك عليه بخطبة، أهم ما جاء فيه قوله: "أشهد أمام الله والناس إني أقمت بين أهل الشرق بكل نية صافية، ولم أقصد غير نفع جيلي وترقيته وتخفيف الأثقال على قدر الاستطاعة، وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء".

ترانيم عربية وتأبين صامت

ظل فانديك يمارس عمله وعلمه دون انقطاع عن عمل الخير، حتى أصيب بحمى التيفوئيد التي لازمته أياماً معدودة، فشعر بدنو أجله وامتنع عن الطعام، فزاره صديقه يوحنا ورتبات ونصحه بتناول الطعام لتقويته على المرض، فقال له: "شبعت من الحياة، فلا حاجة لي بعد إلى غذاء، فإذا كانت بقيت عليّ خدمة لسورية فتممها أنت عني". كما أوصاه وأوصى أهل بيته، بأن يُدفن في صمت تام بأرض الشام، دون أن يؤبنه أحد ولا يرثيه شاعر ولا يخطب على قبره خطيب، وأن تُتلى على جثمانه الصلوات في الكنيسة باللغة العربية!! وكان له ما أراد. فبعد أيام قليلة فارق فانديك الحياة يوم 13/11/1895 عن سبعة وسبعين سنة، فدفن حسب وصيته في صمت مطبق بالمقبرة الأميريكية ببيروت، بعد أن تُليت الصلاة على جثمانة باللغة العربية في الكنيسة الإنجيلية.

ولكن أهل الشام - رغم احترامهم لوصية كرنيليوس في دفنه دون احتفال أو تأبين أو رثاء - عملوا على تخليد ذكراه بطريقة أخرى، حيث جمعوا المال اللازم لصنع تمثال نصفي له، نصبوه في احتفال ضخم عام 1899، في قاعة مستشفى ماري جرجس لطائفة الروم الأرتوذكس ببيروت، تلك القاعة التي بناها فانديك على نفقته الخاصة. أما الجامعة الأميريكية، فلم تفكر في تكريمه حياً، وإنما فكرت في تخليد ذكراه بعد وفاته بستة وثلاثين سنة، عندما أطلقت اسم فانديك على إحدى قاعاتها عام 1931، والتي مازالت تحمل اسمه حتى اليوم.

أما الشعراء فلم ينسوه وخلدوا اسمه في قصائدهم، أمثال جميل صدقي الزهاوي الذي قال:

اسفاً عَلَى العلمِ الـــــــــــذي        في التربِ قد أضحى دفينا

فانديك ذاك العالم الــــــــــــــــ        نحرير قد ذاق المنونـــــــــــــــا

ذاك الذي وقف الحيـــــــــــا        ةَ لأجل أن يهدي ذوينـــــــــا

لولا مساعيهِ لنشـــــــــــــــــــــ        رِ العلمِ كنَّا جاهلينــــــــــــــــا

لولا التآليــــــــــــــــــــــــفُ التي        أبدى بها الحقَّ المبيــــــــــنـــا

وأباد في تصنيفهـــــــــــــــــــــا        من عمرهِ الشطرَ الثمينــــــــا

لرأيتنا دون الأنــــــــــــــــــــــــا        مِ جميعهم متأخرينـــــــــــــــــــا

يا موت إنك قد هدمـــــــــــ        تَ من العُلى ركناً ركينـــــــا

لهفي عليهِ فإنــــــــــــــــــــــــهُ        رقَّى بهمَّتهِ بنينـــــــــــــــــــــــــا

ترك البلادَ بــــــــــــــــــــــــلادَهُ        وأتى يذيعُ العلمَ فينـــــــــــــــا

خدم العلومَ وكـــــــــــــــان في        خدماتهِ برّاً أمينـــــــــــــــــــــا

ذاك الذي اتخذ الفضيــــــــــ        لةَ مذهباً والعلمَ دينـــــــــــــا

بكت النصارى واليهـــــــــــو        دُ لموتهِ والمسلمونــــــــــــــــــــا

المصدر: ندوة عامة بعنوان (كرنيليوس فانديك Cornelis van Dyck أميريكي عشق الشام) – ألقيت بقاعة المؤتمرات بكلية التربية جامعة قطر يوم الأربعاء 24/1/2007. ونُشرت تحت عنوان: كرنيليوس فانديك أمريكي عشق الشام – مجلة البحرين الثقافية – عدد 51 – يناير 2008 – ص(80 - 86).
sayed-esmail

مع تحياتي ... أ.د/ سيد علي إسماعيل

ساحة النقاش

أ.د سيد علي إسماعيل

sayed-esmail
أستاذ المسرح العربي بقسم اللغة العربية - كلية الآداب جامعة حلوان »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

757,215